التَّعليلة
سينطفئُ البيتُ يا هند...
منذ أيام تردِّدُ جدَّتي هذه المقولة، لم يبقَ سوى يومين فقط، وسأغادرُ بيتَ أبي عروسًا.
لقد أتممنا كلَّ شيء، لذلك تحتضنني جدَّتي كثيرًا كلَّما رأتني، وكذلك شقيقتي، هما تعوّضان غياب أمي التي فارقت الحياة حينما كنتُ طفلةً لا أعي شيئًا، أكثرُ ما يحزنني أنني سوف أتركهما، إلا أن انعدام رغبة شقيقتي الكُبرى في الزواج كانت تطمئنني بعض الشيء، هناك من سيرعى جدَّتي وأبي.
أمعنُ النظر كثيرًا في أرجاء البيت، سأشتاق إلى كلِّ التفاصيل التي اعتدتُها: صوت جدّتي، سُعال أبي الصباحي، مزاح شقيقتي، الهدوء الذي يكسو البيت، تحديدًا غرفتي، كُنتُ أتصنَّعُ السعادةَ، لكنَّ خوفًا بداخلي كان يكبرُ، دونَ أن أدري له سببًا.
انتبهتُ إلى صوتِ طرقٍ خفيفٍ على باب غرفتي، مشيتُ نحو الباب؛ كي أفتحَ، لقد كانت شقيقتي تطلبُ منّي ارتداءَ ثيابي؛ لنخرجَ معًا إلى عطّار القرية.
لقد حذَّرتنا جدّتي من أن نتركَ مهمة شراء لوازم ليلة الحنّة لأحد، إنّها عادة جزائرية، وبخاصة هنا في أدرار، لم أسأل عن سبب ذلك، لكن دائمًا الجدّات لهنَّ أسبابهن، التي سنجدها مقنعةً إلى درجةٍ كبيرة.
ارتديتُ ثيابي ثم خرجتُ برفقةِ شقيقتي، في محلِّ العطارة وقفتُ، بينما كانت شقيقتي تفعل كل شيء، لم أشاركها شيئًا، فقد وقعتُ فريسةً لذلك الخوف الذي بدأ يلتهمني من الداخل، حاولتُ كبحَ مخاوفي لكنّي فشلتُ، إلا أنني لم أستطع أن أبوحَ بشيء، إنَّ مجرد إظهاري لذلك الخوف سوفَ يُفسد فرحةَ الآخرين.
ما أن انتهت شقيقتي من شراء ما يلزم ليلة غد، حتى غادرنا محلَّ العِطارة عائدتين إلى البيت، لقد أصبحَ الليلُ قاب قوسين أو أدنى، وما إن وصلنا حتى تركتُ ما كنتُ أحمله أمام جدَّتي ثم دخلت إلى غرفتي، أغلقتُ البابَ خلفي، ثمَّ جلستُ على سريري الذي سأغادره بعد يومين.
إنَّ الخوفَ يكبرُ، ولم أكن أدري هل هو الخوف من حياةٍ مُبهمة قادمة، أم خوفٌ من شيء مجهول سوفَ يقعُ قريبًا.
ثمَّ أخذني النوم فوجدتُ نفسي أركضُ حافيةً في صحراء مُوحشة، بينما تُدمي أقدامي أشواكٌ متناثرة قد حلَّت محلَّ الرمال، أشعرُ بثقوبٍ في أقدامي تقطرُ دمًا، وما منعني من التَّوقّفِ عن الركضِ هي تلكَ الأنفاسُ التي كانت تُلاحقني، كانت تُشبهُ الفَحيحَ، حتّى أنّني خشيتُ أن أنظر خلفي، كان هاتف في خاطري يخبرني أن الركضَ فوقَ الشوكِ أهونُ بكثيرٍ من الذي ينتظرني إذا نظرتُ لمصدرِ تلك الأنفاسِ من خلفي.
رنَّت زغرودةٌ على إثرها قمتُ من نومي، كانت قدماي تؤلماني بشدّةٍ، حتى أنني لم أقدر على الوقوفِ لمّا وضعتهما فوق الأرض، تذكرتُ الكابوس الذي خرجتُ منه للتو، حينها تضاعفَ الخوفُ الذي بداخلي، ثم تبدَّل خوفي إلى رعبٍ لمّا رأيتُ أقدامي تقطرُ دَمًا!
هل ذهبتُ إلى ذلك المكان الذي رأيتُ فيه الكابوسَ، ثم حدثَ ما حدثَ بالفعل؟!
حتى الآن لا أريد أن أفسدَ الأمرَ، لقد أزلتُ الدماء من فوقِ الأرض وعن أقدامي، بعد أن نظرت إلى تلك الجروح التي توقّفت عن النزيف للتو، ثم طُرقَ بابُ غرفتي ففتحتُ، استقبلتُ جدَّتي بوجهٍ بشوشٍ بعد أن جاهدتُ؛ كي أدفنَ ملامحَ الخوفِ التي كانت تحتلُ وجهي منذ وقتٍ قريب، لقد قبّلتني في جبيني وهي تقول:
– بعضٌ من بنات الجيران هنا، يردن أن يباركن لعروسنا.
طلبتُ من جدّتي أن تمهلني بعض الوقتِ؛ لأكونَ مستعدةً للخروج، ثم ارتديتُ ملابس مناسبة، لمّا خرجتُ كانت شقيقتي تجلسُ برفقتهن، لقد أطلقنَ الزغاريدَ بمجرد أن رأوني، ولا أدري لماذا أصابتني ارتعاشةٌ جاهدتُ في إخفائها بمجرد أن سمعت الزغاريد!
جلستُ بجوار شقيقتي بعد أن تبادلتُ التحايا مع بنات الجيران، ثم لاحظتُ اختفاءَ مستلزمات ليلة الحنّة؛ فهمستُ في أذن شقيقتي:
– أين المستلزمات التي قمنا بشرائها؟
همست في أذني، وهي تضغط بقدمها فوق قدمي:
– لا يجوز أن يرى أحدٌ مستلزمات ليلة الحنّة، هكذا تقول جدّتنا.
حاولتُ أن أنحّي مخاوفي جانباً حينما بدأت إحداهنَّ في الغناء بكلمات التَّعليلة...
"ارياس ارياس.. عروسة ارياس.. مسعودة ارياس.. الفرحة والسرور ارياس.. الفرحة والكمال ارياس.. عمرها بالمال ارياس.. والصبيان ارياس..."
مرَّ وقتٌ طويلٌ قبل أن يغادرن، ثم أحضرت جدَّتي مستلزمات ليلة الحنّة، لقد بدأت في خلط مسحوق الحنّاء بماء الورد، بعدها وضعت الخليط في إناء كبير، ثم طلبت من شقيقتي أن تخفيه داخل الغرفة المخصصة لها وتغلق الباب بالمفتاح.
لماذا كل هذا الحرص على الحنّاء؟!
لم أتردد في سؤال جدتي عن سر هذا الحرص، لذلك أخبرتني:
– ربما ينقلب العُرس مأتمًا إذا سقطت الحنّاء في يد من لا يريد لكِ الخير يا صغيرتي!
لماذا كل شيء من حولي يشعرني بالخوف؟ هل هناك ما تخفيه جدّتي عني؟!
جلستُ صامتةً في غرفتي، وكأنّي في معزلٍ عن كل ما يحدث من حولي، لازالت أحداث الكابوس تنشب مخالب الخوف في صدري، لو ينتهي هذا الأمر لاستراح قلبي.
شعرتُ بثقل رأسي، تمددتُ فوق سريري بعد أن أطفأت نور الغرفة، غفوتُ بعد برهة من الوقت، في هذه المرّة كُنتُ أركضُ أيضًا، لكن ركضي لم يكن في صحراء كما حدثَ في كابوسي الماضي، لقد كنتُ أركضُ داخل منزلٍ غريب، كنتُ أبحثُ عن بابٍ؛ لأهرب منه، لكن كما بدا لي في ذلك الكابوس أن المنزلَ بلا أبواب ونوافذ، إضاءة شاحبة تغمر المكان من حولي، تُشبهُ إضاءةَ النّيران، وكنتُ كُلّما اقتربتُ من حائطٍ؛ كي أبحث فيه عن منفذٍ للهروب رأيتُ وجهًا يخرجُ من الحائط؛ ليصرخَ في وجهي صرخةً تُشبهُ الفحيح؛ لأتراجع خائفةً وأسقطُ على ظهري في كل مرة.
حاولتُ تهدئة أنفاسي المتلاحقة، بحثتُ في أرجاءِ البيت حتى وجدتُ سُلَّمًا ينحدرُ لأسفل، قُلت في نفسي إنه لا خوف أكثر مما أنا فيه؛ لذلك نزلت درجات السُّلمِ التي كانت تغمرها العتمة كلما اقتربتُ من الأسفل، لقد بدا الأمر أنني أقتربُ من سردابٍ أسفل البيت.
لمّا دخلت إلى السرداب سمعتُ همسًا، لكنه لم يكن غريبًا، لقد سمعته من قبل!
تدريجيًّا أخذ الهمس يتَّضح، حتّى سمعتُ صوت الفتيات اللواتي كُنَّ يجلسنَ في بيتنا يغنين التَّعليلة، ما الذي جاء بهنَّ إلى هنا؟!
ولم يكن الهمس هو من اتَّضح فقط، لقد أخذت صورتهنَّ تتضح أيضًا، لقد أرعبتني هيئتهن، كانت العروق والأوردة الزرقاء تنتشر في وجوههن، وكانت أعينهنَّ بيضاء لامعة! ما كان أكثر رعبًا هو أن أجسادهنَّ كانت كأجسادِ الأفاعي!
لمّا رأيتُ ما رأيتُ ركضتُ هاربةً من ذلك السرداب الموحش، ولكنّي تفاجأت أنَّ الباب الذي دخلتُ منه للتو قد اختفى!
أنفاسٌ تلهثُ من حولي وفحيحٌ، نظرتُ خلفي في ذلك الظلام والخوف يُكبّلني، كانت وجوههنَّ قريبة منّي، وكانت أعينهنَّ أكثر بياضًا ورعبًا!
لم يكن هناك مهربٌ، ظللتُ أركضُ في الظلام بينما وجوههنَّ تتبعني، حتى اصطدمتُ بشيءٍ خشبيٍّ أسقطني أرضًا، ثم أخذَ الوعيُّ يغادرني شيئًا فشيئًا، وكانت وجوههنَّ هي الأخرى تشحبُ في عيني، حتّى اختفت من أمامي، ولم أعد أشعر بشيء من حولي.
يدٌّ تجرُّني من قدمي، انخلعَ قلبي من صدري، استيقظتُ فوجدتني أصدرُ شهيقًا يشقُّ حلقي، لازلتُ أشعرُ بأصابع تلتفُ حول ساقي، جاهدتُ كي أفتحَ عيني، كانت الرؤية مشوّشةً أمامي، أرى خيالًا باهتًا يتحركُ خلف الغمامةِ التي تقفُ أمام عيني، رأسٌ سوداءَ تفتقدُ إلى تضاريسها، لا ملامحَ فيها، ثمَّ انقشعتِ الغمامةُ بينما لم يغبِ ذلك الخيال الأسود، أدركتُ أنَّ المكان من حولي قد تغيّر، رغم أني لم أتزحزح قيدَ أنملةٍ عن سريري، أشعرُ وكأنّي داخل كهفٍ مُخيف، جدرانٌ صخريّة تحيطُ بي، بينما أنتبه إلى نقطتين حمراوين أضاءتا فجأةً، نظرتُ فإذا بهما عينا ذلك الخيال الأسود، لا أعرف أين كانتا، ولا كيف ظهرتا!
أنا في كهفٍ يبثُّ الخوفَ في أركاني، أسمعُ فحيحًا كفحيحِ الأفاعي، لقد اختفى الخيالُ الأسودُ، لا أعرفُ أينَ أنا، آخرُ ما أذكرهُ أنّي غفوتُ في غرفتي؛ ولكني استيقظتُ هنا، نظرتُ حولي فإذا بي وحدي، حتّى سريري الذي قمتُ من فوقِه للتو قد اختفى، فكَّرتُ بالرَّكضِ لكني لا أعرفُ صوبَ أي اتجاهٍ سوفَ أركضُ، أسمعُ صوتَ الفحيح يقتربُ، دفعني خوفي إلى الركضِ بأقدامٍ واهنةٍ فتعثَّرتُ، سقطتُ أرضًا فاصطدَمَ وجهي بجزءٍ من صخرةٍ تعلو قليلًا عن رمالِ الكهف، أظلمَ المكان من حولي، ولمّا أفقتُ كان خيطُ دماءٍ يسيلُ من فمي، أسندتُ جسدي إلى ذراعيَّ المثبّتين في الأرض؛ كي أنهضَ، لكنّي تفاجأتُ بجسدِ أفعى ينتصبُ أمامي، أسقطتني الخوفُ أرضًا مرَّةً أخرى، عاد الفحيحُ يرنُّ من حولي، ثمَّ أتبعه صوتٌ غليظٌ يقول:
– فلتنهض عروسُنا.
لقد تآكلت أعصابي، قاومتُ خوفي ثمَّ نهضتُ، كان جسدي بثقلِ جبلٍ فوقَ أقدامي، وقفتُ فإذا بجسدِ الأفعى المنتصبِ يتجاوزُ قامتي، نظرتُ لأعلى، فإذا برأسِ امرأةٍ خارقةِ الجَمالِ تعلو جسدَ الأفعى، لها عينانِ بؤبؤهما شديدُ السّوادِ، بشرتُها شاحبةُ البياضِ قليًلًا، ابتلعتُ ما وقفَ من ريقٍ في حلقي وقلتُ:
– من أنتِ؟
أصدرت ضحكةً لم أستطع التفريقَ بينها وبين الفحيحِ، ثم قالت:
– أنا أمُّ العريس!
خارت قوايَ فسقطتُ أرضًا دون أن أشعرَ بجسدي، لكنّي أسمعُ كلمات التَّعليلةَ تتردَّدُ بقوّة داخل ذلك الكهف، لكنَّها تلكَ المرةِ كانت بصوتٍ آخر، لمّا جاهدتُ في فتحِ عيني؛ كي أرى من حولي، رأيتُ إناثًا لهنَّ أجسادُ الأفاعي، هنَّ من كُنَّ يردّدنَ التَّعليلة، ثمَّ غامتِ الدُّنيا من حولي بمجرّد أن رأيتُ ما رأيت.
– استيقظي يا هِندُ!
من الذي أتى بجدَّتي إلى الكهف؟!
كان ذلكَ صوتها، لمّا فتحتُ عيني نظرتُ حولي فوجدتني أتمدَّدُ فوقَ سريري، أنا لم أغادر غرفتي، لكنّي لا أعرفُ كيفَ أرى كل ذلك، إن الكوابيسَ تطاردني كلّما غفوتُ، أمسكتُ بيدِ جدَّتي وقلتُ:
– أنا لا أريدُ هذهِ الزّيجة!
لم أرَ ملامحَ جدّتي بهذا العبوسِ من قبل، وربما كُنت أعي ما أثارَته كلماتي بداخلها، إنَّ أدرارَ بكاملها قد أُخطِرَت بهذه الزّيجة، فكيفَ سيكونُ وجهُ أبي إذا أنهيتُ كلَّ شيء في اللحظاتِ الأخيرة، لذلكَ قالَت جدّتي:
– تعلمينَ أنَّ اليومَ هو صباحُ يومِ الحِنّاء.
لا أعرفُ كيفَ أخذني النومُ كل هذه الفترةِ، ولكني قلتُ:
– أعلمُ.
– هل تخافينَ شيئًا؟!
وكأنّي فطنتُ إلى ما ترمي إليه، فقلتُ نافيةً ما دارَ برأسِها:
– أنا لا أخافُ شيئًا، ولكنَّ الكوابيسَ التي تطاردني منذُ يومين تُخيفني.
ربتت على كتفي، ثمَّ قالت:
– أنتِ على أعتابِ حياةٍ جديدة، هذا أمرٌ طبيعيٌّ أن يصيبَكِ بعضُ التَّوتر.
نهضتُ ولم أجد منفذًا أجادلُ من خلاله، لمّا خرجتُ من غرفتي رأيتهم قد أتمّوا كل شيء، لقد تم ترتيبُ البيت، تجهيز الحنّاء، استقبلتني أختي بزغرودةٍ ارتعدَ جسدي على إثرها، لا أعرفُ لماذا تذكّرتُ حينها ذلك الفحيحَ الذي سمعته في كابوسي.
وقفتُ أمامَ مرآةٍ في صالةِ البيت أتأملُ وجهي، لمّا مددتُ يدي إلى فمي شعرتُ بوخزةٍ، فتَّشتُ في شفتي فإذا بجرحٍ صغير، كان في نفسِ الموضعِ الذي يسيلُ منه خيطُ الدَّمِ في الكابوس!
لم يكُن هناكَ مُتَّسعٌ للتفكير أو الخوف، لقد طالبتني جدَّتي أن أتهيّأ، إنَّ الحفلَ سيبدأ قبلَ المغرب.
كان كل ما أفعلهُ ثقيلًا على قلبي، ليتني لم أولد في قريةٍ كهذه، هنا لا ترى العروسُ عريسها سوى مرّةٍ واحدة في بدايةِ الأمر، ثم المرّة التي تليها في ليلةِ الزّفاف، أنا بالكادِ لا أعرفُ عنه شيئًا سوى أن اسمه جبريل، لكنّها عاداتُ أدرار.
تهيّأتُ، ثمَّ جلستُ بجوارِ جدّتي وأختي، كانا يضعانِ الحنّاء في يدي وقدميَّ، وما إن انتهيا قالت جدَّتي لأختي:
– أدخلي ما تبقّى من الحنّاء داخل غرفتِكِ، ثمَّ أغلقيها بالمفتاح!
قلتُ مندهشةً من كل ذلك الحرص:
– لمَ كُل ذلكَ الخوفُ على الحنّاء!
ابتسمت جدَّتي فقالت:
– ليسَ خوفًا عليها بل عليكِ، ربما هناكَ من يريدُ إفسادَ الزّيجة، لو نالَ من الحناءِ شيئًا ربما يعقدُكِ بعملٍ سُفليٍّ يدمُّرُ حياتَكِ، أنتِ لا تعرفينَ شيئًا عن سِحر الحنّاء.
كيفَ أجادلُ جدَّتي في أفكارها؟ أصابني الرَّعبُ، زيجةٌ محفوفةٌ بالكوابيسِ وبحرصِ جدّتي التي تشعرُ أنَّ شخصًا يتربصُ بي؛ ليعقدَ لي سِحرًا على حِنّاء زيجتي!
قرَّرتُ أن أتجاهلَ ما أرى وأسمعُ، لقد مرَّ كل شيء بسلام: ليلةُ الحنّاء، غناءُ التعليلةِ الذي باتَ يُخيفُني، وها أنا أتهيّأُ لزفافي، أرى جبريل للمرةِ الثانية منذ أن تمَّت الخِطبة، وها هو أبي يُمسكني من يدي؛ ليسلّمني إليه، أتممنا الحفلَ، وها أنا أغادرُ معه إلى بيته.
إنها المرةُ الأولى التي أذهبُ فيها إلى هناك، لم أكن أعرفُ الطريقَ إليه، لكننا الآنَ نسيرُ في طريقٍ جبليٍّ وعر، كان يصعدُ بنا إلى أعلى جبلٍ، ما هي إلا دقائق قليلةٌ ولاحَ بيتٌ أمامَنا، كان هو البيت الوحيدُ في ذلك المكان، وها هو جبريل يبتسم
قائلًا:
– هذا هو البيتُ يا هِندُ!
وقفنا أمامَ البيت، انطلقتِ الزّغاريدُ حتّى أزعجتني، بقينا هكذا حتى رفعَ جبريلُ يدَه فتوقَّفتِ الزَّغاريد، حينها انصرفَ المرافقون لنا وعائلتي معهم.
صوتُ بابِ البيتِ أرهبني، وما زادَ من رهبتي هو ذلكَ الظلامُ الذي كان يستشري داخل البيت، دخل جبريلٌ ثمَّ نظرَ إليَّ قائلًا:
– تفضَّلي يا هِندُ.
دخلتُ والخوفُ يعتريني، وما إن أصبحتُ داخلَ البيتِ حتّى تفاجئتُ بالبابِ يُغلقُ من تلقاءِ نفسه، وإذا بالبيتِ من الدَّاخلِ يُضيءُ بإضاءةٍ تُشبهُ وهجَ النّيران، وليته ما أضاءَ، لقد كان هو الكَهفُ الذي عانيتُ فيه الكابوسَ الآخير!
كِدتُ أصرخُ فلم يُطعني لساني، وكأنَّ أحدًا غيري هو من يتحكَّمُ به، ثمَّ بدأ صوت الفحيحُ يظهر، كان يقتربُ وكأنَّ من يُصدرهُ يقتربُ منّا، أنا لا أصدِّقُ ما أرى، لقد كانت المرأةُ التي رأيتها في كابوسي، فأخبرتني أنها أمُّ عريسي!
كانت كما رأيتها تمامًا، وجهُ امرأةٍ فائقةِ الجمالِ يعلو جسدَ أفعى!
حاولتُ الهربَ فوجدتُ أقدامي تعصى أوامري في الركضِ، خارت قواي وسقطتُ أرضًا، فقالَ جبريل:
– أعلمُ أن الأمرَ في بدايته مُخيفٌ، ولكنّي أحببتُكِ يا هِندُ مُنذ صرختِ صرختَكِ الأولى في هذه الحياةِ، لا أحدَ غيرُنا سوفَ يعلمُ بهذا الأمر، سوفَ يظلُّ سرًّا بيننا، أنتِ لا تعرفينَ كم عانيتُ حتّى وافقَت قبيلتي على الأمر، وهاهي أمّي أمامَكِ تُرحّبُ بكِ، لقد التقيتِ بها من قبل، إن الكوابيسَ التي راودَتكِ أنا من صنعتُها، كُنت أهيئ عقلَكِ لهذا الأمر.
كُنتُ أرجعُ بجسدي للوراء صوبَ بابِ البيت، بينما كان فحيحُ أمّهِ يزدادُ كُلّما ابتسَمَت، أحسستُ أن جسدي تحرَّرَ أخيرًا حينما قال جبريلُ:
– أنا أعطي جسدَكِ حرَّيتهُ الآن يا هِندُ، اسمي في عالمي المُذهَّب، وأمي زيتونة، أهلًا بكِ في عالمِكِ الجديد.
حينها تحوَّلَ ما كُنت أعرفُ أنّه جبريلُ إلى هيئةِ أمّه، لم تتغيّر ملامحه، لكن جسده هو الذي تبدَّل إلى أفعى، بينما تحوّل صوتُه إلى فحيح!
صرختُ، ثمَّ قمتُ من الأرضِ منطلقةً نحوَ بابِ البيتِ، كان فحيحهما يرنُّ بين الجدرانِ، وما إن اقتربتُ من البابِ وكادت يدي تلامسهُ حتى تحوَّلَ إلى حائطٍ صخريّ، ثمَّ أظلمَ المكانُ من حولي، ولم أشعر سوى بالفحيحِ الذي مازالَ يتردَّدُ صداه، هنا عرفتُ أني وقعتُ أسيرةً في عالمٍ آخر، لم يكن لي أن أغادره إلا بأمرٍ من المُذهَّب، أو ما كنتُ أعرفُ من قبلُ أنّه جبريل!