الحالة الثقافية في الوطن العربي لا تسر
في لقاء صريح ومفعم بالحيوية فتح لنا القاص والإعلامي السعودي جعفر الجشي قلبه، متحدثاً عن الحالة الثقافية التي وصل إليها الوطن العربي. موضحاً بأنه ضد خداع القارئ، وضد الاختباء وإنكار المشكل الاجتماعي بالتحديد، ويؤيد الحديث عن المحظور، وعن الدمامل التي لابد أن تتقيأ لكي تعالج، وهذا أيضا ما ترجمه في شخصياته القصصية التي تمتعت بلغة خاصة في مجموعته القصصية الأولى التي صدرت مؤخراً بعنوان "الجمجمة".
ولربما هندسة العنوان وجراءته وإيحاءاته المتموجة، هو الشرارة الأولى التي أشعلت فكرة إجراء هذا الحوار في بالي، فلوهلة هجمت علي الفكرة وتلبستني، وبطريقة ما وجدت نفسي، أتناول جهاز الكمبيوتر ودون استئذانٍ، كتبت داخل نافذة "المسنجر"، (مرحبا أستاذ جعفر، أدعوك لحوار...فهل...؟.) وإذا بها عملية سهله، فقد قبل الدعوة، وبدأت عملية الاستعداد للأسئلة.
وبما أن ضيفنا كل قصة من مجموعته هي قطرة مطر ربيعي، تسقط على أوراق واقعنا فترسم في مخيلتنا مدن وعوالم لا تنتهي، لن نحاول هنا تعريفه أكثر من ذلك، ستلتقي به أيها القارئ.. وتصافحه بنفسك من خلال هذا الحوار:
– دعنا، نعود بالذاكرة إلى الوراء، ما الشيء الذي عزز الاندفاعة الأولى لديك، ما الحافز الذي جعلك تكتب؟ .
– نستطيع القول أن هناك اندفاعتين كانت الأولى منذ وقت مبكر .. منذ أن كنت أدرس في الصف الثالث المتوسط، حيث القراءة الأولى للروايات البوليسية (مغامرات الأبطال الخمسة) ومن ثم كتب الشعر والأدب والتراث، ومطالعات المجلات التي تهتم بنشر الإبداعات.. إضافة إلى تعلقي بالراديو كجهاز لا يمكن مفارقته إلا وقت النوم، بل إنني أنام على صوته..
تلك كانت الاندفاعة الأولى، حيث بدأت الكتابة برسم بعض الخربشات.. خربشاتي الأولى التي لا تعرف شعرها من نثرها، ولا حرها من مقيدها
أما الاندفاعة الثانية فكانت متأخرة جداً، حيث أسست منتدى للقصة منتصف التسعينات، وسبب التأخر هو الانشغال بهموم الحياة وتحصيل الرزق، لكن ما لبثت أن عدت لتبدأ الاندفاعة من جديد قوية. أما الحافز فلا ينقص الكاتب حافز في ظل الظروف المأساوية التي تعيشها الأمة، وهذه الظروف القاسية التي تعيشها المجتمعات الإنسانية وفي ظل القهر والاستلاب الإنساني. لابد أن الكاتب هنا يتأثر بما يجري. على أني لا أحمل ولا أدعي أني أحمل قضايا كبرى.. قضيتي هو الإنسان كما هو، في شكله البسيط، ولا أدعي أنني أدافع عنه وأحمل لواءه، لكن يكفيني أن أكتب عنه، وأن أرسم شخصيته، لتظهر للمتلقي حرة بعيدة عن التزويق، لكن بالشكل الذي أراه أنا..
- من خلال كتاباتك، نرى أنك تبتعد عن المباشرة وتسير في أجواء اجتماعية إنسانية، ونلمح في تفاصيل قصصك "شجاعة الشباب" "ووعي الشيوخ"، فهل باعتقادك أن الشجاعة والوعي شكلين من أشكال السباق مع الزمن في الحياة؟.
– هاه!.. كأنك تبالغ نوعاً ما.. شجاعة الشباب يبدو أنها (فاتت علي)، وحسب تقييم نقادنا (التسعينيون والألفيون) فإن الشجاعة تعني اختراق المحظور، وتجاوز الثيمات الاجتماعية (جنس – دين- سياسة) وهذه الثيمات غالباً ليست خبزي الذي أقتات عليه. أحاول الاقتراب منها بطريقتي الخاصة. فأنا ضد الاختباء وإنكار المشكل الاجتماعي بالتحديد، وأويد الحديث عن المحظور، وعن الدمامل التي لابد أن تتقيأ لكي تعالج، لكن ليست بالطريقة التي يعالجها كتابنا الشباب من الجنسين، حيث العلاقة بين المرأة والرجل هو الموضوع الأول، وموضوع العلاقات بينهما هو الأمر الظاهر
أما وعي الشيوخ، فإنك ربما أحسنت الظن بي كثيراً فوصفتني بهذا الوصف الذي أتمنى أن أكون قريباً منه، ذلك أن وعي الشيوخ يحتاج إلى كثير من الصفات المطلوبة ربما في المقالة والدراسة. أما الرواية والقصة فتحتاج إلى الانفلات وعدم التقيد، مهما كان الإنسان بعيداً عن الوقوع في المحظور. وهنا ينبغي أن أشير إلى أن انفلاتي اشتغل كثيراً على المجال الفني. فالقصة بالنسبة لي دم يجري في شرياني منذ أن فكرت فيها.. القصة جزء مني. ومهما (تشعرنت) فأنا سارد- قاص.
- في قصصك نلحظ أن تختار شخصياتك بدقة وعناية، فهل يمكن أن تحدثني عن كيفية اقتناص أبطالك، وهل باعتقادك أن هناك تمازج بين البطل والفكرة؟، أي من يسبق من؟.
– من الذي يستطيع اختيار شخصياته. ربما في الرواية يسعى الكاتب بتفصيل مقاسات شخصياته بحرفية وبـ (المسطرة) ورقة ورقة.. لكن في القصة قد يصعب ذلك. وشخصياتي تقفز في ذهني في الوقت الذي تريد. ربما أ كون نائماً أو في سبيلي إلى النوم عندما تداهمني بعض هذه الشخوص لتوقظني من تلك الغفلة، ولا تتركني أنام إلا وقد سكبت آهاتها في أوراقي، وحالياً في شاشتي الملعونة التي أكلت من بصري بعضاً من نظري.. أما حكاية من يسبق من؟ فأتركها لمن لديه القدرة على هذه الإجابة.
– ولكن، لماذا "الجمجمة"؟.
– (الجمجمة) ياعزيزي هي مفترق الطرق في كتابتي. هي التي سكنتني حد الوجع.. آلمتني بقدر ما أسعدتني عندما كتبتها.. هي القصة التي أعطتني أسلوبي الجديد في كتابتي. فيمكنك أن تلاحظ أنها وقصة الزبانية (توأمين) فيما هناك خط آخر قد تلاحظه في نصوص أخرى مثل (طريق الملح) و(ضحكة تلتهمها)..
إذا كانت (الجمجمة) هي اسم قصة داخل المجموعة، فإنها في نفس الوقت أثيرة لدي، ولذلك ستكون اسم يلاحقني أينما ذهبت.. هل تصدق أن هناك من يسميني الآن (أبو الجماجم). ستضحك! حسناً لكن هذا هو الواقع. ستطاردني هذه الجمجمة، إلى وقت طويل. لا أتمنى أن تكون لعنة كما يحدث لكثيرين إذ يكون كتابهم الأول قوي جداً فلا يستطيعون تجاوزهم. لكن دعني أخبرك: إن كتابي القادم سيكون أفضل من الجمجمة بكثير. وقد جهزت جزء كبير منه.
- واضح أنك تفكر بنقلة جديدة، لمنطقة جديدة، ترى.. من أي نوع هي؟.
– كل ما أستطيع القول هنا عن التجربة الجديدة أنها مواصلة لما قدمته في (الجمجمة) لكن بعد أن نضج الأسلوب أكثر، واشتغلت عليه لغوياً بعد أن كنت مهموم بالفكرة أكثر.. تراني أهتم بالمحتوى.. أما الاشتغال اللغوي على الرغم من شغلي عليه، لكني الآن أكثر اهتماماً.. هناك نصوص مفاجأة (أقصد مفاجأة الوهلة الأولى) وليس على مستوى الموضوع. إذ أني ما زلت ملتزماً بخطي بعيد عن (البروباجندا) رغم أني إعلامي كما تعلم. وبعيد عن الإثارة المجانية التي لاتناسبني أبداً، ما دمت تصفني بأن لدي (وعي الشيوخ!!).
- المبدع دائماً يبدأ مشواره مرتبكاً ومتعثراً، وقد تصيبه الخيبات، بل هو أحيانا بحاجة إلى من ينتبه له ويرعاه ويشجعه ويقوي من ثقته على طريق الكتابة، فماذا الذي يمكنك أن توجزه عن ذلك؟.
– الخيبات التي صاحبتني هي في الخطوات التي اتخذتها في مسيرتي الحياتية وهي لا ترتبط كثيراً بمشروعي الكتابي، وهنا لا أتحدث عنها لأن الحوار سيتحول إلى سيرة ذاتية وهو ما لا أرغب فيه هنا. ربما بعد عدة سنوات أكتب شيئاً من ذلك.. لكني أقول لك بأني تأخرت في مشواري الكتابي كثيراً بسبب انشغالي بتحصيل رزقي وهو ما أشرت إليه سابقاً. وهذا أثر علي كثيراً.. الارتباك في تجربتي تجاوزته بسرعة إذ كنت مجرباً بشكل متواصل، ومن كان يتابعني أشاد بهذا التقدم الذي كان بوتيرة متسارعة نوعاً ما، نظراً لنضج تجربتي الحياتية نوعاً ما. وأخيراً فأنا لا أؤمن بالخيبات. لأني أنا السبب في تكوينها وأنا الذي ينبغي أن أتجاوزها. أما الخيبات الكبرى فلست منشغلاً بها كثيراً.
- تتساءل في قصتك "ظمأ الباقيات" عن أنواع الممنوعات في هذا العالم، ويبدو لي أنك تثير التساؤل لاستفزاز القارئ وتجبره على البحث عن جواب، سأعيد هنا "الكرة إلى ملعبك"، هل هناك خطوط حمراء "محرمات" تقف أمامك، وأنت تكتب؟.
– ها أنت تعود مجدداً للحديث عن الخطوط الحمراء. سأخيب ظنك هنا أيضاً ولن أقول كما تقول الفنانة التشكيلية حميدة السنان مثلاً (الخطوط الحمراء لا تعنيني) لأن هذا ليس هماً بالنسبة لي.. لقد أجبت على جزء من السؤال حين قلت (إنك تثير التساؤل لاستفزاز القارئ) بالفعل فهذا هو ما أريده بالتحديد. وأصدقك القول أنني عثرت على من أستفزه في بعض الأماسي الجميلة.. وعثرت على من يجبر كما في سؤالك على البحث عن جواب.. هذا الأمر أسعدني فعلاً إذ كنت شديد الخشية من أن ما أكتبه هو أحاجي وألغاز، وبالتالي فإن ذلك هو الذي سيصيبني بخيبة أمل كبيرة، فأنا ضد خداع القارئ.. فنحن دائماً نقول إن القارئ أذكى من الكاتب أو أنهما متساويي الذكاء. وهذا ما اكتشفته بالفعل في غير مكان، وفي عدة أجيال (شباب –كتاب – نقاد – قراء كبار...) عندما تكتشف أن هناك من يتواصل مع النص الذي تكتبه فإنك لاتحتاج إلى خطوط حمراء أو خضراء. ولا تظن أن ذلك تورية أو رمزية أو أشبه ذلك رغم أهمتيها.
- قصص "الجمجمة" جريئة وهادئة، وفي الوقت ذات تغوص في أعماق النفس، وعنوانها "يقول الكثير"، كيف بإمكانك أن تمتلك ناصية الكلمات بهذا الشكل والمضمون؟.
– سبق وأن أخبرتك بأن (الجمجمة) هي مفصل في كتابتي القصصية، والتوازن بين الشكل والمضمون هي اللعبة اللغوية التي أسعى للحفاظ عليها.. ويمكنك أن تلاحظ أنني لا أنحت المفردة كما يفعل البعض، لأنها تأتي في السياق.. كما أن شخصياتي لها لغتها الخاصة بها. ويقال في هذا السياق أن كل نص له لغته الخاصة به، فهو يولد في كثير من الأحيان جاهزاً بلغته ومفرداته، وبتكوينه اللغوي. فتجد على سبيل المثال أن بعض النصوص تكتب بطريقة القصة القصيرة جداً، فيما بعض النصوص تستعصي عليك لتتحول إلى قصيدة.. هل تدري لماذا؟ لأنك تكتب بانفتاح كامل دون أي قيود.
– من موقعك، كيف لك أن تصف لنا مستقبل الحالة الثقافية في الوطن العربي بشكل عام، والمملكة السعودية بشكل خاص؟.
– الحالة الثقافية في الوطن العربي لا تسر. لأن الثقافة تقع في آخر الأولويات سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي. فأنت تلاحظ عدم اهتمام الناس على سبيل المثال بالصفحات الثقافية. وعدم اهتمام وسائل الإعلام بالمادة الثقافية. تصور أن شخصاُ قرأ ذات يوم قصة نشرت لي في إحدى الصحف معجباً بها قائلاً: (قرأت قصيدتك، كانت جميلة!) فالمجتمع الذي لا يفرق أحد أفراده بين القصيدة والقصة هل تتوقع أن يكون لديه اهتمام بما تنتجه هذه الثقافة..
أما بالنسبة للوضع الثقافي في المملكة فهو لا يختلف كثيراً عن الوضع العربي. فقد سافرت لعدد من الدول العربية ولاحظت أن لا أحد يهتم بالثقافة لدرجة أنك لو ظللت تسأل عشرات الأشخاص عن موقع (النادي الأدبي أو جمعية الثقافة) أو أي مؤسسة ثقافية أخرى، فإنك على الأرجح لن تعثر على جواب، نستثني من ذلك السينما باعتبارها وسيلة فرجة لا منتجاً ثقافياً. لكنك لو سألت عن مطعم أو فندق أو محلاً للتسوق، فإنك ستحصل على جواب فوري. وهذا الأمر حدث معي في أكثر من دولة
وعلى الرغم من هذا التشاؤم لكن هناك تغييرات جديدة طرأت على الساحة الثقافية في المملكة، في ظل وجود وزير يصفه الجميع بالوزير المثقف هو إياد مدني. هذا الذي يسعى وبشكل جدي لإحداث نقلة في المؤسسات الثقافية التي ظلت ترزح أكثر من عقدين من الزمن تحت سيطرة أشخاص بعيدين كل البعد عن الثقافة في وجهها الشمولي. أحدث تغييرات بعضها على مستوى الشكل وبعضها على مستوى المضمون.
لكن المشوار ما زال في بدايته، فهناك الكثير من سلبيات الماضي، والتركة ثقيلة لدرجة أن تجاوزها صعب للغاية. لكن أملنا يظل في أن تسير هذه الخطوات بشكل وئيد ولانريده سريعاً لآن من ميزات السرعة التعثر والكبو السريع أيضاً.. نريد تغييراً صحيحاً وجاداً وليس شكلياً فقط. وهو الأمر الذي يتطلب سنوات ربما تكون طويلة.
- متى تتوقف عن الكتابة يا جعفر؟.
– ربما بعد أن أموت.. ربما..لا أتصور نفسي حتى عندما أتقاعد.. سأظل أكتب ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.!