اندحار الذاكرة
تحذير رسمي من وزارة الصحة: هذه القصة للقراء القاطنين فقط في المناطق الوسطى بين العقل والجنون.
شريط سينمائي يمر في مخيلته، المرأة، الوطن، ثم يفكر بالانتحار...
هناك جنون في العقل، وعقل في الجنون....مولَع بالجمل الغربية، بالحكايات الشاذة، مجنون بها...، كلما يجلس بمفردة لوهلة، يقبض على الوعي واللاوعي متلبسان بأفكار ملعونة، يضحك بصوت أنسان ممسوس بجن يتقن فن النكت...جن أحيك جسده من اللهيب الأزرق.
الحالة تستشري به، تمتد إليه بألف قدم كأخطبوط، فيتشوش، العوارض جميعها ظهرت عليه بعد فترة وجيزة، من إلحاح سؤال معتق دائخ، باحثا عن جواب ببلاغة استفزازية، لاستفهام باهت، لاستفهام ما.
ما الحياة حين تكون بلا وطن.... بلا امرأة؟
الأسئلة تورط....
يجعله هذا السؤال، يعود من الذاكرة إلى الواقع، يمتصه كبعوضة، ويعري صدأ الكلمات الموزعة في المحافل الدبلوماسية.
يضع المفتاح في قفل الباب الخارجي ....أي باب خارجي؟
الجدار نافذة مغلقة، ومن خلفه امرأة راحلة....
الحياة....ثم يفكر بالانتحار.
الهاتف يرن...ويرن ..الأموات...الجثث.... لا تجيب عادة!!
من يتصل بك يريد شيئا دائما!!
في نفس الزاوية يتربع التلفاز، "الرومونت كونترول" بين أصابعه، يتحسسه، "كبساته" عن ظهر قلب حفظها، التي ترفع الصوت مكسورة، ولهذا يبقى عاليا دائما، التي فوقها تبدل المحطات، الروتين يجعل الصدأ يتراكم على دماغه، وتحتك الأسئلة بالصدأ وترتد خائبة.
شق باب المطبخ، استرقه بنظرة يعتريها "غبش"، الماء على الغاز يتبخر، وأحلامه تتبخر، ولا يحرك ساكنا...، طرح سؤال بحجم الموقف في حياتي ما الجديد؟
ثم بحث عن نظارته لساعات ثلاث، وجدها في النهاية على ناصية شعره قابعة.
ومفاجأة الموقف عرته من منطق الإجابة...، والأسئلة تستمر بالعبث به، ويعبث فيها، وحالته تتطور يوما بعد يوم، وكأن شيطان الأسئلة ركبه، وهو لا يكترث يحشر نفسه في الإجابات الممكنة والمستحيلة، حتى بات ينسى.
يقفل باب البيت، يفتحه راكضا إلى "الغاز"، يجده مطفأ، يقوم مذعورا في الليل، النوافذ الأبواب، يتفقدها عشرين مرة، مغلقة يجدها وهو الذي يخاف الإغلاق، منذ مغادرة حواء وأدم الجنة وإغلاق أبوابها.
في الدم كالبنسلين تتسرب إليه الشكوك، وعلامات الهلوسة، والأسئلة تنهال عليه بلا اكتراث بحالته، ماذا يعني وطن بلا امرأة... والعكس صحيح؟
أمسى مذعورا كمن مسه شيطان مجنون من النوم يصحو كل ليلة، "الجوال" مضبوط على الوقت، يتنهد ويغفو من جديد، يعود ليتشبث بالوعي كطفل بثدي أمه، إخفائه هي تحاول لدخول غريب ما مياهها الإقليمية.
سؤال جديد، طفا بغزارة على محيطه ألا متناهي، هل أنا آخذ في طريقي إلى الجنون؟
عملية الإجابة تأخذ وقت، الأجوبة السريعة خطرة، معلومة ذات فائدة في الإجابة متوقع العثور عليها في أي مكان.
"قبل الجنون بقليل تظهر أعراض الهلوسة، والهواجس المتداخلة، وفي لحظة ما تلتحم، تتوحد مع بعضها، وتزج بضيفها في عالم جديد".
هذه العبارة فصص كلماتها آلاف المرات في إحدى كتبه المهترئة كأيامه، وجاء دورها الآن هي الأخرى لتجلس مكانها، للكل دوره إلا هو يعيش الدوار معه، وعثر عليها متلبسة في إحدى الزوايا القاتمة المهملة غير المتوقعة، القريبة من سلة المحذوفات في الدماغ.
يمشي في الشارع، ينظر إلى وجوه الناس لا لون لها، أفكارهم يشتمها لها رائحة التفاح العفن، يضحكون على حذائه، قميصه الذي قفز عن بعض آزراه، أنا مختلف عنكم فقط، فلماذا تحاسبوني على اختلافي، وتشتعل المبررات الذاتيه.
ماذا تطلبون بالله عليكم من إنسان دون وطن، دون امرأة؟
كل شيء هو عارض يزول مع زوال الأسباب، و أنا لست مجنونا...محبطا ربما، الواقع، والظروف هما السبب، أنا أمر في أزمة نفسية وسأتعافى، ولا تنجح المبررات، في إقناع ذاته في الدرجة الأولى، فيكمل... أن شاء الله سأتعافى.
لكن هل أرشي القدر بقولي أن شاء الله؟
لطمه السؤال على خده بقوة، ارتخت "زنبركات" دماغه، ونُخِرَ رأسه بمائة فكرة ولم يلعق أجابة، ضحك ضحكة صفراء.
لكن لماذا؟
الضحكة الصفراء للهروب من المواقف دائما!!
وصرخ الجنون بصوت عالي أريد أن أحيا...أريد أن أحيا...أريد أن أتنفس ولو للحظة، هذا حقي الشرعي...وبدأ العد التنازلي للهبوط...، و اختفى هو خلف الضباب...
عثروا على أوراق في غرفته، في مذكراته، بعد أن نقل إلى المصحة العقلية، وجدوا هذه الكلمات "حين تبدأ الألعاب النارية في اقتحام الظلمة واختراق قبة سحرية يسمونها المخيلة لا تبقى ذاكرة هاجعة في سريرها وساعتها لا تعود الذاكرة أبدا، إلا حين يعود الوطن والمرأة، وبدونهما فلا جدوى للذاكرة".
التلذذ بالحياة يستلزم الشطط أحيانا
مشاركة منتدى
8 كانون الأول (ديسمبر) 2004, 14:54, بقلم محمود نصر
في البداية اتقدم بالشكر الى موقع ديوان العرب الذي يغنينا دائما بكتاباته الرائعه، واود هنا ان اتقدم بالشكر الى صاحب هذا النص الجميل، والذي يعبر عن مأساة شباب كثيرين حالمين، واتمنى له التقدم والاستمرار.
مع جزيل الشكر
محمود نصر- مصر