الحمل الكاذب للحداثة السائلة ووحم المثقفين
يشير مفهوم الحداثة السائلة الذي طوره زيجمونت باومان عالم الاجتماع البولندي الأصل، والناقد لما يُسمى بالكيان الإسرائيلي، واصفا إياها بأنها تستخدم الهولوكوست كعذر لشرعنة أفعالها المتوحشة- إلى حالة من الحداثة تتميز بالسيولة وعدم الاستقرار والتغير المستمر. وفي هذا الإطار، لم تعد البنى الاجتماعية والهويات والعلاقات صلبة أو ثابتة بل أصبحت في حالة مستمرة من التغير. وفي حين أن مفهوم باومان مؤثر في فهم ظروف المجتمعات الغربية، إلا أن تطبيقه في العالم العربي واجه انتقادات كثيرة لأسباب مختلفة؛ فالحديث عن الحداثة السائلة في المجتمعات العربية، التي تنطوي على ثقافات وقيم مغايرة، أشبه بالحديث عن الحمل الكاذب الذي تتوهمه إمرأة مشتاقة للحمل، مع ما يرتبط بذلك من أعراض الوحم ومشاقه. فالمثقفون العرب التواقون للحداثة ومابعد الحداثة، والمتحدثون عنها ليل نهار، يحملون لنا حملا كاذبا ووحما أيديولوجيا مزيفا يمتد معهم للأسف من المهد إلى اللحد بدون فعل الولادة الحقيقي ومخاضه المُزلزل. وفيما يلي عرض للأسباب التي تجعل من الحديث عن الحداثة السائلة مسألة كاذبة وخادعة لا يمكن تطبيقها على مجتمعاتنا العربية والإسلامية إلا من خلال صيغة توهمية خيالية مرتبطة بعقلية بعض المثقفين الحالمين إذا افترضنا حسن النية، والكاذبين إذا افترضنا عكسها.
أولا: الاختلافات الثقافية والتاريخية
إن الحداثة السائلة متجذرة بعمق في التجربة التاريخية الغربية، وخاصة التحول من الحداثة الصناعية إلى ما بعد الحداثة في أوروبا وأميركا الشمالية. ومع ذلك، خضعت المجتمعات العربية لتحولات تاريخية وثقافية مميزة. إن تجربة العالم العربي للحداثة متشابكة مع الاستعمار والقومية والهوية الدينية، والتي شكلت هياكله الاجتماعية والسياسية بشكل مختلف عن الغرب. لذلك، يمكن القول بأن تطبيق إطار غربي مثل الحداثة السائلة يتجاهل هذه التجارب التاريخية الفريدة، والتي لا تتوافق مع الحداثة السائلة التي لا حدود لها عند باومان. كما لا تزال العديد من المجتمعات العربية تكافح آثار الاستعمار والصراع من أجل الهوية الوطنية، مما يجعل مفهوم "السيولة" أقل أهمية. وعلى النقيض من الفردية والتجزئة في الحداثة السائلة الغربية، تؤكد المجتمعات العربية غالبًا على الهوية الجماعية والقومية والتضامن الديني.
ثانيا: دور الدين في البنية الاجتماعية
تفترض فكرة باومان عن الحداثة السائلة علمنة المجتمعات، حيث تفقد المؤسسات الدينية "التقليدية" نفوذها على حياة الناس. وفي السياق العربي الإسلامي، على العكس من ذلك، يظل الدين ركيزة أساسية للحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية. ويستمر الإسلام في توفير أساس قوي للهويات الجماعية والقواعد الأخلاقية، مما يخلق إطارًا "متينًا" مقاومًا للسمات السائلة التي يصفها باومان. ففي العديد من المجتمعات العربية، تحافظ المؤسسات والقيم الدينية على نفوذ كبير على المجالات الشخصية والاجتماعية والسياسية. وهذا يخلق بنية اجتماعية أكثر صرامة، حيث يحدث التغيير داخل حدود تحددها المعايير الدينية، بدلاً من السيولة غير المقيدة للحداثة السائلة. إن القوة الدائمة للسلطة الدينية في المجتمعات العربية تتحدى قابلية تطبيق نظرية باومان، التي تفترض تراجع مثل هذه المؤسسات "الصلبة".
ثالثا: الهياكل الاقتصادية والسياسية
هناك انتقاد آخر يتعلق بالواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في البلدان العربية. فالعديد من الدول العربية تحكمها أنظمة هشة تواجه عدم الاستقرار السياسي، الأمر الذي أدى إلى نوع من "الحداثة المُجمدة" بدلاً من السيولة وعدم الاستقرار الذي وصفه باومان. وتفترض الحداثة السائلة مستوى من الحرية الفردية والتنقل داخل الأسواق والمجتمعات التي غالبًا ما تكون محدودة في الدول العربية. إن السيطرة الصارمة للحكومات على الحياة العامة والخاصة، ومواجهة المعارضة، والافتقار إلى المشاركة السياسية السائلة، تخلق واقعًا يواجه المواطنون من خلاله قيودًا أكثر من سيولة الحياة الحديثة الموصوفة في نظرية باومان. كما تساهم الحقائق الاقتصادية في معظم أنحاء العالم العربي، مثل البطالة والفقر وعدم المساواة، في إنتاج تجربة مختلفة عن الحداثة. وعلى النقيض من الحداثة الغربية التي يقودها المستهلك والمليئة بالاختيارات، يعاني الكثيرون في العالم العربي من نقص الفرص والموارد، مما يخلق حداثة تُشعر بالركود بدلاً من السيولة.
رابعا: عدم توافق الفردية مع الطائفية العربية
إن أحد الجوانب الرئيسية للحداثة السائلة هو صعود الفردية، حيث يعطي الناس الأولوية للاختيارات الشخصية والهوية الذاتية على الانتماءات الجماعية. وفي العالم العربي، تظل القيم المجتمعية - سواء كانت قائمة على الأسرة أو القبيلة أو الدين - مهيمنة. وتقاوم هذه الأشكال من التضامن الاجتماعي نوع الفردية التي يؤكد عليها باومان. ففي العديد من المجتمعات العربية، تلعب الأسرة والمجتمع دورًا مركزيًا في تشكيل الهوية والسلوك واختيارات الحياة. وهذا يتناقض بشكل حاد مع المجتمعات الفردية التي تقودها الذات والتي تصفها الحداثة السائلة. فلا تزال الهياكل الاجتماعية العربية تميل إلى تفضيل المسؤولية الجماعية على الاستقلال الفردي، مما يجعل إطار باومان أقل أهمية في هذا السياق.
خامسا: العولمة والحداثة الانتقائية
في حين ترتبط الحداثة السائلة التي يتحدث عنها باومان ارتباطًا وثيقًا بعملية العولمة، يزعم المنتقدون أن العولمة في العالم العربي لم تكن تجربة متساوية. فقد تم تبني بعض جوانب الحداثة، مثل التكنولوجيا والإعلام، بسهولة، ولكن تم مقاومة جوانب أخرى، وخاصة في المجالات الاجتماعية والثقافية، أو تكييفها لتتناسب مع القيم الإسلامية والهياكل "التقليدية"، حيث انخرطت المجتمعات العربية بشكل انتقائي مع قوى العولمة. وفي حين تم تبني شبكات الاتصالات العالمية، والاستهلاك، والتقدم التكنولوجي، فإن العديد من الممارسات الاجتماعية والثقافية لا تزال متجذرة في القيم "التقليدية". ويؤدي هذا الانخراط الانتقائي إلى تعقيد فكرة التحول الشامل إلى الحداثة السائلة، مما يشير إلى نموذج هجين أكثر تعقيدًا للحداثة يمزج بين القديم والجديد.
وفي الختام، يواجه مفهوم الحداثة السائلة قيودًا كبيرة عند تطبيقه على العالم العربي الإسلامي. فالسياق التاريخي والثقافي والديني للمجتمعات العربية، إلى جانب هياكلها السياسية والاقتصادية، يختلف عن الظروف التي وصفها باومان في الغرب. فالمجتمعات العربية تتسم غالباً بمزيج من "التقاليد" والحداثة، حيث تظل الهويات الجماعية والقيم الدينية قوية، وتعوق القيود السياسية والاقتصادية هذا النوع من السيولة الذي يتصوره باومان. وعلى هذا، ففي حين تقدم الحداثة السائلة رؤى هامة في جوانب معينة من العولمة والحياة الحديثة، فإن تطبيقها على العالم العربي يتطلب قدراً كبيراً من التواطؤ الهادف لتجاهل سمات وطبائع المجتمعات العربية الإسلامية.