الثلاثاء ١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٥
بقلم محمد الحنفي

الدين/الماركسية من أجل منظور جديد للعلاقة نحو أفق بلا إرهاب

(الجزء الأول)


إلــــى:

الذين قضوا من اجل أن تكون الماركسية سلاحا لإعلان قيام العقل المادي.

الذين يعتبرون الدين قوة مادية قائمة في الواقع لمواجهة الادلجة الدينية.

الذين يتعاملون مع الدين كمقوم ومغذ بالقيم النبيلة للمسلكيات الفردية والجماعية.

من اجل تساكن بين مادية الماركسية وقوة الدين كجزء من تلك المادية تكريسا لأصل الإنسان المادي.

مقدمة:

إن البشرية وفي جميع أرجاء الأرض لازالت تنشغل في جزء كبير من وقتها بأزمة التعارض القائم بين المادية والمثالية نظرا للحيف الكبير الذي يلحقه الفكر المثالي بالفكر المادي. ونظرا لاستناد الفكر المادي إلى أسس مادية واقعية يمكن اعتمادها في بناء منظومة فكرية علمية، لا يستطيع الفكر المثالي الصمود أمامها. ومادام هذا التناقض قائما بين المثالي والمادي من الأفكار، فلماذا لا يتم التسليم به. ولماذا لا نعتبر أن ما هو قائم من فلسفات مادية مشروع، وأن ما هو قائم من فلسفات مثالية مشروع أيضا، وأن مصدر هذه المشروعية ومرجعيتها تعود إلى الواقع المادي نفسه. لأن الواقع لا يكون إلا ماديا، وأن هذا الواقع المادي هو مجرد مجال لاستنبات الفكر المثالي الذي ليس إلا قوة مادية قائمة في وجد هذا الإنسان حامل المثالية، ومنتجها. فالعبرة لا تكون إلا بالأصل، والأصل هو الوجود المادي للمجتمع. ونظرا لأن هذا المجتمع تحول من المجتمع اللاطبقي إلى المجتمع الطبقي، فإن الطبقة المسيطرة تسعى باستمرار إلى فرض أفكار مثالية تعبر عن مصالحها الطبقية. وتستند في أفكارها تلك إلى ما ظهر في المجتمعات من معتقدات خرافية ودينية حتى تتمكن من بسط سيطرتها على الطبقات الأخرى وفي مقدمتها الطبقة العاملة. وبما أن المجتمع الطبقي القائم يعتبر مجالا لصراع المتناقضات، فإن هذا الصراع الذي يتخذ طابعا تناحريا في مرحلة معينة، يقتضي الاعتراف بوجود تلك المتناقضات (الطبقات الاجتماعية – الإيديولوجيات – المثاليات – والماديات – والأديان... الخ) يصير مسألة ضرورية وضرورتها هي التي تفرض اخذ تلك المتناقضات بعين الاعتبار في التحليل حتى يكون متكاملا وموضوعيا ومنتجا، وموجها للحركة الساعية إلى تغيير الواقع في اتجاه التسريع بعملية الانتقال إلى المرحلة الأعلى في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والتفافي والمدني والسياسي.

و للوصول إلى توضيح هذه الإشكالية، إشكالية العلاقة بين المادي والمثالي، سنتناول موضوع "الدين/الماركسية نحو منظور جديد للعلاقة" الذي سنتناول فيه مفهوم الدين: الأساس، والمنطلق. ومفهوم الماركسية، الأساس والمنطلق، وتاريخية الدين، وتاريخية الماركسية وعمومية العقيدة، وخصوصية الطقوس الدينية، وعمومية المنهج، وخصوصية التطبيق الماركسي، وكيف ينظر الدين إلى الماركسية؟ وكيف تنظر الماركسية إلى الدين؟ وهل يمكن أن يوقف الدين الرؤى المادية إلى الواقع؟ وهل يمكن أن تمنع الماركسية وجود الدين؟ وما هي العلاقة الموضوعية التي يجب أن تقوم بين الدين والماركسية؟ وما هي سبل تجاوز ادلجة الدين لمحاربة الماركسية؟ واحترام المنهج الماركسي إقرار بوجود المعتقدات الدينية في الواقع.

و بتناولنا لفقرات هذا الموضوع بالتحليل الهادئ نستطيع أن نقارب الآفاق التي يجب اتباعها للوصول إلى خلاصة تمكننا من إيجاد المخرج المناسب، والمتناسب للعلاقة بين الدين والماركسية من جهة، ولإشكالية العلاقة بين المادي والمثالي من جهة أخرى حتى ننتقل من الصراع غير المنتج والمضلل الذي لا تستفيد منه إلا الطبقات المستفيدة من الاستغلال، إلى الصراع المنتج الذي ليس إلا الصراع الطبقي الحقيقي في مستوياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفي مستوياته الإيديولوجية والتنظيمية والسياسية المساعدة وحدها على تسريع وتيرة الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أعلى من تطور البشرية.
إننا أمام واقع يتزامن فيه عمق التخلف، مع انتشار ادلجة الدين الإسلامي، ومع تفاحش وتيرة الاستغلال الهمجي للطبقة العاملة وسائر الأجراء، ومع سيادة نظام عولمة اقتصاد السوق إلى جانب الثورة التكنولوجية المتقدمة التي فاقت كل التوقعات. وهذا الواقع وبهذه الحمولة، لازال في حاجة إلى تفكيك المزيد من القضايا المطروحة. ومنها قضية العلاقة بين الدين والماركسية، حتى يتم تمهيد الأفق لانتاج صراع طبقي حقيقي.

مفهوم الدين: أساسه ومنطلقه:

إن العلاقة بين الدين والماركسية تقتضي منا أن نقف أولا على مفهوم الدين. وما هو الأساس الذي يقوم عليه؟ وما هو منطلقه؟

إن البشرية ومنذ وجودها وهي تعمل على فهم الواقع، ونظرا لقصورها المعرفي، وعدم امتلاكها للوسائل التي تساعدها على معرفة الواقع معرفة علمية دقيقة. فإنها تلجأ إلى تفسير الظواهر الطبيعية التي تقع أمام أعينها. وتفترض أنها تقع، لا وفق قوانين طبيعية معروفة، أو يفترض أنها تكون معروفة منذ البداية لو نشأ الإنسان عارفا بها معرفة كاملة. ولأن الإنسان يفرض عليه أن يوجد أولا، ثم يفكر ثانيا، فإنه وجد عاجزا عن معرفة تلك القوانين.و لذلك يفترض وجود قوة خفية ومن أصول غير مادية، فيستعظم تلك القوة ويخلق لها طقوسا تخصها. ومع توالي الأيام، صارت تلك القوة الخفية آلهة مجسدة في كائن طبيعي نباتي أو حيواني أو مظهر من مظاهر الطبيعة، أو في آلهة يصنعها الإنسان، وصارت تلك الطقوس عبادة، ومع تطور البشرية الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمدني والسياسي ظهرت التجمعات البشرية الكبرى، وظهرت النظم الاقتصادية والاجتماعية المنسجمة مع التشكيلات الاقتصادية والاجتماعية القائمة. فظهرت معها الحاجة إلى وحدة المجتمع، فاستدعى ذلك ظهور الديانات الكبرى على التوالي: اليهودية ثم المسيحية ثم الإسلام الذي كان آخرها نظرا للنضج الذي وصلت إليه البشرية الذي اقتضى توقف ظهور أديان جديدة.

فما هو الدين؟ وما هو الأساس الذي قام عليه؟ وما هو منطلقه؟

إن الدين، أي دين، سواء كان وثنيا أو غير وثني، وسواء كان يهودية، أو مسيحية، أو إسلاما له علاقة بقوة غير معروفة، اختلفت تسميتها من عصر إلى آخر، ومن مكان إلى آخر. وانطلاقا من اختلاف الطبقات الاجتماعية، واختلاف مستوياتها المعرفية. وتلك القوة الخفية تفرض على المعتقدين بها خضوعا قسريا لمنظومتها "الإيمانية" التي تقتضي ممارسة طقوسية معينة تختلف باختلاف المنظومات نوعيا وعدديا، لتحقيق غاية روحية معينة، انطلاقا من النصوص المرتبطة بكل دين على حدة، تعبيرا عن التجسيد الفردي والجماعي، والاجتماعي لتلك المنظومة التي يتحقق في إطارها وحدة قيم المجتمع الأخلاقية والروحية. ولذلك فالدين هو الاعتقاد بوجود قوة معينة تستلزم ممارسة طقوسية معينة يمكن تمثلها في القيم التي يتحلى بها المتدينون على مستوى المجتمع والتي توجه العلاقات الاجتماعية، وتربطها بإرادة تلك القوة الغيبية التي تفسر بالإيمان بها كل شيء في هذا الكون.

والأساس الذي يقوم عليه الدين، أي دين، هو الحاجة إلى ملء الفراغ الروحي بسبب الجهل والأمية. وانعدام المعرفة بالواقع، وعدم القدرة على استخلاص ما يجب من التجارب السابقة، من اجل اعتماده في التعامل مع الواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمدني والسياسي، وفي العمل على تطويره، ومعاناة الإنسان القديم من الفراغ الروحي دفع ذهنه إلى العمل المستمر والبحث الدؤوب من اجل إيجاد ما يساعده على المستوى النظري، وعلى المستوى العملي على التغلب على عامل الوقت، وخاصة عندما يفرغ من الحصول على حاجته الطبيعية التي تمتلئ جنباتها بما يلبي تلك الحاجة. فانعدام ما يملأ الإنسان القديم به وقته لعب دورا كبيرا وأساسيا في البحث عن تفسير لما يجري في الواقع، ومن يقف وراءه. فعبد الإنسان مظاهر الطبيعة المختلفة، عبد الرعد، والنار، والشمس والقمر، والحيوانات والإنسان، ثم صنع تماثيل تمثل معبوداته الحية حتى تبقى تلك التماثيل (الأصنام) خالدة مدى الدهر حتى يضمن حضورها معه، ومع أبنائه وأحفاده من بعده إلى ما لا نهاية. ثم اعتقد الناس بعد ذلك أن الله يتزوج ويلد، فشرعوا يعبدون "أبناء الله" كوسيلة لعبادة الله، وكذلك الشأن بالنسبة ل"زوجة الله" " وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله" و"إن الله ثالث ثلاثة" بعد أن تم تجريد فكرة الله على يد إبراهيم "فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي، فلما أفل قال لا احب الآفلين، فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا اكبر، فلما افلت قال يا قوم اني بريء مما تشركون اني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا، وما أنا من المشركين".

ومنطلق الدين، أي دين ومهما كان مستواه هو إيجاد تفسير لما يحدث في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي، فلا شيء في الوجود من صنع الإنسان، انه نتيجة لفعل، وإرادة القوة الخفية التي يحتار الناس في إيجاد تفسير لها، فاكتفوا بتسميتها القوة المطلقة أو القوة الأولى، أو اله الخير، واله الشر، وغير ذلك من التسميات التي أطلقها قدماء المتدينين قبل الوصول إلى تسمية "الله" في الديانات التوحيدية وخاصة في عهد إبراهيم الذي سبق مجيء اليهودية والمسيحية والإسلام. فالله هو الخالق لكل ما في الكون، وهو الذي يحيي ويميت، وهو الحي الدائم الذي لا يموت، والذي لا يمكن تصوره، لأنه كما جاء في القرءان " لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار" وهو الباعث للرسل والمنزل للوحي الذي يوجه البشرية إلى ضرورة التحلي بقيم معينة وهو ما يجعل المستبدين يعتبرون استبدادهم من عند الله كما هو الشأن بالنسبة للإمبراطوريات المسيحية القديمة التي اعتبرت حكمها طبقا لنظرية الفيض الإلهي التي اعتمدها بنو أمية بعد تسلطهم على حكم المسلمين. كما جاء في خطبة زياد بن أبيه الذي يقول "انا نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ونذوذ عنكم بفيئه الذي خولنا" وحسب هذه النظرية فكل شيء في هذا الكون بأمر الله وبإرادته، وما عاشه الإنسان، وما يكونه وما يصير الله هو بإرادة الله وبأمره، أو بإرادة القوة الغيبية وبأمرها، سواء كان المعبود واحدا، أو متعددا حسب منطلق كل دين على حدة.

وأساس الدين ومنطلقه ضروريان للدين نفسه لأنه لا يوجد دين بدون أساس يقوم عليه، ولا منطلق يبتدئ منه. فالحاجة إلى التغذية الروحية ضرورية للإنسان من اجل أن يطمئن على مصيره وبعد تمثله للقيم الدينية التي يقتنع بها، مهما كان الدين الذي يومن به، ورغبة الإنسان – في ظل عجزه العلمي والمعرفي- قائمة إلى ما لا نهاية، لأنه يحتاج باستمرار إلى تفسير ما يحدث في الواقع من ظواهر طبيعية، وعلمية وفكرية واقتصادية واجتماعية وثقافية ومدنية وسياسية وعسكرية. والتفسير الديني لما يحدث هو اكثر التفاسير باعثا على الراحة النفسية، لأنه يعفي الإنسان من إعمال الفكر فيما يجري، حتى وإن كانت بعض الأديان تحث على استعمال العقل، فإن الناس غالبا ما يجنحون إلى تعطيل هذه الآلة التي تلعب دورا كبيرا في جعله يدرك الأسباب الحقيقية لوقوع مختلف الظواهر، والنتائج المترتبة عن تلك الأسباب.

والعلاقة القائمة بين الأساس الديني والمنطلق الديني هي علاقة تلازم، فلا يمكن أن يكون هناك أساس بدون منطلق، كما أن المنطلق لا يمكن أن يوجد بدون أساس، لأن الحاجة إلى التغذية الروحية تستلزم منطلق تلك التغذية.

وقد تكون هذه العلاقة جدلية، لأنه بقدر ما يكون الأساس الديني سليما ومقبولا، يكون المنطلق متفاعلا مع ذلك الأساس ليصير بدوره قويا ومقبولا، وبقدر ما يكون ضعيفا وغير مقبول يكون المنطلق أيضا متفاعلا مع ضعفه. فيصير ضعيفا وغير مقبول، ولكننا نجد أن المنطلق كذلك عندما يكون قويا ومقبولا فإن الأساس يتفاعل معه، فيصير ضعيفا وغير مقبول.

ولذلك نجد أن الدين الإسلامي الذي قام على أساس قوي وصحيح يتمثل في الفراغ الروحي الذي كان الناس يعانون منه في ذلك الوقت. فجاء ليملأ ذلك الفراغ، ويجعل العرب يتوحدون ويصيرون أقوياء بوحدتهم بعد أن كانوا أشتاتا كان المنطلق الذي إعطاء تفسيرا للكون وللوجود قويا ومقبولا، ويجعل الناس يرتبطون مع الواقع ويعملون على تطويره.

ولكن عندما صار الأساس غير ملء الفراغ الروحي بل صار ذلك الروحي إيديولوجية معبرة عن مصالح طبقية معينة. فإن المنطلق اختلف. انه لم يعد إعطاء تفسير للكون بقدر ما صار هو تجييش القابلين بأدلجة الدين الإسلامي، وبأساسه فقي أفق تنفيذ مخطط الأمير الذي يسعى إلى بناء "الدولة الإسلامية" التي لا تعني إلا "تطبيق الشريعة الإسلامية" التي ليست إلا "برنامجا سياسيا لمؤدلجي الدين الإسلامي". فقوة الأساس تستلزم قوة المنطلق، وتتفاعل معها، وضعف الأساس يستلزم ضعف المنطلق ويتفاعل معه، والعكس صحيح.
و إذا كان الدين معتقدا من جملة من المعتقدات التي يؤمن بها الناس، فإن التطور الذي عرفه الدين نفسه يبين إلى أي حد تطور هذا الإنسان عبر العصور المختلفة، وسواء استحضرنا ما ورد في الكتب السماوية من قصص تتعلق ببداية الخلق، أو لم نستحضره فإننا نستطيع القول بأن تطور الدين جاء مرتبطا ارتباطا جدليا بتطور المجتمعات. فالدين في مجتمع المشاعة كان بدائيا، وفي المجتمع العبودي اتخذ صيغة أخرى وهو في المرحلة الإقطاعية يختلف عنه في المرحلة الرأسمالية. نظرا لمستوى الفراغ الروحي الذي كانت تعاني منه البشرية في كل مرحلة تاريخية معينة.

مفهوم الماركسية: الأسس والمنطلقات:

وإذا كان الدين يرفعنا عن الواقع، ويغرقنا في الرغبة في التغذية الروحية، وفي السعي إلى معرفة الأسباب الغيبية لما يجري في الواقع على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية حتى نطمئن على مصيرنا أسوة بجميع المتدينين الذين يسلمون بأن ما يحصل هو بقرار غيبي، ويعتبرون ذلك التسليم جزءا من الإيمان بدين معين. فإن الماركسية هي غير ذلك، إنها ممارسة نظرية، وفكرية، وعلى عكس الدين، تسعى إلى تغذية العقل، وإلى تغيير الواقع.

فماذا نعني بالماركسية؟ وما هي الأسس التي تقوم عليها؟ وما هي منطلقاتها؟

وطرحنا لهذه التساؤلات يهدف إلى إعطاء صورة مقربة عن الماركسية بعيدا عن التصورات المبتذلة المرتبطة بالفكر الإلحادي الذي يشوه وجه الماركسية. ولا يسعى أبدا إلى إعطائها حقها في التقدير كحركة فكرية ارتبطت بمؤسسيها العظيمين: كارل ماركس، وفريدريك انجلز. وسعت إلى جعل الإنسان ينخرط في إعمال فكره في الواقع بمنهج مغاير من اجل الوصول إلى وضع خطة لتغيير ذلك الواقع بما فيه مصلحة الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية، وعلى أساس المساواة بين البشر كما هو منطوق الحديث الذي يقول "لا فرق بين عربي وعجمي ولا بين ابيض واسود" في الحقوق والواجبات، وصولا إلى تكريس مقولة "لكل حسب حاجته، وعلى كل حسب قدرته". والماركسية بذلك تكون حركة قائمة على أساس السعي إلى تغيير الواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمدني والسياسي حسب ما تقتضيه مصلحة الإنسان وبمنهج علمي يحمل اسم "المنهج الاشتراكي العلمي الذي يعتمد في تعامله مع الواقع نفسه قوانين المادية الجدلية (الدياليكتيكية) والمادية التاريخية، التي تجعل مستعملها يستطيع أن يمتلك نظرية عن الواقع وقادرا في نفس الوقت على وضع برنامج، واعتماد وسائل معينة لتغيير الواقع إلى الأحسن لانتاج شروط جديدة تتمثل في تحقيق الحرية، والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وهذا التصور عن الماركسية كحركة يعطيها أحقية في الوجود وفي التطور في نفس الوقت حتى تستطيع التعامل مع تحولات الواقع مهما كان عمق التحولات من اجل إدراك قوانينها والتحكم فيها، وتوجيهها، توجيها يجعلها في مصلحة البشرية، بما في ذلك التحولات العميقة التي تعرفها البشرية بسبب سيادة عولمة إقتصاد السوق التي أكدت حاجة البشرية اكثر من أي وقت مضى إلى الماركسية التي تعتبر وحدها قادرة على إدراك خطورة عولمة اقتصاد السوق على مصير البشرية، وتعتبر وحدها قادرة على معرفة ما يجب عمله لقيام عولمة نقيضة، قائمة على أساس إعداد البشرية على المستوى العالمي لمواجهة تلك المخاطر المترتبة عن همجية الاستغلال الرأسمالي، وكيف تجب مواجهة ذلك الاستغلال في بعده الكوني بالسعي إلى تكريس عولمة نقيضة بقيادة الطبقة العاملة، وبمساهمة جميع الشعوب المقهورة.

وللوصول إلى ذلك لابد من البحث عن السبل الكفيلة بإزالة العقبات القائمة في طريق إشاعة الفكر الماركسي من جهة، والقائمة في طريق بناء الحركة الماركسية من جهة أخرى. وفي أفق ذلك لابد من العمل على إيجاد أجوبة تقريبية للسؤال: ما هي الماركسية؟ هل هي الفكر المنسوب إلى ماركس وانجلز؟ هل هي ما أضافه المفكرون الماركسييون إلى ما كتبه ماركس وانجلز؟ هل هي التصورات المختلفة والمتناقضة التي وضعتها حركات قد تكون ماركسية فعلا، وقد تكون محسوبة على الماركسية؟ هل هي التجارب التي قامت في الحكم ففشلت، أو استطاعت أن تستمر؟

إن علينا أن نفرق بين الماركسية كحقيقة لم يعد في الإمكان تجاوزها، وبين المساهمة الفكرية والنظرية في إنتاج الفكر "الماركسي" الذي قد يكون ماركسيا فعلا، وقد يكون مجرد فكر منسوب إلى الماركسية. وهو في الواقع لا علاقة له بالماركسية، لا يطورها ولا يضيف إليها بقدر ما يعرقل تطورها، ويتحول إلى عائق في طريقها.

وحتى نضع القارئ الكريم في عمق تصورنا للماركسية فإننا نرى أن:

أ- الماركسية منهج علمي للتفكير ولتحليل الواقع في كل تجلياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية من اجل معرفة القوانين المتحكمة في ذلك الواقع، ووضع خطة لتفعليها في اتجاه التطور إلى الأحسن عن طريق الانتقال من مستوى معين للتشكيلة الاقتصادية-الاجتماعية إلى مستوى أرقى، كالانتقال من التشكيلة الرأسمالية، إلى التشكيلة الاشتراكية.

وهذا المنهج العلمي لا يمكن أن يكون علميا إلا باعتماد قوانين المادية الدياليكتيكية، القائمة على نفي جميع المناهج المثالية والمستفيدة من جميع ما توصلت إليه البشرية في مجالات العلوم والتقنيات في تطورها حتى تضمن الماركسية تطور تلك القوانين نفسها بما يتناسب مع تحولات الواقع.

وبالقوانين الدياليكتيكية قامت الماركسية بقراءة علمية للتاريخ البشري، سواء في مستواه الأوروبي أو في غيره من المستويات، وبواسطة تلك القراءة اكتشفت الماركسية تطور التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية وتمرحلها وتميز كل مرحلة على حدة والقوانين التي تحكم كل مرحلة، وطبيعة علاقات الإنتاج القائمة فيها، وهل هي مشاعية، أو عبودية، أو إقطاعية، أو رأسمالية، أو اشتراكية. وهل كل هذه التشكيلات متداخلة فيما بينها في إطار ما صار يعرف في الأدبيات الماركسية بنمط الإنتاج الأسيوي. وما العمل من اجل التسريع بالانتقال من تشكيلة اجتماعية إلى تشكيلة أرقى، حتى تستفيد البشرية من ذلك الانتقال وتتخلص من الكثير من آلامها التي وقفت وتقف وراء هلاك ملايين إن لم نقل ملايير الكادحين في مختلف مراحل التاريخ البشري.

وبتلك القوانين تقوم الماركسية بقراءة الواقع الاقتصادي فتتعرف على طبيعته، وهل هو اقتصاد المشاعة، أو اقتصاد العبودية، أو اقتصاد الإقطاع، أو اقتصاد الرأسمالية، أو اقتصاد الاشتراكية، وبقراءة الواقع الاجتماعي فتتعرف على طبيعة المجتمع. وهل هو مجتمع المشاعة، أو مجتمع العبودية، أو مجتمع الإقطاع، أو المجتمع الرأسمالي، أو المجتمع الاشتراكي. وانطلاقا من طبيعة التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية السائدة، ومن علاقات الإنتاج القائمة فيه، وبقراءة الواقع الثقافي لمعرفة المكونات الثقافية الموجودة، ودور تلك المكونات في إنتاج القيم الثقافية وطبيعة تلك القيم، وهل هي قيم عبودية، أو إقطاعية أو رأسمالية، أو اشتراكية، وما العمل في جعل مكونات معينة تنتج قيما تقدمية تساعد على تخليص المجتمع من قيم الذل والهوان المكرسة لتخلف الإنسان الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي لصالح الطبقات المستفيدة من ذلك التخلف، وبقراءة الواقع المدني لمعرفة هل تقوم مساواة بين البشر، وأمام القانون. وهل تقوم المساواة بين جميع أفراد المجتمع في القوانين المحلية، وهل تتلاءم تلك القوانين مع المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان أم لا؟ ولماذا؟ وما العمل حتى تصير المساواة بين جميع أفراد المجتمع في الممارسة اليومية، وأمام القانون المتلائم مع المواثيق الدولية؟ وبقراءة الواقع السياسي لمعرفة طبيعة النظام القائم، وهل هو نظام عبودي، أو إقطاعي أو رأسمالي أو اشتراكي، أو متعدد التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية؟

فالمنهج المادي المعتمد على قوانين الدياليكتيك هو منهج ماركسي ومن الإبداعات النظرية الكبرى التي توصل إليها ماركس ورفيقه انجلز خلال القرن التاسع عشر. ولذلك فلا يمكن أن نتحدث عن الماركسية دون استحضار المنهج الماركسي الذي يتضمن أدوات التحليل العلمي للتاريخ وللواقع في نفس الوقت، لأن المنهج المادي هو جزء من الماركسية.
و الماركسية هدف، لأن للتحليل العلمي للواقع بكل تجلياته وللتاريخ في تطوره، إنما يهدف إلى الوصول بالمجتمع إلى المرحلة الارقى التي تسعى الماركسية إلى تحقيقها. وهذا الهدف يمكن تصنيفه إلى ثلاث مستويات:

المستوى الأول هو تحقيق ما يصطلح على تسميته في الأدبيات الماركسية ب"الثورة الوطنية الديمقراطية" التي تهدف إلى التسريع بعملية تحول المجتمع من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الرأسمالي بمفهومه الليبرالي حتى تستنفذ البورجوازية إمكانيات تطورها. ويتم القضاء نهائيا على كل أشكال المظاهر الزراعية بما في ذلك استئصال العقلية الزراعية التي تساهم بشكل كبير في عرقلة تطور المجتمع الزراعي ليحل محلها الفكر التنويري الذي يكون ملازما للمجتمع الرأسمالي الذي يساعد على نمو الطبقة العاملة وتطورها حتى تصير فعلا طليعة المجتمع. وتكون قادرة بحملها لوعيها الطبقي، على تنظيم نفسها في إطار النقابة المبدئية المناضلة، وفي حزبها الثوري حزب الطبقة العاملة حتى تستطيع أن تناضل في الواجهة النقابية لتحسين أوضاعها المادية والمعنوية، وفي الواجهة السياسية للنضال من اجل تحقيق الحرية والديمقراطية بمضمونها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي، وبمضمونها الحقوقي في نفس الوقت من اجل تحويل التشكيلة الاقتصادية-الاجتماعية الرأسمالية إلى تشكيلة اشتراكية بالقضاء على الملكية الفردية لوسائل الإنتاج، لتصير ملكية جماعية لجميع أفراد المجتمع والانتقال إلى نضال آخر من نوع جيد في المرحلة الاشتراكية ويتجسد هذا النضال في:

أ- المحافظة على الطابع الاشتراكي للإنتاج والتوزيع العادل للثروة بين جميع أفراد المجتمع.

ب- السعي إلى تطوير التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية الاشتراكية إلى مرحلة أعلى تنتفي فيها سلطة الدولة وهي ما تسميه الأدبيات الماركسية بالمرحلة الشيوعية. وهو ما يعني أن هدف الماركسية بعيد المدى. ويقتضي نضالا مريرا على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسة والعلمية والنظرية، وغير ذلك مما له علاقة بالنضال ضد الاستغلال.

و المستوى الثاني هو مستوى النضال الديمقراطي لأن الماركسية الحقيقة في إدارتها للصراع الطبقي وقيادتها للطبقة العاملة وحلفائها لا تمارس العنف ولا تسعى إلى ممارسته بقدر ما تضطر للدفاع عن نفسها في مراحل معينة من الصراع الذي تمارسه في الواقع كما تمارسه جميع الحركات القائمة في المجتمع الرأسمالي وهذا الصراع هو الصراع الديمقراطي. فالديمقراطية بالنسبة للحركة الماركسية وسيلة أساسية لاستقطاب الجماهير الشعبية الكادحة وطليعتها الطبقة العاملة وتوعيتها بما يجعلها تدرك أهمية النضال الديمقراطي المرحلي والاستراتيجي في نفس الوقت.

فالنضال الديمقراطي المرحلي يمهد الطريق أمام الحركة الماركسية وأمام الكادحين من اجل المساهمة في التقرير والتنفيذ انطلاقا من إقرار دستور ديمقراطي، ووجود قوانين انتخابية تضمن نزاهة الانتخابات، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة وصولا إلى إيجاد مؤسسات تمثل إرادة الشعب تمثيلا حقيقيا، وتقوم بوضع القوانين التي تخدم مصالح الكادحين، وتكوين حكومة من الأغلبية تشرف على تطبيق تلك القوانين التي يجب أن تتلاءم مع المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان العامة، وحقوقه الخاصة بالمرأة والطفل والعمال، والمعاقين وغيرهم، وبالتمتع بمختلف الحقوق يزداد الإنسان وعيا، ويزداد تطورا، ويزداد إرادة في أفق التغيير الشامل والثوري للواقع في شموليته بما يخدم مصلحة الكادحين وطليعتهم الطبقة العاملة الذين يشكلون غالبية الشعب أي شعب كيفما كان الدين أو الأديان التي يعتنقها الشعب.

وهنا نصل إلى المستوى الثالث من الهدف الماركسي الذي هو تحقيق الاشتراكية، لأن الثورة، أي ثورة لا تستهدف تحقيق الاشتراكية التي هي أمل الكادحين، وأمل الطبقة العاملة بالخصوص، لا يمكن اعتبارها ثورة بالمعنى الصحيح لمفهوم الثورة التي لا تحصل إلا في الانتقال الحاد، وفي إطار الطفرة الثورية من تشكيلة اقتصادية – اجتماعية إلى تشكيلة اقتصادية اجتماعية أخرى، كما هو الشأن بالنسبة للانتقال من التشكيلة العبودية إلى التشكيلة الإقطاعية، ومن التشكيلة الإقطاعية إلى التشكيلة الرأسمالية. فكل ثورة في عصرنا هذا يجب أن تنطلق من ضرورة إنضاج الشروط الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية عبر إنجاز الثورة الديمقراطية التي ليست إلا جعل المجتمع ككل ينخرط في النضال الديمقراطي الذي يساهم بشكل كبير في انتزاع المكاسب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية في أفق القيام بتغيير الأوضاع في شموليتها، والقضاء على كافة أشكال الاستغلال المادي والمعنوي، والعمل على تغيير ملكية وسائل الإنتاج لصالح المجتمع ككل، وقيام نظام سياسي ينسجم مع طبيعة ذلك التغيير من حماية المكتسبات وتطويرها لصالح البشرية في جميع أنحاء العالم. نظرا لأن شمولية الثورة تقتضي ذلك، واستمرار الثورة إلى تحقيق المرحلة الأعلى يقتضي ذلك، لأن توقف الثورة عند المرحلة الشيوعية لا يعني إلا نهاية التاريخ، الذي رآه فوكوياما في السيطرة الرأسمالية على الكرة الأرضية، ورآه الساعون إلى سيادة الجمود العقائدي في تحقيق "الاشتراكية" التي تحولت بسبب الكبح الذي تعرضت له الثورة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي السابق على يد الستالينيين/البيروقراطيين، إلى رأسمالية هجينة، وهمجية.

وهذه المستويات الثلاث يجب أن تتحقق مرتبطة فيما بينها، لأن أي فصل تعسفي بينها سيؤدي إلى القيام بثورة مضادة تصير عرقلة وكبحا في نفس الوقت لباقي المستويات التي لم تتحقق بعد. ولذلك، فالنضال من اجل الثورة الديمقراطية هو في نفس الوقت نضال من اجل الديمقراطية، ونضال من اجل تحقيق الاشتراكية وانخراط في النضال من اجل تحقيق المرحلة الأعلى التي ليست إلا المرحلة الشيوعية.

والماركسية قراءة للتاريخ بواسطة المنهج الماركسي (المادية الجدلية) من اجل اكتشاف قوانين التاريخ (المادية التاريخية) التي تساعد البشر على امتلاك المعرفة العلمية بالتاريخ والتي تساعدنا على الوقوف على حركة التاريخ التي تتحكم في انتقال المجتمعات البشرية من مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية أخرى.

فبواسطة القراءة الماركسية للتاريخ تم التعرف على تعاقب مجموعة من التشكيلات الاقتصادية-الاجتماعية التي عرفتها البشرية في مراحل تاريخية مختلفة. فهناك التشكيلة المشاعية التي عرفت الارتباط بالطبيعة، وغياب الدولة نظرا لعدم انقسام المجتمع في هذه المرحلة إلى طبقات مما جعل الحاجة إلى الدولة غير واردة. وهذه التشكيلة تم تجاوزها عندما تم انقسام المجتمعات البشرية إلى طبقتين رئيسيتين، طبقة الأسياد وطبقة العبيد، لتنشأ بذلك تشكيلة تحمل اسم التشكيلة العبودية فصارت الحاجة إلى قيام الدولة قائمة بسبب حاجة الأسياد إلى السيطرة على العبيد وتنظيم استغلال الأسياد لهم باعتبارهم متاعا من جهة، ووسيلة لتنمية ثروات الأسياد من جهة أخرى. ونظرا للصراع الطبقي الذي صارت تعرفه البشرية بين الطبقة المستغلة (بكسر الغين) وهي هنا طبقة الأسياد والطبقة المستغلة (بفتح الغين) وهي هنا طبقة العبيد نجد أن هذه التشكيلة تحولت، وبفعل التطور الاقتصادي الذي أضيف إليه استغلال الأرض إلى مرحلة أرقى هي المرحلة الإقطاعية التي ينقسم فيها المجتمع البشري إلى طبقتين رئيسيتين، طبقة الإقطاع وطبقة الأقنان. فطبقة الإقطاع باعتبارها مالكة للأرض هي طبقة مستغلة (بكسر الغين) وطبقة الأقنان (عبيد الأرض) باعتبارهم يرتبطون بالأرض ويعملون فيها ليضمنوا عيشهم، ولكن في نفس الوقت لاستثمار الأرض لصالح الإقطاعيين هي طبقة مستغلة (بفتح الغين). وكنتيجة للصراع بين الأقنان والإقطاع، ونظرا للتطور الاقتصادي الحاصل في مجال الإنتاج الحرفي-الصناعي. تحولت التشكيلة الإقطاعية إلى تشكيلة رأسمالية ينقسم فيها المجتمع إلى طبقتين رئيسيتين: الطبقة البورجوازية والطبقة العاملة. فالطبقة البورجوازية هي المالكة لوسائل الإنتاج المصانع، والطبقة التي تشغل تلك الوسائل لصالح الطبقة البورجوازية، ليتضاعف استغلال الإنسان للإنسان، بسبب ظهور عامل جديد يكشف حدة الاستغلال وضخامته، وهمجيته، وهذا العامل الجديد هو الذي عرف بفائض القيمة، لتزداد الحاجة إلى الصراع، ولترتفع حدة ذلك الصراع الذي يمتد ليشمل كل الأماكن التي تمتد إليها الرأسمالية وليتغير أفق الصراع، وتتحول أدواته، وتتنوع مستوياته من اجل جعل ملكية وسائل الإنتاج، ملكية اجتماعية حتى تتحول التشكيلة الرأسمالية إلى تشكيلة اشتراكية تسعى البشرية من خلالها إلى التخلص من بقايا التشكيل الطبقي سعيا إلى تحقيق المرحلة الارقى التي هي مرحلة انتفاء الحاجة إلى الدولة، أو المرحلة الشيوعية التي يمتلك فيها الإنسان القدرة الفعلية على أن يحكم نفسه بنفسه.

وكنتيجة لهذه القراءة الماركسية للتاريخ البشري (حالة أوربا نموذجا)، نجد أن الدول المتعاقبة على التاريخ البشري بعد مرحلة المشاعة هي: الدولة العبودية، والدولة الإقطاعية، والدولة الرأسمالية والدولة الاشتراكية.

والدولة كما تعرفها الأدبيات الماركسية هي أداة السيطرة الطبقية، لأنه بواسطتها يتم تنظيم الاستغلال لصالح الطبقة المسيطرة على أجهزة الدولة الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية والسياسية والعسكرية. تلك الأجهزة التي توظف جميعها وبشكل منسجم لممارسة القمع التنظيمي، والاقتصادي والاجتماعي والإيديولوجي والسياسي والعسكري على المستغلين في كل مرحلة على حدة لضمان استمرار استفادة الطبقة التي تحكم من جهة ولتأبيد سيطرة تلك الطبقة على أجهزة الدولة من جهة أخرى.

ونظرا لأن تاريخ البشرية، ومنذ انقسام المجتمع إلى طبقتين رئيسيتين هو تاريخ الصراع. فإن الماركسية بقراءتها للتاريخ البشري تعتبر أن التاريخ الحقيقي للبشرية هو تاريخ الصراع الطبقي الذي يقف وراء هذا التطور الهائل المتجسد في انتقال البشرية من مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية أخرى، ومن دولة طبقية إلى دولة طبقية أخرى، وصولا إلى ضرورة إزالة العقبة المتمثلة في الملكية الفردية لوسائل الإنتاج التي هي الباعث على قيام الصراع بين الطبقات. وهذه الإزالة لا تعني إلا تحويل الملكية الفردية إلى ملكية جماعية، حتى يبقى فائض قيمة الإنتاج لصالح المجتمع ككل. وتنتقل البشرية إلى شكل آخر من الصراع المتمثل في إزالة دواعي قيام الدولة كأداة للسيطرة الطبقية.

وهذه القراءة لحالة أوربا لا تعني أبدا تعميمها على جميع الأماكن. فالتطور البشري يختلف من قارة إلى أخرى، ومن دولة إلى أخرى، نظرا لاختلاف الشروط الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية. ولذلك كانت للماركسية قراءات أخرى تختلف عن قراءة النموذج الأوربي، والتمست طرقا أخرى تستهدف حرق المراحل في إطار ما سماه بعض الماركسيين بنمط الإنتاج الأسيوي الذي تتداخل فيه جميع التشكيلات التي صارت معروفة في التاريخ الأوربي، وحرق المراحل هنا لا يعني إلا القيام بالتطور اللارأسمالي، أي الوصول إلى المرحلة الاشتراكية بدون المرور بالمرحلة الرأسمالية كما حدث في الصين، وكما حدث في الاتحاد السوفياتي السابق نفسه. ولذلك نجد أن الدول التي عرفها تاريخ الشعوب في آسيا وفي إفريقيا وفي أمريكا نفسها يختلف عن نماذج الدول التي عرفها التاريخ الأوربي.
و لذلك فمفهوم الماركسية يعني أيضا القيام بالقراءة الماركسية للتاريخ البشري، سعيا إلى تطبيق القوانين العلمية على ذلك التاريخ حتى تمتلك البشرية الرؤيا العلمية للتاريخ البشري الذي يتم تحريفه عن طريق جعله مجرد سرد لبطولات وأمجاد الطبقات التي تحكم.
و بالإضافة إلى ما ذكرنا فالماركسية قراءة للواقع عن طريق إخضاع مكوناته للتحليل العلمي على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية حتى نتبين بواسطة ذلك التحليل طبيعة الاقتصاد المهيمن، وهل هو اقتصاد عبودي، أو إقطاعي، أو رأسمالي، أو اشتراكي، أو انه اقتصاد متعدد التشكيلات الاقتصادية، لتحديد ما يجب عمله لاقامة اقتصاد اكثر انسجاما مع الرغبة في تحقيق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وحتى نتبين طبيعة العلاقات الاجتماعية القائمة باعتبارها امتدادا لعلاقات الإنتاج وهل هي علاقات عبودية، أو إقطاعية، أو رأسمالية أو اشتراكية، لأن معرفة طبيعة تلك العلاقات يوضح إلى أي حد يمكن العمل على تغيير تلك العلاقات إلى الأحسن بما يتناسب مع تحقيق المجتمع الذي تسود فيه الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، تلك القيم التي ليست إلا القضاء على أساليب الاستغلال الاجتماعي التي تعتبر امتدادا لأساليب الاستغلال الاقتصادي.
وحتى نتبين طبيعة القيم الثقافية السائدة في المجتمع، وهل هي عبودية، أو إقطاعية، أو رأسمالية أو اشتراكية حتى يمكننا معرفة ما يجب عمله لانتاج قيم تساعد على انخراط المجتمع في التطور نحو الأحسن. وتلك القيم ليست إلا قيم الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وما طبيعة النظام السياسي السائد، وهل هو نظام عبودي، أو إقطاعي، أو رأسمالي أو اشتراكي؟ من اجل العمل على تحقيق وبناء النظام السياسي المتحرر والديمقراطي والعادل.

وبذلك نتبين أن مفهوم الماركسية يشمل أيضا إعمال المنهج الاشتراكي العلمي في قراءة الواقع قراءة علمية دقيقة تساهم بشكل كبير في معرفة ما يجب عمله لتغييره إلى الأفضل بما يخدم مصلحة غالبية المجتمع البشري. وفي مقدمة تلك الغالبية، الطبقة العاملة، لأن أي قراءة لا تهدف إلى التغيير، إنما هي مجرد ترف ذهني ليس إلا.

والماركسية أيضا نظام اقتصادي-اجتماعي-ثقافي-سياسي-اشتراكي يقوم على أنقاض النظام الرأسمالي، لأن الماركسية إذا لم تسع إلى تحقيق الاشتراكية بما تستلزمه من الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج وإيجاد نظام اجتماعي تعليمي صحي، سكني تشغيلي يتناسب مع تلك الوسائل. ونظام ثقافي يعمل على إنتاج القيم الثقافية الإنسانية الاشتراكية، ونظام سياسي يسعى إلى حماية الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج، وسائر ما يتناسب مع تلك الملكية حتى تستمر في أداء دورها في تحقيق استفادة جميع أفراد المجتمع من الدخل القومي على أساس المساواة فيما بينهم وصولا إلى تحقيق مبدأ: "على كل حسب قدرته، ولكل حسب حاجته" لأن مشكلة المجتمعات الاستغلالية هي أن غالبية أفراد المجتمع تقدم كثيرا ولا تجد ما تلبي به معظم حاجياتها في الوقت الذي نجد فيه أن قلة من المجتمع لا تقدم شيئا، ولكنها تحصل على معظم فائض القيمة. ولذلك، فإن ما يقوم به النظام الماركسي هو إعادة توزيع الثروة المادية والمعنوية بين جميع أفراد المجتمع لإزالة مظاهر القهر التي كانت تعرفها المجتمعات الاستغلالية. ولتحقيق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية التي هي الهدف الأسمى للثورة الماركسية. لأن هذه الثورة لا تهدف إلى تدمير مصالح معظم أفراد البشرية لصالح طبقة لا تشكل إلا الأقلية كما فعلت الثورة الإقطاعية، والثورة البورجوازية، بل تسعى إلى تدمير مصالح الأقلية من المستغلين البورجوازيين من اجل خدمة مصالح جميع أفراد المجتمع بمن فيهم أولئك الذي حرموا من استغلال الكادحين وسائر أفراد الطبقة العاملة.

والماركسية التي نسعى إلى استيعاب مفهومها الصحيح قامت على أساس التحولات التي عرفها الواقع في سيرورته الطويلة وعلى جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية، وهو واقع يصل إلى مرحلة يستحيل معها فهم ما يجري إلا بظهور المنهج الماركسي الذي استطاع القيام بالقراءة العلمية للتاريخ البشري ليصل إلى أن تاريخ التشكيلات الاقتصادية-الاجتماعية هو تاريخ الصراع الطبقي وأن آخر تشكيلة اقتصادية-اجتماعية لا يمكن تجاوزها إلا بتحقيق المجتمع الاشتراكي الذي يتطور في اتجاه تحقيق المرحلة الأعلى.

فرصد تحولات الواقع لا تتم إلا بمنهج مادي والمنهج المادي ليس إلا منهجا ماركسيا، وبواسطة هذا المنهج يمكن إدراك القوانين المتحكمة في تلك التحولات حتى تستطيع الحركة الماركسية التحكم في تلك التحولات وتوجيهها نحو تحقيق الأهداف الماركسية المتمثلة في التغيير الشامل للواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي. ونظرا لدور المنهج الماركسي في امتلاك التصور العلمي للواقع تقوم الجهات البورجوازية والإقطاعية والبورجوازية الصغرى واليمين المتطرف، واليسار المتطرف وأجهزة الدولة الإيديولوجية بالسيطرة الإيديولوجية على عقول ووجدان الجماهير الشعبية الكادحة، وخاصة في صفوف المتعلمين، حتى تنساق الجماهير الشعبية الكادحة ومن ضمنها المتعلمون وراء تلك الجهات في معاداة الماركسية التي تقيم سدا منيعا ضد الماركسية والماركسيين، والحركة الماركسية مما يحول دون انتقال الوعي الطبقي إلى تلك الجماهير لتضعف بذلك الحركة الماركسية، ويتراجع الماركسيون إلى الوراء.

وحتى تقوم الماركسية بدورها كاملا فإنها لا تنطلق من الفراغ في تعاملها مع الواقع، بل إنها تنطلق من التراكمات التي حققتها البشرية على مر العصور من اجل دراسته واعتماد الإيجابي منه، وتوظيفه توظيفا إيجابيا من اجل إضافة المزيد من التراكمات الإيجابية في المجال النظري والفكري والفلسفي، ومن اجل التأسيس لقيام نظرية علمية تعتمد في انتقال كل مجتمع على حدة من تشكيلة اجتماعية إلى تشكيلة اجتماعية أرقى، وهو ما يثبت بالملموس أن النظرية الماركسية لم تأت من الفراغ، بل إن الفكر المادي وجد بوجود الإنسان، وتطور بتطوره ليصل في نهاية المطاف إلى ما وصل إليه على يد ماركس وانجلز اللذين اكتشفا القوانين العلمية لهذا الفكر انطلاقا مما وصلت العلوم الطبيعية والفيزيائية والكيميائية من تطور في عصرهما. وتفاعلا مع ما يحصل من تطور هذه العلوم بعد ذلك، باعتبارها علوما مادية صرفة، وباعتبار قوانينها قوانين مادية صرفة. ولذلك تجزم الماركسية نفسها، ويجزم الماركسيون أن الماركسية لم تنطلق من الفراغ، ولولا التراكمات التي حققتها البشرية في مختلف العصور المتعاقبة في المجالات الفلسفية المادية والمثالية على السواء، وفي مجالات العلوم والفنون، وفي مجالات التقنيات وغيرها لما كانت الماركسية. ولما حدث ذلك التطور الهائل في الفلسفة المادية التي كانت منطلقا للفلسفة الماركسية التي أبدعت للبشر قوانين الاشتراكية العلمية للمادية الجدلية والمادية التاريخية.

فالماركسية هي إضافة جديدة ونوعية للفكر الإنساني الذي عرف تطورا هائلا. ولذلك فهي جاءت متناسبة مع سياق التطور الذي عرفته البشرية مع ظهور التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية الرأسمالية التي وقفت وراء وجود الطبقة العاملة التي لم تكن موجودة في التشكيلات السابقة، والتي تحتاج إلى فلسفة خاصة بها، وإيديولوجية معبرة عن مصالحها الطبقية فكانت هذه الفلسفة هي الماركسية، وكانت هذه الإيديولوجية هي الاشتراكية العلمية.

والماركسية قائمة أيضا على أساس مناهضة المثالية. فالفكر المثالي بالنسبة للماركسية هو فكر غير علمي، وبمنطلقات غيبية. والمنهج الذي يعتمده الفكر المثالي هو منهج غير علمي، والنتائج التي يتوصل إليها هذا الفكر هي نتائج غير علمية. ولذلك فالماركسية تركز على علمية المثالية والفكر المثالي ومنهج هذا الفكر، والنتائج التي يصل إليها، وتشريح كل ذلك من اجل تنفيذه، ولكن لا علمية الفكر المثالي لا تعني أبدا أن الماركسية لا تعتمد الجوانب الإيجابية في هذا الفكر فالعكس هو الصحيح. فالماركسية تعتمد كل ما هو إيجابي في تراث الإنسانية حتى وإن كان بعده مثاليا، كما فعلت مع الجدل الهيجلي الذي أفاد الماركسية التي جعلته بمنطلقات مادية، فصار جدلا ماركسيا.

ومع ذلك فالصراع سيبقى قائما، وإلى ما لا نهاية بين الماركسية باعتبارها فكرا ماديا، وبين الفكر المثالي نظرا لأن الفكر الماركسي يخدم مصلحة الكادحين بصفة عامة، ومصلحة الطبقة العاملة بصفة خاصة. بينما نجد أن الفكر المثالي لا يخدم إلا مصلحة الطبقات المستفيدة من الاستغلال. ولذلك نجد أن هذه الطبقات توظف إمكانياتها الضخمة في جعل الفكر المثالي بصيغه المتنوعة يسيطر على عقول الكادحين وعلى وجدانهم في جميع مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية حتى لا ينتبهوا إلى ما يمارس عليهم من استغلال مادي ومعنوي، بينما نجد أن الماركسية تعاني من الحصار، ومن وسائل الإعلام التي تمكنها من الوصول إلى الكادحين، والسيطرة على عقولهم ووجدانهم. وهذا الحصار يدخل في إطار الصراع الذي يخوضه الفكر المثالي ضد الماركسية.

والماركسية باعتبارها فلسفة مادية وفكر مادي تسعى باستمرار إلى تطوير نفسها معتمدة نفس المنهج المادي الجدلي، والمادي التاريخي لقراءة التجربة الماركسية والفكر الماركسي مستعينة بذلك بآخر ما وصلت إليه العلوم الطبيعية والفيزيائية والكيميائية، وآخر ما وصلت إليه التقنيات الحديثة وما تم التوصل إليه في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية، حتى تتخلص من أي انحراف يكون قد علق بها، وتصير قادرة على مسايرة التحولات التي تحصل في الواقع وقادرة على إدراك خلفيات وأبعاد ما يحدث ومستنتجة ما يجب عمله لتغيير الواقع الذي يصير جديدا بالنسبة إليها، لأن التطور الهائل الذي يحصل في الرأسمالية يقتضي تجديد الماركسية وتطورها حتى تستطيع استيعاب ما يجري ومواكبته، ومعرفة ما يجب عمله لمقاومة همجية الرأسمالية، والفعل في الواقع من اجل تغييره، لتكون الماركسية بذلك متجددة ومتطورة باستمرار بعيدا عن الجمود العقائدي الذي أصابها على يد البيروقراطيين الذين عملوا على كبحها ومصادرة إمكانياتها الإبداعية، حتى تتحول الماركسية إلى مجرد إيديولوجية لأولئك البيروقراطيين كسائر الإيديولوجيات، وتصير مجرد مقولات إيديولوجية يرددها الأتباع لإرضاء قادتهم لتفقد الماركسية بذلك علميتها.

ونظرا لعلمية المنهج الماركسي المادية الجدلية والمادية التاريخية، فإن توظيف هذا المنهج في مجال العلوم والتقنيات، يجعلها تتطور تطورا هائلا يتجاوز كثيرا حدود التطور الذي تصل إليه العلوم والتقنيات في البلدان الرأسمالية الكبرى وهو ما يمكن أن نفسر به لماذا هذا التطور الهائل في العلوم والتقنيات في البلدان الاشتراكية السابقة، بلدان الاتحاد السوفياتي السابق التي شكلت بذلك قوة ضخمة تهابها البلدان الرأسمالية الهمجية لصالح الشعوب المقهورة. كما تبين ضرورة ذلك التوازن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق لينهار بذلك التوازن، وتصير الشعوب نهبا للرأسمالية الهمجية. والماركسية لا تسترجع قوتها على الساحة العالمية إلا بمساهمتها في تطوير العلوم والتقنيات في البلدان التي تقوم فيها أنظمة ماركسية استجابة للحاجة إلى قيام توازن جديد يخفف عن الشعوب معاناة همجية الاستغلال الرأسمالي. وما تفتقر إليه الماركسية الآن هو استحضار أهمية المنهج الماركسي، وأهمية توظيفه في مختلف مجالات الحياة، وفي مجال العلوم والتقنيات بالخصوص لجعل البلدان الاشتراكية قادرة على مواكبة التطور الرأسمالي في المجالات العلمية، ومواجهة ذلك التطور في نفس الوقت في المجالات الأخرى لاستعادة التوازن المنهار، والذي يعتبر ضرورة تاريخية ومرحلية لإنقاذ العالم من همجية الرأسمالية المصاحبة لعولمة اقتصاد السوق الرأسمالي الذي بلغ فيه التطور العلمي والتقني مداه. ولا ندري إلى أي حد سيصل مستقبلا إذا لم تعمل الماركسية على اختراق السيطرة الرأسمالية على العالم، بتحريك القوى الماركسية القائمة في البلدان الرأسمالية نفسها، وبدعم من البلدان الاشتراكية القائمة، خاصة وأن الرأسمالية الآن تدعى أنها تسعى إلى تحقيق "الديمقراطية" في جميع أنحاء العالم، وإشاعة "حقوق الإنسان" وفي أفق ذلك لابد من تفعيل المنهج الماركسي المتطور والمتجدد في تطوير العلوم والتقنيات في البلدان الاشتراكية، وفي نفس الوقت تطوير أسلوب الحكم، وتطوير الاقتصاد الاشتراكي، وتطوير القوى الحامية للاشتراكية التي لابد أن تقف مجتمعة وراء المواقف السياسية للنظام السياسي الاشتراكي الداعم للحركة الماركسية عبر العالم.

والماركسية مطالبة باكتشاف المزيد من القوانين العلمية التي لازالت البشرية تجهلها، والتي تلعب دورا كبيرا في استعادة مجد الماركسية، وتساهم في تطوير منهجها العلمي في نفس الوقت حتى تتجاوز الماركسية مختلف الأزمات التي تعترضها. واكتشاف المزيد من القوانين العلمية لا يتم إلا برصد الإمكانيات الاشتراكية الضخمة للبحث العلمي في جميع الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية، والعلمية والبيولوجية والفيزيائية والتقنية الدقيقة. لأنه بدون رصد الإمكانيات الضخمة للبحث العلمي لا يكون هناك تطور علمي أبدا، ولا تطور في المنهج الماركسي، ولا تطور في النظام الاشتراكي. وفي مقابل ذلك يستمر تفوق الرأسمالية، ويستمر عجز النظام الاشتراكي عن مواجهة النتائج المترتبة عن الاستغلال الرأسمالي الهمجي للكادحين وطليعتهم الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية.

وكنتيجة لتطور العلوم والتقنيات والمنهج الماركسي، فإن الماركسية تقوم بإعادة قراءة التاريخ البشري انطلاقا مما حصل من تطور في المنهج الماركسي، وفي نفس الوقت من التطور الذي وصلت إليه الماركسية حتى تكون القراءة العلمية للتاريخ اكثر دقة، واكثر فائدة للحركة الماركسية في البلدان الرأسمالية وفي البلدان التابعة لها، حتى تسعى تلك الحركة إلى امتلاك نظرية صحيحة عن التاريخ البشري العام، لأنه بدون معرفة التطور التاريخي الذي عرفه بلد معين، لا يمكن فهم الواقع القائم في ذلك البلد باعتباره نتيجة لصيرورة تاريخية معينة، واكتشاف القوانين المتحكمة في ذلك الواقع حتى تدرك الحركة الماركسية ماذا يجب عمله، وما هي الخطوات التي يجب اتباعها؟ وما هي المواقف التي يجب اتخاذها في أفق تغيير ذلك الواقع تغييرا شاملا على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية، وإقامة نظام اشتراكي تتحقق في إطاره الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ويصير فيه الإنسان سيد نفسه في إطار احترام سيادة الآخرين على أنفسهم في ظل النظام الاشتراكي الذي يقوم على أنقاض النظام الرأسمالي في كل بلد على حدة؟

وللوصول إلى ذلك لابد من قيام الحركة الماركسية بإذكاء الصراع الطبقي في مستوياته الإيديولوجية والتنظيمية والسياسية، وبواسطة الانخراط في النضال الديمقراطي من بابه الواسع. فالصراع الإيديولوجي صار مسألة ملحة اكثر من أي وقت مضى وخاصة في ظل سيادة الإيديولوجية الظلامية التي تعتبر امتدادا لإيديولوجية الإقطاع المتخلف والإيديولوجية البورجوازية والإيديولوجية البورجوازية الصغرى التوفيقية والتلفيقية عن طريق قيام الحركة الماركسية، وبواسطة المنهج الاشتراكي العلمي المتطورة بمقارعة الإيديولوجيات المختلفة حتى تنكشف أوهامها للكادحين، وللطبقة العاملة بالخصوص، ولشرائح البورجوازية الصغرى المضللة. وحتى تتاح الفرصة أمام الكادحين لاعتناق الإيديولوجية الاشتراكية العلمية التي هي إيديولوجية الطبقة العاملة وسائر الكادحين. والصراع التنظيمي يقتضي انكباب الحركة الماركسية على بناء تنظيماتها التي هي الأدوات التي تقود نضالات الكادحين في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية. فبناء التنظيمات على جميع المستويات المحلية والإقليمية والجهوية والوطنية يعتبر شرطا لقيام نضال الكادحين وطليعتهم الطبقة العاملة، وبدون التنظيمات الماركسية في أبعادها الجماهيرية والنقابية والسياسية لا يمكن للكادحين القيام بأي شيء حتى يتأتى للمستغلين تكريس استغلالهم المادي والمعنوي للكادحين وللطبقة العاملة بالخصوص. وهو ما يبين إلى أي حد يعتبر الاهتمام ببناء التنظيم الماركسي ضروريا حتى يقوم بدوره في إعداد الطبقة العاملة وسائر الكادحين للقيام بالدور التاريخي المنتظر حتى تتحقق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

وبناء التنظيم الماركسي يعتبر جزءا أساسيا من صيرورة الصراع الطبقي في المجتمع الرأسمالي إلا انه ليس كافيا وحده، فالتنظيم الماركسي هو وسيلة لقيادة وإدارة الصراع السياسي كوجه من اوجه الصراع الطبقي. فالتنظيم يعبئ الطبقة العاملة وسائر الكادحين تعبئة سياسية عن طريق وضع برنامج للتعبئة السياسية للجماهير الشعبية الكادحة واتخاذ مواقف سياسية من مختلف القضايا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية، وتعبئة الشعب الكادح للمطالبة بدستور ديمقراطي، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة لإيجاد مؤسسات منتخبة تعبر عن إرادة الجماهير الشعبية الكادحة، وتشكيل حكومة من أغلبية البرلمان تقوم بخدمة وحماية مصالح المنتخبين حتى يتمتع الكادحون بحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية كما هي في القوانين التي يعمل المجلس التشريعي على ملاءمتها مع المواثيق الدولية.

والصراع السياسي ليس إلا ممارسة للنضال الديمقراطي في شموليته، والذي يسعى إلى جعل الدولة المستبدة دولة ديمقراطية، ودولة علمانية، ودولة الحق والقانون لأن هذه المستويات من الدولة متلازمة فيما بينها كما أن الدولة المستبدة هي مجرد أداة للسيطرة الطبقية التي تعتمد ادلجة الدين الإسلامي، ودولة لا ديمقراطية ولا شعبية.

فالصراع الإيديولوجي، والصراع التنظيمي، والصراع السياسي، هي مظاهر تتداخل فيما بينها في إطار الصراع الطبقي الذي لا يبلغ ديناميته القصوى إلا بامتلاك الجماهير الشعبية الكادحة وطليعتها الطبقة العاملة لوعيها الطبقي الحقيقي، وتدرك مواقعها من علاقات الإنتاج، وتتعرف على مسار فائض القيمة، وما تناله هي من عملية الإنتاج الذي تقوم هي بإنتاجه.

وبمناقشتنا لمفهوم الماركسية، الأسس والمنطلقات نتبين أن الماركسية منهج وهدف، وقراءة للتاريخ، والواقع بواسطة المنهج الماركسي لمعرفة ما يجب عمله لتغيير الواقع. والماركسية نظام اقتصادي واجتماعي وثقافي وسياسي، والماركسية تنطلق من تطور الفكر البشري. والدخول في الصراع المباشر بين الماركسية والفكر المثالي. وتعمل على سيادة الفكر المادي الذي يستفيد كثيرا من تطور العلوم والتقنيات، واكتشاف القوانين العلمية، وتوظف ذلك الفكر في قراءة التاريخ البشري لجعل الجماهير الشعبية الكادحة وطليعتها الطبقة العاملة تخوض الصراع الطبقي وهي متسلحة بكامل وعيها بالتاريخ، وبواقع الجماهير الشعبية الكادحة وبالشروط الموضوعية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وماذا تعمل من اجل تغيير الواقع بوضع حد للملكية الفردية التي تقف وراء المآسي التي تعيشها البشرية، وإقامة الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج حتى تتفرغ الحركة الماركسية لبناء الدولة الاشتراكية التي تقوم بتحقيق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

فهل تقوم الحركة الماركسية بدورها في هذا الاتجاه؟ وهل تستعيد الجماهير الشعبية الكادحة ارتباطها بالحركة الماركسية؟

هل تحرص على امتلاك وعيها الطبقي كما تراه الماركسية؟ هل تنخرط في خوض الصراع الطبقي؟

(الجزء الأول)

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى