الأربعاء ٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٥
بقلم محمد الحنفي

الديموقراطية والإصلاح السياسي في العالم العربي...

تمهيد:

في البداية لابد من التنويه بجريدة الحوار المتمدن التي تفتح صدرها لمختلف المناقشات والمواضع الهادفة إلى تحرير الإنسان فكرا وممارسة، ووجدانا حتى يقوى على مواجهة التخلف في مستوياته المختلفة، وعلى مستوى العالم العربي وفي جميع مناحي الحياة. ومساهمة منا في موضوع "الديموقراطية، والإصلاح السياسي في العالم العربي" سنتناول مفهوم الديموقراطية، ومفهوم اليسار ومفهوم المعارضة، وارتباط الديموقراطية بمطالب اليسار وتحول المطالب الديموقراطية إلى مطالب أساسية، ودعوة الولايات المتحدة إلى إقامة الديموقراطية في العالم العربي وعلاقة أمريكا بإجراء الإصلاحات السياسية في العراق كمثال، وإقامة ديموقراطية الواجهة تحت تأثير الضغوط الخارجية محاولين الإجابة على أسئلة الحوار المتمدن المتمثلة في:

1) هل الضغوط الخارجية قادرة على إقامة أنظمة ديموقراطية في العالم الخارجي؟

2) هل يمكن أن يعد المشروع الأمريكي في العراق من دعائم إقامة الأنظمة الديموقراطية خصوصا وأن إحدى نتائجه كانت كتابة دستور لإقامة دولة دينية وحكم لرجال الدين؟

3) هل إن وجود نظام ديموقراطي يمكنه أن يحدث تغيرات عميقة في بنية التخلف الاجتماعي والثقافي والسياسي التي تعاني منها الدول العربية ويفسح المجال أمام الارتقاء بحقوق الإنسان وان يشيع مظاهر الرفاهية والتمدن؟

4) كيف يمكن التعامل مع التيارات الإسلامية التي يمكنها أن تصل إلى الحكم من خلال صناديق الاقتراع؟

5) كلما تم الحديث عن إحداث الإصلاح السياسي في العالم العربي، فإن الأنظمة الحاكمة تسارع لطرح خصوصية كل مجتمع، أو أنها تطرح الإصلاح السياسي التدريجي. هل إن الحديث عن الخصوصية والإصلاح السياسي التدريجي يمتلك أرضية واقعية؟

لنصل إلى أن الديموقراطية والإصلاح السياسي في العالم العربي يحتاجان إلى عمق التفكير، وممارسة صادقة على ارض الواقع من اجل الوصول إلى خلاصات يمكن اعتمادها في صياغة برنامج يمكن اعتماده في النضال من اجل الديموقراطية التي لا تتحقق إلا بتحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية نظرا للتكامل الحاصل بين هذه المكونات الثلاثة خاصة وأننا عندما تطرح علينا مشكلة الديموقراطية في العالم العربي تطرح إلى جانبها مشكلة الحرية ومشكلة العدالة الاجتماعية.لأنه لا ديموقراطية بدون حرية ولا حرية بدون عدالة اجتماعية، ولا عدالة اجتماعية بدون ديموقراطية. وهو ما يعني بالنسبة إلينا أن النظام العربي نظام استبدادي والنظام الاستبدادي لا ينتج إلا الأمراض الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية. وبقدر ما تنتشر تلك الأمراض بقدر ما تتبين ضرورة البحث في الممارسة الديموقراطية بمفهومها العميق وفي جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. وهل هي قائمة في واقع ما؟ وما نسبة قيامها؟ وهل يمكن أن تصير ديموقراطية حقيقية؟ أم أنها لا تتجاوز أن تكون ديموقراطية الواجهة؟

مفهوم الديموقراطية:

فما مفهوم الديموقراطية؟ وما هي الأشكال الممارسة حتى الآن؟ وما هو الشكل الأنسب منها؟ وهل يناسب العالم العربي أم أنه انه سيعتبر دخيلا على الكيان العربي الذي يقتضي ممارسة ديموقراطية خاصة به؟ ومن هي الجهة المعنية بالنضال من اجل الديموقراطية؟

إننا إذا أردنا أن نختصر الطريق سنجد أن الديموقراطية كما يقول اليونانيون القدماء هي "حكم الشعب نفسه بنفسه " وسوف لا ننفي هذه المقولة ولا نؤكدها. لأنها جاءت في سياق مختلف، وما دامت كذلك فقيمتها تاريخية. ومع ذلك فامتداد تأثيرها يبقى واردا في فهمنا المعاصر للممارسة الديموقراطية التي يعطاها مضمون اقتصادي واجتماعي وثقافي ومدني وسياسي يتلاءم مع المضمون الحقيقي للثورة.

فسيادة الشعب تقتضي تمكينه من تقرير مصيره بنفسه وفي جميع مجالات الحياة ومناحيها والمضمون الاقتصادي يقتضي التوزيع العادل للثروة الاقتصادية على جميع المواطنين وفق مقاييس محددة. أما المضمون الاقتصادي فيقتضي تمكين جميع الناس على أساس المساواة فيما بينهم من الخدمات الاجتماعية في مجالات التعليم والصحة والسكن والشغل والترفيه.

وبخصوص المضمون الثقافي فإنه يقتضي تمكين جميع الناس من وسائل التثقيف الذاتي والجماعي والتعامل مع المكونات الثقافية المختلفة على أساس المساواة فيما بينها.

أما المضمون المدني فيقتضي المساواة بين الناس في الحقوق والواجبات بقطع النظر عن جنسهم، أو لونهم أو لغتهم أو أي مكون آخر والمساواة فيما بينهم أمام القانون.

وفيما يخص المضمون السياسي للديموقراطية فيقتضي تمكين الشعب من دستور ديموقراطي تكون فيه السيادة للشعب، ويصير الشعب بسبب تلك السيادة مقررا لمصيره عن طريق انتخابات حرة ونزيهة، لإيجاد مؤسسات تمثيلية حقيقية تنفرز عنها حكومة تعكس الإدارة الشعبية وتعمل على خدمة مصالح الشعب.

وهذا المفهوم وبهذا المضمون غير وارد في النظام العربي الذي يريد أن يجسد الديموقراطية فيما يسميه المناضلون الحقيقيون بديموقراطية الواجهة التي تتخذ أشكالا تختلف من بلد إلى بلد عربي آخر، ولكن ما يوحد بينها هو تزوير الإرادة الشعبية فبعض الدول لا وجود فيها لشيء اسمه الديموقراطية بدعوى مخالفتها ل " الشريعة الإسلامية ".

والبعض الآخر يعتبر أن الأخذ بمبدأ الشورى هو الشكل الديموقراطي المناسب للمجتمع العربي بدون الحديث عن مضمون تلك الشورى.

والبعض الآخر يقتضي أن الديموقراطية يجب أن تقتصر على الجانب الانتخابي الذي نعرف جميعا كيف تصرفه الأنظمة العربية.

ولذلك نرى وحسب فهمنا لمضمون الديموقراطية الذي أدرجناه أعلاه أن الديموقراطية غير واردة في النظام العربي وأنها لا تتجاوز أن تكون شكلية أو ما يسميه المناضلون المخلصون للشعب العربي ب " ديموقراطية الواجهة " حتى يتكرس استبداد النظام العربي بالشعوب العربية من المحيط إلى الخليج. فيسود بسبب ذلك الاستبداد القمع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمدني والسياسي، ومن اجل تدجين مجموع أفراد الشعب حتى يصيروا جميعا في خدمة الطبقات الحاكمة في العالم العربي.

وحسب ما هو متداول فجميع الطبقات الاجتماعية تدعي أنها معنية بالممارسة الديموقراطية وان هذه الممارسة بالنسبة إلينا غير واردة في عرف وفي فكر الطبقات المستفيدة من الاستغلال الطبقي الاقتصادي والاجتماعي سواء تعلق الأمر بالأحزاب الإقطاعية أو البورجوازية التابعة أو البورجوازية أو البورجوازية الصغرى أو الأحزابوسلامية.

والجهة الوحيدة المعنية بالنضال الديموقراطي حسب المفهوم الذي أدرجناه أعلاه هو ما يصطلح على تسميته باليسار بصفة عامة وباليسار الحقيقي بصفة خاصة لأن مطالب اليسار وحدها تعبر عن طموحات الشعوب العربية من المحيط على الخليج.

فماذا نعني بمفهوم اليسار؟ هل هو كل من يدعي انه ينتمي إلى اليسار؟

وهل هو اليسار الاشتراكي العلمي؟

وهل هو اليسار المغامر؟

مفهوم اليسار:

إننا عندما نبحث في مفهوم اليسار نجد أن هذا المفهوم عرف أشكالا كثيرة من التضليل والتضبيب والتحريف. فقد درجت أحزاب البورجوازية على أن تعتبر نفسها يسارا على سبيل الادعاء فكل من يمارس التطرف اليساري يعتبر نفسه يسارا وكل من تمثل تجربة معينة كالتجربة اللينينية والماوية يعتبر يسارا. والواقع أن هؤلاء جميعا إنما يمارسون التحريف اليساري بمعناه الواسع لأن اليسار في حقيقته يقتضي التوظيف الإيجابي للمنهج الاشتراكي العلمي في التعامل مع واقع معين على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية والخروج بخلاصات يمكن اعتمادها كبرامج للنضال من اجل تغيير الواقع، لأن أي برنامج للنضال من أجل التغيير لا يقوم على أساس التحليل الملموس للواقع، لا يمكن أن يكون إلا برنامجا غير علمي وغير مستهدف لتغيير الواقع ولا يمكن أن يخدم إلا مصالح طبقة معينة، وفي إطار حسابات معينة، واليسار القائم على أساس التحليل الملموس للواقع الملموس وبالمنهج الاشتراكي العلمي، لا يمكن أن يبقى بعيدا عن الاستفادة من مختلف تجارب اليسار على المستوى العالمي ولكن دون أن يستنسخ أي تجربة.

ولذلك نستطيع أن نقول أن اليسار هو الذي يعتمد المنهج الاشتراكي العلمي كأيديولوجية، وينبني تنظيمه الحزبي بما يتناسب مع تلك الإيديولوجية ويضع برنامجه الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي انطلاقا من توظيف المنهج الاشتراكي العلمي بناء على الخلاصات التي يتوصل إليها التنظيم بواسطة ذلك المنهج ويعمل على قيادة نضالاتها المطلبية من اجل تحسين أوضاعها المادية والمعنوية، وفي أفق القضاء على الاستغلال المادي والمعنوي الممارس عليها ببناء الدولة الاشتراكية التي تقوم بتحويل الملكية الفردية إلى ملكية جماعية لوسائل الإنتاج حتى تتحقق بذلك الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية.

وأي ادعاء للانتماء إلى اليسار دون الصدق في الاقتناع بالمنهج الاشتراكي العلمي ودون الانخراط في التنظيم المتناسب مع ذلك المنهج والنضال على أساس برنامج ذلك الحزب ومن اجل تحقيق الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية وفي إطار قيام الدولة الاشتراكية ليس إلا تحريفا لمفهوم اليسار وتشويشا عليه، ومن أجل خدمة الطبقات المستفيدة من الاستغلال التي تستطيع تقديم الامتيازات المختلفة لمدعي اليسار الذين لا يسعون إلا إلى تحقيق التطلعات الطبقية.

ولذلك فلا يمكن أن نعتبر أن مدعي الانتماء إلى اليسار يسارا كما لا يمكن اعتبار المنتمين إلى اليسار المغامر يسارا، لأن هؤلاء جميعا مجرد أدوات للتشويش على اليسار الحقيقي الذي نرى انه هو المقتنع بالاشتراكية العلمية، والموظف للمنهج الاشتراكي العلمي والمناضل من اجل تحقيق الدولة الاشتراكية التي يمكن اعتبارها المجال الأنسب للتمتع بالحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية.

وإذا تحدد لدينا مفهوم الديموقراطية ومفهوم اليسار فما مفهوم المعارضة؟

هل هي معارضة إقطاعية؟

هل هي معارضة بورجوازية تابعة؟

هل هي معارضة بورجوازية؟

هل هي معارضة بورجوازية صغرى؟

هل هي معارضة حزبوسلامية؟

هل هي معارضة يسارية؟

مفهوم المعارضة:

وإن الحديث عن المعارضة هو حديث أريد له أن يعرف تشويشا لا حدود له، وهو أيضا حديث يهدف إلى تضليل الشعوب العربية في المعارضة. ولذلك نقول إن المعارضة تحتاج إلى تحقيق في المفهوم حتى نميز بين من يناضل من اجل ديموقراطية حقيقية من الشعب وإلى الشعب، ومن يساوم من اجل تحقيق أهداف سريعة وزائلة، ومن يعتبر الديموقراطية مجرد مناسبة لتحقيق التطلعات الطبقية. ولذلك نجد أن:

1) المعارضة الإقطاعية في حال وجودها في ظل النظام العربي القائم لا يمكن أن نعتبرها معارضة حقيقية لأن سعيها لا يتجاوز الوصول إلى فرض الاستبداد الإقطاعي بالواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمدني والسياسي.

وانطلاقا من هذا المعطى، فإن الأحزاب الإقطاعية التي تدعى المعارضة هي أحزاب يجب اعتبارها جزءا من النظام العربي، والعمل على فضح ادعاءاتها حتى لا ينخدع بها الناس في الوطن العربي.

2) المعارضة البورجوازية التابعة هي معارضة لا تتجاوز أن تكون تمثيلا لأن البورجوازية التابعة هي المشكلة للنظام العربي، ولأن النظام العربي هو نظام يهدف إلى ربط الاقتصاد العربي من المحيط إلى الخليج بالمؤسسات المالية الدولية. ومادام الأمر كذلك فالبورجوازية التابعة هي بورجوازية تسعى إلى تحقيق نفس الاستبداد القائم في العالم العربي ومعارضتها ليست إلا معارضة شكلية يجب فضحها وتعريتها حتى لا تنخدع الشعوب العربية بها.

3) إن المعارضة البورجوازية التي هي نفسها البورجوازية الليبرالية التي تدعي أنها يمكن أن تقوم بالتغيير لصالح البورجوازية ولصالح الشعب في نفس الوقت، لأن البورجوازية الليبرالية في ظل النظام العربي القائم لا يمكن أن تكون كذلك، وكل ما يمكنها أن تفعله هو أن تذوب في النظام العربي القائم بسيرورتها كذلك فعلا. ولذلك فمصلحتها مع النظام العربي القائم وليست ضده.

4) أن المعارضة البورجوازية الصغرى لا يمكن الوثوق بها لكونها تقوم على التوفيقية والتلفيقية على المستوى الإيديولوجي والتنظيمي والسياسي والبرنامجي والمطلبي فهي تارة تظهر الارتباط بالطبقة العاملة، وتارة أخرى تحتاط منها، وأخرى تتزلف الطبقة الحاكمة، وأخرى تشن الهجوم عليها. وسبب ذلك يرجع إلى أن المعارضة البورجوازية محكومة بتحقيق التطلعات الطبقية لهذه البورجوازية. ولذلك فهي لا تثبت على حال، وفي نهاية المطاف لا يمكن أن تخدم إلا مصالح الطبقة الحاكمة على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية كما أثبتت التجارب ذلك في مختلف البلاد العربية وحتى إذا وصلت إلى الحكم، فإنها لا يمكن أن تكون إلا في خدمة مصالحها الطبقية بصيرورتها جزءا من الطبقة الحاكمة. والبورجوازية الصغرى بذلك لا يمكن أن تكون ديموقراطية ولا يمكن أن تكون كذلك. واستبدادها بالسلطة قد ينفي حتى ما تمارسه بعض الأنظمة الرجعية مما يمكن تسميته بديموقراطية الواجهة.

5) المعارضة الحزبوسلامية لا تتجاوز أن تكون سعيا إلى المساهمة في بناء استبداد بديل لاستبداد النظام العربي الذي يتجاوز ما يريده الحزبوسلامي بالسماح في بعض الأحيان بممارسة " الديموقراطية " التي لا تتجاوز بدورها أن تكون ديموقراطية الواجهة التي يعتبرها الحزبوسلامي كفرا وإلحادا حتى يجد مبرر لما يسمى بالمعارضة " الإسلامية ". والواقع أن معارضة من هذا النوع ما هي إلا دعم للنظام العربي ودفعة للقيام بممارسات تهدف إلى التراجع عن العديد من المكتسبات التي حققها الشعب في كل بلد عربي كما هو حاصل الآن حيث تسجل يوميا الكثير من التراجعات في العديد من البلاد العربية بسبب ما صار يعرف بالإرهابوسلامي.

6) المعارضة اليسارية تحتاج إلى تدقيق حتى لا نعتبر كل مدع يسارا. وبالتالي فما يمكن اعتباره يسارا ليس هو كل معارضة تدعي انتماءها إلى اليسار، أو تدعي التياسر، بل هو اليسار الاشتراكي العلمي الذي يأخذ بالمنهج الاشتراكي العلمي، لأن يسارا من هذا النوع هو الوحيد القادر على تحليل الواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمدني والسياسي تحليلا علميا صحيحا. وهو الذي يستخلص ما يجب بذلك التحليل من اجل صياغة برنامج للنضال من اجل الديموقراطية الذي يعتمد في ممارسة المعارضة الحقيقية للنظام الرأسمالي التبعي في البلاد العربية. ومن اجل مواجهة المخططات الرأسمالية والرأسمالية التبعية، وعلى جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية، وسعيا إلى تحقيق الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية التي يمكن اعتبارها في النضال من أجل الوصول إلى تحقيق الدولة الاشتراكية البديل الوحيد للدولة الرأسمالية التبعية في العالم العربي.

وانطلاقا من هذا التصنيف الذي سقناه أعلاه، فإنه يمكن أن نقول: إن المعارضة في عمقها هي السعي الدءوب وبمنطلقات علمية صحيحة تتناقض تناقضا مطلقا مع منطلقات النظام العربي إلى مواجهة مخططات النظام الرأسمالي التبعي في البلاد العربية، ومن اجل تغيير ذلك النظام الرجعي والمتخلف بما فيه مصلحة الكادحين وطليعتهم الطبقة العاملة، وعلى إيقاع النضال من اجل الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية، وفي أفق بناء الدولة الاشتراكية باعتبارها دولة الكادحين.

والجهة الوحيدة التي يوكل إليها الحق في ممارسة هذه المعارضة، وبصدق هي اليسار الاشتراكي العلمي وما سواه لا يمكن اعتباره إلا معارضة شكلية تسعى إلى تحقيق أهداف أخرى لا علاقة لها بالحرية، ولا بالديموقراطية، ولا بالعدالة الاجتماعية، ولا برفع الحيف عن الكادحين، ولا تختلف في جوهرها عن أهداف النظام العربي الذي يعمل على تأبيد الاستبداد بالشعوب العربية من المحيط إلى الخليج.

وانطلاقا من هذا التحديد لمفهوم المعارضة نجد أنفسنا متسائلين:

هل معنى هذا أن المعارضة وبهذا المفهوم الذي حددناه هي وحدها الجديرة بطرح المطالب الديموقراطية؟

 أليس من حق الحزب الديموقراطي أن تكون له مطالب ديموقراطية؟

 أليست مطالب الأحزاب البورجوازية التابعة مطالب ديموقراطية؟

 ألا يمكن أن تكون للحزب البورجوازي –الليبرالي مطالب ديموقراطية؟

 ألا نعتبر مطالب أحزاب البورجوازية الصغرى مطالب ديموقراطية؟

 أليس من حق اليسار أن يطرح مطالب ديموقراطية؟

 أليس من حق اليسار المغامر أن يطرح مطالب ديموقراطية؟

ارتباط الديموقراطية بمطالب اليسار:

إننا عندما نرتبط بالمطالب الديمقراطية فإننا نرتبط مباشرة بحقيقة الديموقراطية، وهل هي ديمقراطية الواجهة؟ أم أنها ذات بعد سياسي فقط؟ أم أن الديموقراطية لا تكون حقيقية إلا بمضامينها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية بالإضافة إلى المضمون السياسي كما نرتبط بطبيعة الجهة التي تدعي أنها تناضل من اجل الديموقراطية.

ولذلك نجد أن النضال من اجل الديموقراطية الحقيقية ليس متاحا أمام كل التوجهات التي تدعي النضال الديموقراطي.

فالأحزاب الإقطاعية أو ذات الطابع الإقطاعي عندما تدعي أنها تناضل من اجل الديموقراطية فإن الذي يهمها ليس هو تحقيق الديموقراطية ولو في مستواها السياسي أو الانتخابي، بل هو إشراكها في استغلال الشعوب العربية، وتمكينها من مجموعة من الامتيازات أو إعطاءها الفرصة لفرض الاستبداد الإقطاعي الذي يهدف إلى تأبيد السيطرة الإقطاعية. ليكشف بذلك بطلان ادعائها العمل على تحقيق الديموقراطية.

والأحزاب البورجوازية التابعة عندما تدعي سعيها إلى تحقيق الديموقراطية، فإننا نجد أن ما تسعى إليه هذه الأحزاب لا يتجاوز الممارسة الديموقراطية الشكلية أو ما يمكن تسميته بديموقراطية الواجهة حتى تكتسب هذه الأحزاب دعم النظام الرأسمالي العالمي، وحتى تجد لها مخاطبا على المستوى العالمي، وحتى تغطي على ممارستها لتزوير إرادة الشعوب العربية في حالة وصولها إلى المسؤوليات المختلفة، وعن ممارستها للاستبداد بالمجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية. تلك الممارسات التي صارت معروفة لدى الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج، مما يجعل الأحزاب البورجوازية التابعة منبوذة.

أما الأحزاب البورجوازية ذات الطابع الليبرالي والتي سرعان ما تذوب في صفوف الأحزاب البورجوازية التابعة فإن فهمها للديموقراطية لا يتجاوز تمكينها من حرية تنمية تلك الثروات لتكون بذلك ديموقراطيتها ليبرالية متخلفة لا ترقى إلى ما عليه ليبرالية الغرب وخاصة في بداية ظهور البورجوازية الليبرالية. ولذلك فهي كسابقتها لا تسعى إلى ديموقراطية حقيقية ولو في مستواها السياسي أو الانتخابي لذلك سرعان ما تنكشف أحابيلها بالتحاقها بركب أحزاب البورجوازية التابعة وقبولها بديموقراطية الواجهة التي لا تعني إلا تزوير إرادة الشعوب العربية لصالح التحالف الرأسمالي التبعي.

وبالنسبة لأحزاب البورجوازية الصغرى فإننا نجد أن ادعاءاتها تتأرجح بين إمكانية الصدق وإمكانية عدم الصدق في ممارسة المعارضة الصادقة. وإذا كان ذلك يلحق الضرر بتحقيق تطلعاتها الطبقية مارست النفاق في المعارضة، وبالتالي فإن البورجوازية الصغرى قابلة لممارسة جميع الاحتمالات.

وفي جميع الأحوال فالمعارضة البورجوازية الصغرى، ونظرا لطبيعتها التوفيقية والتلفيقية، فإنها لا تستطيع أن تمارس إلا الوسطية في معارضتها للنظام العربي الذي قد ينتبه إلى طبيعة قياداتها فيغدق عليها الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية فتصير أكثر إخلاصا للنظام العربي نفسه، وتكون أكثر استعدادا لتنفيذ تعليمات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمؤسسات المالية الدولية كما حصل في عدة بلدان عربية ساهمت أحزاب البورجوازية الصغرى في تحمل مسؤولية الحكم فيها. ولذلك فمعارضة أحزاب البورجوازية الصغرى للنظام الغربي يجب أن لا تؤخذ على محمل الجد، ومطالبها لا يمكن أن تكون مطالب ديموقراطية لارتباطها بتحقيق تطلعاتها الطبقية.

وعندما يتعلق الأمر بالمعارضة الاحزابوسلامية فإننا نجد أنها معارضة تهدف إلى نقض استبداد باستبداد آخر ومطالبها لا تتجاوز السعي إلى إقامة نظام استبدادي. فمطلب إقامة الدولة الدينية هو مطلب مغرق في الاستبداد، ومطلب تطبيق الشريعة الإسلامية ينفي إرادة الجماهير الشعبية الكادحة كما ينفي إمكانية الوصول إلى القول بأن الشعب موجود وعليه أن يعبر عن وجوده بتقرير مصيره. وان تقرير مصير الشعوب العربية يصير في خبر كان. وإذا كانت هناك مطالب ديموقراطية عند الاحزابوسلاميين. فلأجل أن تتاح لهم الفرصة لتجييش المزيد من الكادحين وراءهم حتى يتأتى لهم ممارسة المزيد من الضغوط لتمكينهم من فرض المزيد من الاستبداد. وعندما يتمكنون من الوصول إلى السلطة فإن هذه السلطة تصير أكثر استبدادا، وتوضع مطالبهم الديموقراطية على الرفوف. وتصير المطالبة بالديموقراطية كفرا وإلحادا، ويتحول المطالبون بها إلى كفرة وملحدين يجب التخلص منهم وإلى الأبد. ولذلك فوجود الأحزابوسلامية في العالم العربي سيعتبر مبررا للتراجع عن الكثير من المكتسبات التي تم تحقيقها عن طريق النضال الديموقراطي، بدعوى قطع الطريق أمام إمكانية وصول الاحزابوسلامية إلى السلطة. مما يدفع هذه الأحزاب إلى ممارسة الإرهاب في حق الجماهير الشعبية الكادحة وفي حق الحاكمين في مختلف البلاد العربية كما يحصل في الجزائر وفي المغرب وفي مصر وفي السعودية وفي العراق.

وفيما يخص اليسار المغامر فإن طبيعته لا تختلف عن طبيعة الاحزابوسلامية، لأنه لا يحمل أي فهم للديموقراطية ومطالبه التي تحمل طابع التطرف لا علاقة لها بالمطالب الديموقراطية. وممارسة هذا اليسار لا تختلف عن ممارسة الاحزابوسلامية التي تنظم اليمين المتطرف. مما يجعل وجود هذا اليسار تشويشا على النضال الديموقراطي الحقيقي وعلى المناضلين الديموقراطيين الحقيقيين، ويعتبر في نفس الوقت مبررا لوضع القوانين التي تقوم بعرقلة الديموقراطية الحقيقية. وهو ما يعتبر تراجعا عما تحقق حتى الآن في العالم العربي عن طريق ممارسة النضال الديموقراطي الحقيقي.

والأحزاب التي تستطيع أن تتقدم بمطالب الديموقراطية الحقيقية لا تروم إلا خدمة مصالح الكادحين وطليعتهم الطبقة العاملة هي أحزاب اليسار الاشتراكي العلمي الذي يمتلك منهج التحليل العلمي ويسعى إلى تحقيق الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية عن طريق:

1) العمل على قيام الشعب بوضع دستور ديموقراطي يكرس سيادته، ويعمل على تقرير مصيره بنفسه على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية.

2) إجراء انتخابات حرة ونزيهة تهدف إلى إيجاد مؤسسات تمثيلية حقيقية معبرة عن احترام إرادة الشعوب العربية في البلاد العربية من المحيط إلى الخليج.

3) ملاءمة القوانين المحلية مع المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان حتى يتم احترام الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية في أفق قيام دولة الحق والقانون التي هي الملاذ للجماهير الشعبية الكادحة التي تعاني من الحرمان الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمدني والسياسي. فضمان تمتع الكادحين بمختلف الحقوق يعتبر هدفا أسمى في النضال الديموقراطي ولذلك كانت المطالبة بملاءمة القوانين المحلية مع المواثيق الدولية مسألة أساسية ومركزية في المطالب الديموقراطية.

4) قيام حكومة معبرة عن إرادة الشعب العربي في كل بلد عربي على حدة حتى يتأتى عمل الحكومة لصالح إرادة الشعب وحتى تكون مسئولة أمام البرلمان.

5) العمل على تحسين الأوضاع المادية والمعنوية للكادحين سواء تعلق الأمر بالجانب الاقتصادي أو بالجوانب الاجتماعية والثقافية والسياسية حتى تضمن الجماهير الشعبية الكادحة توفير الإمكانيات المادية والمعنوية الضرورية للحياة.

6) ضمان الحريات العامة النقابية حتى تتاح الفرصة لجميع المواطنين في كل بلد عربي من الالتحاق بالتنظيمات السياسية النقابية من أجل ممارسة حقوقهم النقابية والسياسية. أو إنشاء تنظيمات سياسية أو نقابية تقود نضالاتهم في أفق تحقيق المطالب المادية والمعنوية من اجل الوصول إلى السلطة السياسية.

واليسار عندما يطرح هذه المطالب وغيرها فلأنه يسعى فعلا إلى أن يصير النضال الديموقراطي خير وسيلة لتحقيق المطالب الديموقراطية التي تقود إلى التغيير الحقيقي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية، ولأنه كذلك كان من اللازم القول والإقرار العلمي الموضوعي بأن اليسار الاشتراكي العلمي وحده المؤهل لطرح المطالب الديموقراطية ووحده المؤهل لقيادة النضالات المطلبية في أفق تحقيق تلك المطالب، ووحده المؤهل لتعبئة الجماهير المعنية بالنضال الديموقراطي وقيادتها في أفق تحقيق الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية.

فهل يمكن تحويل المطالب الديمقراطية إلى مطالب أساسية؟

تحويل المطالب الديمقراطية إلى مطالب أساسية:

إن كل حزب بما لديهم فرحون، كما يقولون، وكل حزب يعتبر مطالبه مطالب ديمقراطية، وقد بينا أن فهم الأحزاب البورجوازية التابعة، وأحزاب البورجوازية والبورجوازية الصغرى، لا تطرح إلا ممارسة مطلبية لا ترقى إلى مستوى طموحات الشعب العربي. ولذلك، فمطالب هذه الأحزاب، ومن قبلها الأحزاب الإقطاعية، ومعها الاحزابوسلامية لا يمكن أن تصير مطالب أساسية، لأنها إن تحققت على ارض الواقع لا يمكن أن تنتج إلا تحقيق مصالح الإقطاعيين أو البورجوازية التابعة أو البورجوازية أو البورجوازية الصغرى، أو مؤدلجي الدين الإسلامي. أما الكادحون فيستمرون في عيش الحرمان بكل المعاني والدلالات. ولذلك، فالمطالب الوحيدة التي يمكن أن تتحول إلى مطالب ديمقراطية أساسية، هي مطالب اليسار الاشتراكي العلمي الذي يحمل اسم الطبقة العاملة، أو الأحزاب الثورية التي تعمل وفق برنامج محدد وهادف، من اجل تحقيق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

فمطلب الحرية يعتبر مطلبا أساسيا، ويقتضي العمل على إيجاد مناخ يسعى إلى فرض تمتيع جميع الناس، وفي جميع البلاد العربية بالحريات العامة والنقابية، فيمتلكون الوعي الصحيح بها، ويسعون إلى تنظيم أنفسهم في أحزاب، وجمعيات، ونقابات من اجل النضال اليومي لتحقيق المطالب الاقتصادية والاجتماعية.

فمطلب الحرية يعتبر مطلبا أساسيا، ويقتضي العمل على إيجاد مناخ يسعى إلى فرض تمتيع جميع الناس، وفي جميع البلاد العربية بالحريات العامة والنقابية، فيمتلكون الوعي الصحيح بها، ويسعون إلى تنظيم أنفسهم في أحزاب وجمعيات ونقابات من اجل النضال اليومي لتحقيق المطالب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية. لأنه بدون التمتع بالحرية اللازمة التي يجب أن تكون مضمونة دستوريا وبنص القانون يبقى الشعب العربي محكوما بهاجس الخوف، كما هو حاصل في مختلف البلدان العربية. ويصيرون عاجزين عن القدرة على امتلاك الوعي الكامل بحقيقة الحرية، وبضرورة التمتع بها، ليصير القمع ممارسة يومية، لا يستطيع سكان الوطن العربي مقاومته بسبب التعود على قبول الاستبداد، وبصيرورة الاستبداد ممارسة فردية وجماعية. ولذلك كان مطلب الحرية مطلبا أساسيا ويعتبر أساسيا في الممارسة النضالية اليومية، للأحزاب والنقابات والجمعيات، وفي ممارسات الشعوب على مستوى الوطن العربي حتى تصير الحرية قائمة على ارض الواقع، وتدخل في صلب النظام العربي المأمول.

وبالنسبة لمطلب الديمقراطية فإن أساسيته تقوم على النضال المرير وبدون هوادة لحشد الشعب العربي، وفي كل وطن عربي على حدة من اجل:

1) قيام دساتير ديمقراطية في جميع البلدان العربية على أساس أن تكون تلك الدساتير ضامنة للسيادة الشعب على نفسه ومتلائمة مع المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، حتى يتمكن الشعب في كل بلد عربي من التمتع بحق تقرير مصيره الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمدني والسياسي.

2) إجراء انتخابات حرة ونزيهة، من اجل إيجاد مؤسسات تمثيلية حقيقية اعتمادا على قوانين انتخابية تعمل على الحد من الممارسات المسيئة إلى إرادة الشعب في كل بلد عربي، ومن اجل أن تكون المجالس المنتخبة في خدمة ذلك الشعب أو هذا.

3) إيجاد حكومة من الأغلبية التي يختارها الشعب انطلاقا من برنامج معين، حتى تقوم تلك الحكومة بإيجاد حلول ديمقراطية للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية اعتمادا على البرنامج المختار من قبل الشعب العربي، وحتى تتغير أحوال المواطن العربي من المحيط إلى الخليج.

4) العمل على ملاءمة القوانين المحلية ففي كل بلد مع المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان حتى تصير تلك القوانين ديمقراطية، ويزول منها الطابع الاستبدادي الذي لازال يحكمها حتى الآن.

أما بالنسبة لمطلب العدالة الاجتماعية، فإنه يجسد الجانب العلمي الميداني للممارسة الحقوقية لأنه يهدف إلى تمتيع الناس بالحق في:

1) دخل اقتصادي متناسب مع المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان من جهة، ومع متطلبات العيش الكريم من جهة أخرى.

2) الحصول على التعليم المتناسب مع متطلبات الحياة، ومع الإمكانيات والمؤهلات التي يتوفر عليها الفرد في المحيط الاجتماعي الذي يتواجد فيه حتى يكون أكثر فاعلية في تطوير الواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي.

3) الشغل الذي يجب أن يتناسب مع المؤهلات التي يتوفر عليها كل فرد، ومن اجل أن يكون ذلك التناسب من الدوافع التي تعمل على تطوير العمل.

4) السكن الإنساني المعبر عن احترام كرامة الإنسان عن طريق توفير السكن الصالح، ومحاربة احتكاره من قبل فئة معينة، وتنظيم التمكن منه تنظيما محكما.

5) العلاج المناسب للمرضى بأمراض مختلفة، وجعل التطبيب في متناول جميع أفراد الشعب في كل بلد عربي من اجل العمل على القضاء على الأمراض العضوية والنفسية والعقلية ومسبباتها.

ولذلك نجد أن مطالب المعارضة اليسارية الاشتراكية العلمية هي التي يمكن أن تتحول إلى مطالب أساسية لأنها قائمة على أساس التحليل الملموس للواقع الملموس.

أما مطالب الأحزاب الأخرى، ونظرا لقيامها على أساس التحليل المثالي للواقع، فإنها لا يمكن أن تكون أساسية لافتقارها إلى الأساس العلمي، والمادي للواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي، الذي لا يمكن أن يكون إلا ماديا.

وانطلاقا من واقعية التحليل الإقطاعي والبورجوازي التابع، والبورجوازي، والبورجوازي الصغير، والحزبوسلامي، واليساري المغامر الذي لا يكون إلا مثاليا، ولا يغرق العالم العربي إلا في المزيد ممن المآسي والكوارث التي تلم به كلما وصلت جهة من هذه الجهات إلى الحكم، بسبب انسياقها وراء إملاءات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والمؤسسات المالية الدولية.

فهل أن تصير الديمقراطية، وبالمفهوم غير العلمي إملاء خارجيا؟

وهل تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية، كقائدة للعالم الإسلامي أن تفرض الممارسة الديمقراطية، ولو بمفهومها الانتخابي؟

أمريكا والديمقراطية في العالم العربي:

إن أمريكا، وبالتحديد الولايات المتحدة الأمريكية، قائدة وزعيمة للنظام الرأسمالي العالمي، ومن طبيعة النظام الرأسمالي العالمي بشكليه القديم والحديث والمعاصر والمعولم، أنه لا يمكن أن يكون ديمقراطيا بالمعنى الحقيقي للديمقراطية، وبمضمونها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمدني والسياسي. لأن النظام الرأسمالي العالمي عندما يدعي حرصه على الممارسة الديمقراطية، فإنه يختصرها في الممارسة الانتخابية الصرفة التي نعرف جيدا كيف تمر في الميدان، وما هي الضغوط التي تخضع لها، حتى في عقر بيت النظام الرأسمالي العالمي الذي يعمل على إعطائها إخراجا يجعلها في مستوى تحمل مسؤولية السيطرة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية والعسكرية على الكادحين، وفي جميع أنحاء العالم، وخاصة في البلدان ذات الأنظمة التابعة، ومنها العالم العربي الذي تحكمه أنظمة ترضى عنها أمريكا، أو تنصبها، أو تعمل على تنصيبها. وهذه الأنظمة التابعة ليست ديمقراطية، ولا يمكن أن تكون ديمقراطية، وما تقوم به هذه الأنظمة لا يمكن تصنيفه إلا في إطار ما يمكن تسميته بديمقراطية الواجهة التي لا يمكن أن تكون إلا مزورة.

والولايات المتحدة الأمريكية عندما طرحت مشروع الشرق الأوسط الكبير، والذي أظهرت من خلاله إضاءات توضح إلى أي حد تغري شعوب المنطقة بقيام ديمقراطية حقيقية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية عن طريق العمل على تغيير القيم السائدة في العالم العربي، والتي لا يمكن وصفها إلا بالقيم الاستبدادية، فإنها تهدف من وراء طرحه إلى قيام الأنظمة العربية بالانبطاح أمام أعتاب النظام الرأسمالي العالمي حتى تطمئن الولايات المتحدة الأمريكية على مصالحها المتمثلة في تمكن شركاتها الكبرى، والعابرة للقارات من السيطرة على اقتصاديات المنطقة العربية وخاصة البترول العربي، الذي لم يعد عربيا لوقوعه تحت طائلة تلك الشركات التي تسوقه إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وكما هو واضح في العالم العربي، فإن الولايات المتحدة الأمريكية وبسبب الانبطاح العربي أمام أعتابها، فإنها لم تعد تحرص على احترام الممارسة الديمقراطية في البلاد العربية لأنها تأكدت من الولاء المطلق للأنظمة العربية لها، وسعت إلى إفساح المجال أمام شركاتها الكبرى لتستنزف خيرات البلاد العربية المادية والبشرية من اجل تنمية ثرواتها وخاصة بعد فضيحة ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية في العراق، والذي افرز لنا:

1) ظاهرة امتداد القتل والتشريد إلى كل البيوت العربية.

2) ترشيح العراق ليصير دولة الطوائف من جهة، ودولة دينية من جهة أخرى.

ومع ذلك فإن الولايات المتحدة الأمريكية تشيد بما تم إنجازه في العراق الشقيق على انه هو الديمقراطية التي يمكن إنشائها في الوطن العربي من المحيط إلى الخليج. وهذه الديمقراطية لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بما ورد في مشروع الشرق الأوسط الكبير.

ولذلك فدعوة الولايات المتحدة الأمريكية إلى قيام الديمقراطية في الوطن العربي هو دعوة إيديولوجية صرفة تهدف إلى تضليل الشعب العربي في كل بلد عربي، من أجل أن يجعل من أمريكا، ومن الولايات المتحدة الأمريكية بالخصوص مثالا للاحتذاء، وأملا للخلاص حتى لا يلتفت إلى ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية من مآسي ظاهرة وباطنه، مباشرة وغير مباشرة، وما تنجزه إسرائيل من كوارث في الوطن العربي لتتحول بذلك الولايات المتحدة الأمريكية إلى مجرد ممارسة للتضليل الإيديولوجي الرأسمالي العالمي، وتسقط أوراق التوت عن عورتها وعلى المستوى العالمي. ويبقى الأمر في العالم العربي على ما هو عليه، والقيمة المضافة الوحيدة هي اعتماد القوة لجعل الأنظمة العربية تساقط رطبا أمام أعتاب البيت الأبيض، وتتهالك أمامه من اجل الفوز بممارسة الانبطاح أمام الرئيس الأمريكي.

وإذا افترضنا أن أمريكا عندما جاءت إلى الوطن العربي بجيوشها التي تبيد البشرية، وتبيد حضارة الإنسان في المنطقة العربية وعندما أقدمت على إسقاط نظام صدام. فما هي الإصلاحات السياسية التي قامت بها في العراق؟

أمريكا والإصلاحات السياسية في العراق المحتل:

إننا عندما نرتبط بالولايات المتحدة الأمريكية كزعيمة النظام الرأسمالي العالمي إنما ترتبط بتاريخ الظلم والقهر وتقتيل الشعوب المقهورة وتشريدها، وخلق الأعذار لاحتلال مجموعة من الأماكن الإستراتيجية في العديد من مناطق العالم، من اجل إعلان السيطرة المطلقة على الكرة الأرضية، ودعم كل ما هو رجعي، ومتخلف وإحيائه إن انعدم. والوقوف إلى جانب الأنظمة الرجعية والمتخلفة في العديد من مناطق العالم، وإعلان الانقلاب وتنظيمه ودعمه لاستئصال الديمقراطيات الحقيقية وصرف الملايير من الدولارات وبدون حدود من اجل الإطاحة بالنظام الاشتراكي العالمي ومن قبله الإطاحة بالأنظمة الاشتراكية الصغرى في جميع القارات مجندة لأجل ذلك مؤدلجي الدين بصفة عامة، ومؤدلجي الدين الإسلامي بصفة خاصة من اجل توظيف تحريف الدين بواسطة الادلجة لاستئصال الفكر الاشتراكي واجتثاثه من العالم العربي، ومن باقي بلدان المسلمين نظرا للاحتكاك المباشر بين العالم العربي، وجميع بلدان المسلمين بسبب وحدة العقيدة ووحدة التاريخ، ووحدة المصير. فمؤدلجو الدين الذين امتلكوا القدرة على التأثير في العرب وغيرهم بسبب تدني الوعي الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمدني والسياسي كانوا يتلقون الدعم اللات محدود وغير المحسوب من قبل النظام الرأسمالي العالمي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، ومن قبل الأنظمة الرأسمالية التابعة، ومن قبل الرجعية العالمية والعربية بالخصوص بسبب الملايير التي كانت تدرها المستخرجات النفطية من باطن الأرض العربية. بالإضافة إلى الامتيازات المطلقة التي أعطيت لمؤدلجي الدين باعتبارهم رجالا للدين، ونظرا للتأثير الكبير في الساحة الجماهيرية، ولقدرتهم على تجييش مئات الملايين من المسلمين في مواجهة الأنظمة الاشتراكية والاشتراكيين أحزابا وأفرادا من اجل استئصال الفكر الاشتراكي من الواقع في تجلياته المختلفة، وفي جميع مناحيه، وقد أعطيتهم امتيازات لا حدود لها من بينها:

1) تنظيم الحركة المطلقة في أوساط الجماهير الشعبية من اجل تعبئتها ضد الاشتراكية والاشتراكيين، ومن اجل محاصرة الأحزاب الاشتراكية والتضييق على أعضائها وتنفير الناس منها.

2) الإقبال على جمع الأموال وبمختلف الطرق المشروعة وغير المشروعة حتى يتمكن مؤدلجوا الدين من القيام بدورهم كاملا.

3) استغلال المساجد استغلالا مبالغا فيه، من اجل تجييش المسلمين انطلاقا من تلك المساجد حتى يلعبوا دورهم كاملا لإعداد المسلمين لمحاربة الاشتراكيين وبرعاية ودعم النظام الرأسمالي العالمي، والأنظمة التابعة والرجعية العربية المتخلفة.

4) تنظيم عمليات اغتيال المفكرين والمثقفين التقدميين والتنويريين واليساريين حتى يفقد العرب وغيرهم من يوصل إليهم وعيهم الذي لا يكون إلا طبقيا، ومن اجل أن يبقى الوعي الزائف وحده يشق الطريق نحو السيطرة المطلقة على الفكر والوجدان العربيين لصالح الرجعية العربية المتخلفة من جهة، ولصالح النظام الرأسمالي العالمي، ومن اجل تعميق التطرف فكرا وممارسة في المجتمع العربي.

5) تنظيم الجيوش لمحاربة الدول الاشتراكية تحت يافطة "الجهاد الإسلامي" وخاصة في أفغانستان، والشيشان والبوسنة والهرسك، وبدعم من الأنظمة الرجعية والتابعة، ومن النظام الرأسمالي العالمي، وفي أفق إضعاف الدولة الاشتراكية العظمى التي كانت تسمى بالمعسكر الاشتراكي الذي يقوده الاتحاد السوفيتي السابق.

6) الانخراط في الحروب التي تم خوضها في البوسنة والهرسك وفي الشيشان وفي أفغانستان كبؤر يتم الانطلاق منها لإضعاف النظام الاشتراكي الذي كان يعلن صراحة سعيه إلى القضاء على النظام الرأسمالي العالمي الذي لم يكن يتوقع، رغم الآلة الإعلامية الضخمة التي يملكها هذا النظام على المستوى العالمي، أن يسقط النظام الاشتراكي وبهذه السرعة أمام حركة جماهيرية بسيطة استهوتها الآلة الإعلامية الأمريكية وبمختلف اللغات. فتحركت من النظام الرأسمالي الجلاد منقذا من ظلم العدالة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية. لينكشف بعد بسط النظام الرأسمالي بواسطة عملائه على البلدان الاشتراكية السابقة، أن النظام الرأسمالي لا يمكن أن يكون إلا استغلاليا، وفي استغلال الإنسان للإنسان تنتفي الممارسة الديمقراطية الحقيقية التي لا تتحقق إلا في إطار الدولة الاشتراكية رغم الأخطاء التي ارتكبتها.

وانطلاقا من هذا التحليل الملموس للواقع الملموس فإن الولايات المتحدة الأمريكية كزعيمة للنظام الرأسمالي العالمي لا يمكن أن تمارس الديمقراطية أبدا سواء تعلق الأمر ب:

1) مؤدلجي الدين الإسلامي الذين قدموا لها خدمات عظيمة لا ترقى إليها إلا عظمة خيانة الشعوب وخيانة التاريخ، ذلك أنها سرعان ما حولتهم إلى أعداء إستراتيجيين لإلهاء الشعوب بصفة عامة والشعوب العربية بصفة خاصة عن الاستغلال الهمجي الذي تمارسه أمريكا، حتى لا يسعى الناس إلى النضال من اجل الاشتراكية، وينشغلوا بالصراع من اجل المحافظة على ادلجة الدين التي حلت محل الدين الحقيقي الذي وقع في قلوب المومنين به ولا يحتاج إلى من يدافع عنه.

2) أو بالمنتظم الدولي الذي فقد استقلاليته وصار تابعا للولايات المتحدة الأمريكية التي تفرض عليه أن يقرر ما تشاء.

3) أو بالدول التابعة لها والتي عليها أن تنصاع لإرادة أمريكا، وإلا فإنها ستتعرض لغضبها وستصبح غير ديمقراطية، ومؤهلة للاجتياح العسكري الأمريكي.

4) أو بالدول العربية التي يجب عليها أن تقر بشرعية دولة إسرائيل، إن هي أرادت أن تسلم من عقاب أمريكا التي تنتقل بجيوشها إلى البلاد العربية لتأديب من يتطاول عليها وعلى إسرائيل حتى يتم تأديبه أو القضاء عليه. وعندما يعلن الجميع ولاءه في البلاد العربية لأمريكا ولإسرائيل فإنه يتحول، وبقدرة قادر إلى "ديمقراطي" حسب الفهم الأمريكي للديمقراطية.

وانطلاقا من هذه المعطيات التي تعلن عن نفسها من خلال الممارسة اليومية لأمريكا زعيمة النظام الرأسمالي العالمي، فإن احتلال أمريكا ومعها حلفاؤها للعراق، وإسقاط نظام صدام المستبد، ليست الغاية منه بناء نظام ديمقراطي كما قد يتوهم الذين لا يبنون استنتاجاتهم على التحليل الملموس للواقع الملموس بل من اجل إباحة العراق ل:

1) الشركات العابرة للقارات التي شرعت مباشرة في الاستيلاء على القطاعات الأساسية، وعلى رأسها النفط، باسم إعادة الإعمار.

2) نهب تراثه التاريخي الذي صار يملأ بيوت ومتاحف إسرائيل، وأوربا، والولايات المتحدة الأمريكية.

3) الطوائف الدينية التي تسعى إلى إحياء التراث المتخلف الذي لا علاقة له بالدين الإسلامي لا من قريب ولا من بعيد.

4) تسلط عملاء أمريكا، وبمباركتها على السلطة والشروع مباشرة في بناء نظام طائفي قد يؤدي إلى تقسيم العراق إلى مجموعة من الدويلات، بدعوى أن ذلك التقسيم سيكون ديمقراطيا، وأمريكا لا تستطيع من الناحية الديمقراطية أن تفرض على العراقيين الوحدة التي لا يريدونها حتى تكسب ود الطوائف، وتمنع أن تقوم في العراق دولة عربية ديمقراطية قوية.

ولذلك نرى أن ما يجري من إصلاحات سياسية في العراق يراد له أمريكيا أن يكون كذلك حتى لا يتحول إلى بعبع يقلق راحة الولايات المتحدة الأمريكية التي تكلفت مئات الملايير قبل إسقاط نظام صدام وبعده. والنتيجة التي وصل إليها العراق تدفعنا إلى القول بأن الولايات المتحدة الأمريكية لا تملك إلا ديمقراطية همجية الاستغلال العالمي لشعوب الأرض وفي إطار عولمة اقتصاد السوق. وهو ما يجعلنا نطرح السؤال:

أليست ديمقراطية الخضوع للضغوط الخارجية هي المطلوبة من الأنظمة العربية حتى تعتبرها أمريكا ديمقراطية، وحتى تسلم من عواقب ما قد تقدم عليه الولايات المتحدة الأمريكية؟

الديمقراطية والخضوع للضغوط الخارجية:

إننا عندما ندقق في مفهوم الديمقراطية فإننا نجد وكما أشرنا إلى ذلك، أن فهم أمريكا للديمقراطية لا علاقة له بالديمقراطية. وبناء على ذلك فإن فهم أمريكا للديمقراطية لا يتجاوز أن يكون وسيلة لإخضاع الأنظمة الحاكمة في البلاد العربية وغير العربية في إفريقيا، وآسيا وأمريكا اللاتينية، ومن اجل تكريس الهيمنة الأمريكية.

ولذلك فممارسة الشعوب العربية لحقها في التمتع بالديمقراطية يتناقض تناقضا مطلقا مع سيطرة الأنظمة التابعة المرتبطة بأمريكا على هذه الشعوب المغلوبة على أمرها.

ومع الهيمنة الأمريكية التي تبارك ما تمارسه تلك الأنظمة التي تصفها بالأنظمة الديمقراطية. والنضال من اجل تحقيق الديمقراطية رهين بالنضال من اجل التمتع بحق تقرير المصير الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمدني والسياسي عن طريق تمكينها من إقرار دستور ديمقراطي يكرس سيادتها، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة لإيجاد مؤسسات تمثيلية تكرس سيادة الشعب، وتعمل على حماية تلك السيادة، وانفراز حكومة وطنية من أغلبية البرلمان في كل بلد تكون مهمتها العمل على تنفيذ القانون سعيا إلى قيام دولة الحق والقانون.

ومعلوم أن الأنظمة العربية، ونظرا لطبيعتها التسلطية والاستبدادية والبيروقراطية، لا يمكن أن تسمح بقيام ديمقراطية حقيقية. لأن الديمقراطية الحقيقية يمكن أن تعصف بكل الأنظمة العربية القائمة في البلاد العربية على أساس الظلم وقهر الشعوب العربية، تارة باسم القانون، وأخرى باسم تطبيق الشريعة الإسلامية، وثالثة باسم الدين، وأخرى باسم الله مباشرة لإعطاء الاستبداد أبعادا قانونية، وشرعية، ودينية، بالإضافة إلى بعد علاقة الحكام بالله.

وبالإضافة إلى الأنظمة القائمة التي لا تسمح بقيام ديمقراطية حقيقية، نجد أن النظام الرأسمالي العالمي لا يمكن أن يسمح بقيام الديمقراطية الحقيقية في البلاد العربية لتناقضها مع المصالح الرأسمالية العالمية. ولذلك نجد أنها تختلق الأقاويل في حق دولة تسعى إلى تحقيق الممارسة الديمقراطية الحقيقية، وتمارس عليها كافة أشكال الحصار حتى تنصاع لإرادة النظام الرأسمالي العالمي.

وانطلاقا من لا ديمقراطية النظام الرأسمالي العالمي، ولا ديمقراطية الأنظمة التابعة في البلاد العربية، فإن هذه الأنظمة التابعة إذا مارست الشكل التقليدي للاستبداد بصفة عامة، والاستبداد الديني بصفة خاصة، فإنها تجد نفسها محرجة أمام العالم، ومحرجة للنظام الرأسمالي العالمي، وللولايات المتحدة الأمريكية. ولذلك فهي تلجأ إلى ممارسة ما يسمى بديمقراطية الواجهة، أو الديمقراطية المشروطة بضمان تبعية البلاد العربية إلى النظام الرأسمالي العالمي، واستباحة البلاد العربية من قبل الشركات العابرة للقارات، وفتح الأسواق العربية أمام البضائع الأجنبية، والخضوع المطلق لاملاءات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والمؤسسات المالية الأخرى، من اجل خدمة أفضل للدين الخارجي. لتكون بذلك الأنظمة العربية أنظمة ديمقراطية حسب الفهم الأمريكي للديمقراطية، وحتى تتجنب الحصار الاقتصادي، والحصار العسكري، والهجوم الإعلامي الذي تشرف عليه الولايات المتحدة الأمريكية بنفسها، ومن اجل أن تضمن مباشرة استبدادها بالشعوب واستغلالها لصالح الطبقات الحاكمة، ولصالح الرأسمالية العالمية في نفس الوقت.

فهل بعد هذا يمكن القول بأن الأنظمة العربية القائمة في البلاد العربية هي أنظمة ديمقراطية؟

وهل نعتبر أن الولايات المتحدة الأمريكية تحرص على قيام الديمقراطية الحقيقية في البلاد العربية؟

أسئلة، واحتمال أجوبة:

السؤال الأول كما ورد في جريدة الحوار المتمدن:

هل إن الضغوط الخارجية قادرة على إقامة أنظمة ديمقراطية في العالم العربي؟ وهل يمكن أن يعد المشروع الأمريكي في العراق من دعائم إقامة الأنظمة الديمقراطية، خصوصا وأن إحدى نتائجه كانت كتابة دستور يؤسس لإقامة دولة دينية، وحكم لرجال الدين؟

إن الذي نعرفه أن الأنظمة التابعة تبقى تابعة، ولا يمكن أن تكون شيئا آخر لأنها وجدت لتنفيذ الاملاءات الخارجية التي تقف في الأصل وراء وجود تلك الأنظمة، ووراء قيامها واستمرارها وتدعمها بدون قيد أو شرط إلا بشرط تبعيتها. وأنظمة تابعة من هذا النوع لا يمكن أن تكون ديمقراطية لعدة اعتبارات:

الاعتبار الأول: أن هذه الأنظمة لا تملك حرية التصرف لارتباطها باملاءات صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والمؤسسات المالية الدولية، وبخضوعها لسيطرة النظام الرأسمالي العالمي.

والاعتبار الثاني: أن هذه الأنظمة لم توجد من اجل أن تكون ديمقراطية وأن وجودها مرتبط بقمع الشعوب وإباحة استغلالها من قبل النظام الرأسمالي عن طريق خدمة الديون الخارجية، وعن طريق الشركات العابرة للقارات بالإضافة إلى ما يقوم به الوسطاء على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية لصالح الوسطاء، ولصالح النظام الرأسمالي في نفس الوقت.

والاعتبار الثالث: أن ضغط النظام الرأسمالي العالمي على الأنظمة التابعة لإقامة الديمقراطية في بلدانها، يقتضي تحريرها من التبعية كما يقتضي قيام اقتصاد وطني متحرر في كل بلد عربي على حدة حتى يتوفر مبرر ممارسة الضغط من اجل تحويل الأنظمة العربية إلى أنظمة ديمقراطية.

و الاعتبار الرابع: أن الأنظمة الديمقراطية في حالة قيامها في البلاد العربية ستعمل على قطع الروابط القائمة على أساس التبعية للنظام الرأسمالي العالمي. وهو ما يعني أن دمقرطة العالم العربي يتناقض مطلقا مع مصالح النظام الرأسمالي العالمي. الأمر الذي يمكن أن يترتب عنه أن قيام النظام الرأسمالي العالمي بممارسة الضغط على البلاد العربية، إنما هو للتمويه فقط، نظرا للحرج الذي تسببه الأنظمة التابعة في العالم العربي للنظام الرأسمالي العالمي.

والاعتبار الخامس: أن الديمقراطية عندما تحترم شروطها وحقيقتها ولو في صيغتها السياسية/الانتخابية، فإنها ستكون متناقضة مع الطبيعة الاستغلالية الهمجية للنظام الرأسمالي العالمي الذي تعودنا منه أن يمارس الضغط على الأنظمة التابعة له، ومن اجل مصادرة الديمقراطية الحقيقية والاكتفاء بديمقراطية الواجهة التي تحافظ على الجوهر الاستبدادي للأنظمة العربية القائمة، وعلى تمكين النظام الرأسمالي العالمي من تكريس استغلال خيرات البلاد العربية.

وبالنسبة للمشروع الأمريكي في العراق الشقيق، فإنه لا يمكن أن يكون أبدا من دعائم إقامة الأنظمة الديمقراطية، وما حصل الآن في العراق، وما يمكن أن يحصل مستقبلا، لا يمكن أن يكون إلا تعبيرا عن حقيقة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج. لأن الديمقراطية بالنسبة إليها تكمن في تطويع الأنظمة القائمة من اجل خدمة مصالحها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية حتى تضمن تلك الأنظمة لنفسها الاستمرار في السلطة، وإلا فإن الولايات المتحدة ستعمل على إيجاد نظام يعمل على خدمة مصالحها، ولا يهمها إن كان ديمقراطيا أو غير ديمقراطي، كما حصل ويحصل في العراق الشقيق بعد إسقاط نظام الديكتاتور صدام حسين. وما حصل في العراق الشقيق يمكن أن يحصل في أي بلد عربي آخر. أما الشعوب فإن عليها أن تقبل الاستغلال المضاعف الممارس عليها باسم ديمقراطية أمريكا، وإلا فإنها ستتعرض لعقاب تلك الأنظمة، وبمباركة الولايات المتحدة الأمريكية كما يحصل في العديد من البلدان العربية.

و لذلك، فمشروع الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط الكبير كما تسميه هي، من اجل تغييب مفهوم العالم العربي والبلاد العربية وغيرها من التسميات المعبرة عن وجود الإنسان العربي، لا يمكن أن يكون إلا مشروعا للتضليل من اجل ضمان إمكانية الانقضاض على أي نظام بدعوى فرض الديمقراطية.

والسؤال الثاني: هل إن وجود نظام ديمقراطي يمكنه أن يحدث تغييرات عميقة في بنية التخلف الاجتماعي والثقافي والسياسي التي تعاني منها الدول العربية، ويفسح المجال أمام الارتقاء بحقوق الإنسان، وأن يشجع مظاهر الرفاهية والتمدن؟

ونحن بوقوفنا على حقيقة ما تسعى إليه الولايات المتحدة الأمريكية في البلاد العربية، فإن قيام نظام ديمقراطي يمكن أن تكون من باب الأحلام. لأن الديمقراطية لا تمنح بقدر ما تنتزع. والشعوب العربية في معظمها فاقدة للوعي الديمقراطي بسبب انشغال القطاعات العريضة من الكادحين بالجري وراء الحصول على القوت اليومي، ونظرا لسيادة الفكر الظلامي الأصولي، ونظرا لطبيعة البرامج الدراسية، ولغياب تحديث جذري للاقتصاد العربي. بالإضافة إلى طبيعة الأنظمة العربية اللا وطنية، واللا ديمقراطية، ولتبعية هذه الأنظمة للنظام الرأسمالي العالمي. ونظرا لكونها كذلك فإنها تبقى مستلبة بأدلجة الدين، وبالغرب وبأمريكا، ومنشغلة باللهث وراء لقمة العيش، ومعتبرة النضال من اجل الديمقراطية مسألة لا تخدم إلا مصالح القيادات الحزبية الانتهازية، ومصالح الطبقات الحاكمة، ومصالح النظام الرأسمالي العالمي. لأن الديمقراطية في حال تحققها لا تتجاوز أن تكون ديمقراطية الواجهة.

وانطلاقا من هذا المعطى الاستبدادي والتبعي والديمقراطي الشكلي، فإن ديمقراطية الواجهة التي يمكن أن تعتمد في هذا البلد العربي أو ذاك، لا يمكن أن تؤدي إلى تغييرات عميقة في بنية التخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمدني والسياسي التي تعاني منها الجماهير العربية في مختلف الدول العربية. لأن التغييرات العميقة في تلك البنية لا يمكن أن تحصل في ظل قيام الأنظمة التبعية وفي ظل سيطرة النظام الرأسمالي العالمي. وبسبب تمكن ادلجة الدين الإسلامي من السيطرة على عقول ووجدان الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج. لأن التغييرات العميقة في الواقع العربي لا تعني إلا وضع حد للتبعية. والحد من سيطرة النظام الرأسمالي العالمي، والوعي بخطورة ادلجة الدين الإسلامي على مستقبل الشعوب، وقيام اقتصاد عربي متحرر، وقيام دساتير ديمقراطية تكون فيها السيادة للشعوب العربية.

وسيادة الأنظمة التابعة، والمنجزة لديمقراطية الواجهة، وفي إطار العمل على أجرأة مشروع الشرق الأوسط الكبير، الأمريكي، لا يمكن أبدا أن يفسح المجال أمام الارتقاء بحقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية وبميثاق إلغاء كافة أشكال التمييز ضد المرأة. وميثاق حقوق الطفل، ولا يعني إلا زوال الأنظمة التابعة وإعطاء الكلمة للشعوب العربية، والتمكن من قطع الطريق أمام السيطرة الرأسمالية العربية على مقدرات الشعوب المادية والمعنوية، وهو ما لا تسمح به الأنظمة التابعة، وما يتناقض مع سعي النظام الرأسمالي العالمي إلى بسط نفوذه على البلاد العربة من المحيط إلى الخليج. وبناء على ذلك فإشاعة مظاهر الرفاهية والتمدن التي ترتبط بإشاعة الديمقراطية وحقوق الإنسان، ستكون من باب الأحلام البعيدة المدى التي تحتاج إلى نضال مرير في أفق تحقيق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

والسؤال الثالث: كيف يمكن التعامل مع التيارات الإسلامية التي يمكنها أن تصل إلى الحكم من خلال صناديق الاقتراع؟

وإن اكبر دليل على غياب الديمقراطية في البلاد العربية هو وجود مؤدلجي الدين الإسلامي الذين كانوا ولازالوا يتلقون الدعم اللا محدود من الولايات المتحدة الأمريكية ومن الأنظمة الرجعية العربية، ومن جهات أخرى مشبوهة لا داعي لذكرها الآن، فهؤلاء المؤدلجون للدين الذين يسمون على المستوى الإعلامي بالتيارات الإسلامية، إنما يسعون لأحد أمرين:

الأمر الأول: هو دعم الاستبداد القائم، والانخراط فيما يسمى بديمقراطية الواجهة حتى يمارسوا انتهازيتهم عن طريق التوظيف الإيديولوجي والسياسي للدين الإسلامي على الشعوب العربية، وعلى الأنظمة التابعة في نفس الوقت حتى يتم إشراكهم، وبرضى "الشعب" في كل بلد عربي في تحمل مسؤولية الحكم لينالوا نصيبهم من الكعكة.

والأمر الثاني: هو سعي هؤلاء المؤدلجين إلى إقامة استبداد بديل عن طريق ممارسة الإرهاب المادي والمعنوي على الشعوب العربية والإسلامية، وعن طريق التخلص بواسطة الاغتيالات المتوالية للديمقراطيين الحقيقيين، وبواسطة القيام بمختلف العمليات الإرهابية التي يسمونها بالعمليات الجهادية، أو الاستشهادية، من اجل فرض استبداد بديل.

أما أن يسعوا إلى إقامة ديمقراطية حقيقية، فهذا أمر غير وارد عندهم، وإذا راهنوا على صناديق الاقتراع فلأنهم متأكدون من أنهم بسيطرتهم الإيديولوجية التي يوهمون بها الشارع في البلاد العربية بأنها هي الدين الحقيقي. ومن اجل الوصول إلى السلطة لفرض استبداد بديل، أو لدعم الاستبداد القائم. أما أن يكونوا ديمقراطيين فهذا غير وارد أبدا.

ولمواجهة مؤدلجي الدين سواء قبل وصولهم إلى الحكم أو بعد وصولهم لابد من:

أ- تجريم إقامة التنظيمات المختلفة على أساس ديني، لأن الدين للناس جميعا، ولا حق لأحد في استغلاله في الأمور الإيديولوجية والسياسية، والنظام الرأسمالي العالمي عندما دعم وجود واستنبات وتنظيم مؤدلجي الدين الإسلامي، فلأنه يريد منهم أن يلعبوا دورهم في واجهتين:

الواجهة الأولى: الحيلولة دون قيام تنظيمات تناضل من أجل الاشتراكية في البلاد العربية، حتى لا تتحول المنطقة إلى قوة تواجه النظام الرأسمالي العالمي.

والواجهة الثانية: إضعاف النظام الاشتراكي، والعمل على انهياره، كما حصل ذلك فعلا.

أما أن يسعوا إلى إقامة الدولة الدينية –كما يسمونها- وكما حصل في إيران. فذلك ما لا ترغب فيه الولايات المتحدة الأمريكية. ولذلك فهي تدفع في اتجاه تخلي مؤدلجي الدين عن الكثير من أطروحاتهم، والانخراط في ديمقراطية الواجهة، والذوبان في الأنظمة العربية التابعة كما حصل في المغرب، وخاصة بعد أحداث 16 مايو بالدار البيضاء.

ب- الاستعداد الدائم للنضال من اجل الديمقراطية بمضمونها الحقيقي المتمثل في:

1) النضال من اجل دستور ديمقراطي تكون فيه السيادة لأي شعب في أي بلد عربي، حتى يتمكن من تقرير مصيره الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمدني والسياسي.

2) النضال من اجل انتخابات حرة ونزيهة من اجل إيجاد مجالس محلية وجهوية ووطنية تكون مهمتها خدمة مصالح أي شعب عربي في أي بلد عربي.

3) إيجاد حكومة من الأغلبية البرلمانية المفرزة عن طريق انتخابات حرة ونزيهة حتى تتمكن من القيام بدورها في خدمة الشعب في أي بلد عربي والعمل على حماية مصالحه.

4) النضال من اجل تحسين الأوضاع المادية والمعنوية للجماهير الشعبية الكادحة في أي بلد عربي حتى تشعر الجماهير العربية بالانتماء إلى الأرض العربية من المحيط إلى الخليج.

ج- النضال من اجل تمتيع الناس بجميع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية عن طريق:

1) اعتبار المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان مصدرا تشريعيا أساسيا قبل اعتماد مصادر أخرى.

2) تجريم اعتماد مصادر التشريع المعتمدة في البلاد العربية، والمتناقضة مع المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان.

3) ملاءمة الدساتير العربية مع المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، لإعطاء الشرعية لاعتماد تلك المواثيق الدولية.

4) ملاءمة القوانين المحلية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية مع المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، واعتبار القوانين غير المتلائمة معها غير شرعية.

5) إنشاء منظمات عامة ومختصة لقيادة النضال الحقوقي في هذا الاتجاه.

وبتجريم إقامة تنظيمات على أساس ديني، والاستعداد للنضال من اجل الديمقراطية الحقيقية، والنضال من اجل تمتيع الناس بجميع الحقوق، يمكن فرض قيام تنظيمات على أساس ادلجة الدين الإسلامي، وفضح وتعرية ما هو قائم منها، والوقوف في وجه تلك التي تصل إلى السلطة ولو عن طريق صناديق الاقتراع. لأن وجود التنظيمات القائمة على أساس ادلجة الدين الإسلامي هو وجود متناقض مع المواثيق الدولية، ومتناقض مع الممارسة الديمقراطية الحقيقية، ويعمل على دعم الاستبداد القائم، أو يسعى إلى إقامة استبدال بديل.

والسؤال الرابع هو: كلما تم الحديث عن إحداث الإصلاح السياسي في العالم العربي، فإن الأنظمة الحاكمة تسارع لطرح خصوصية كل مجتمع، أو أنها تطرح الإصلاح السياسي التدريجي. هل إن الحديث عن الخصوصية والإصلاح السياسي التدريجي يمتلك أرضية واقعية؟

وهذا السؤال يقتضي منا القول بأن الواقع، أي واقع لا يمكن أن يبقى بعيدا عن جدل الخاص والعام. لأن أي واقع محلي، ومهما كان مغرقا في المحلية، فإنه لا يبقى بعيدا عن البعد الوطني، أو البعد القومي، أو البعد العالمي الإنساني. ولذلك فالخصوصية لا تلغي العام إلا في أذهان الحكام المستبدين، أو الذين يسعون، ومن موقع المعارضة إلى إيجاد استبداد بديل، والعام لا يلغي الخصوصية إلا في عرف النظام الرأسمالي العالمي عندما يخرج نظام معين في البلاد العربية أو في غيرها عن طوعه، ليستحق بذلك الحصار والضرب، ثم الاحتلال، والإسقاط من اجل إذابته في النظام الرأسمالي العالمي.

والأنظمة التابعة في البلاد العربية عندما تطرح خصوصية الشعب العربي في أي بلد من البلدان العربية، فهي تقر واقعا قائما ومتميزا.

فالواقع القائم هو الاستبداد الذي لا تراجع عنه في نظرها لأنه يرتبط بخصوصيتها هي كأنظمة مستبدة لا تتحمل الحديث عن الديمقراطية، ولا يمكن أن تتحدث عن الديمقراطية بمعناها الحقيقي التي تكون الكلمة فيها للشعوب العربية التي قد تعصف بالأنظمة الاستبدادية، وتقيم بدلها الأنظمة الديمقراطية الحقيقية إذا صارت لها السيادة على نفسها. ولذلك نجد أن الأنظمة العربية تعني بالخصوصية خصوصية استبدادها هي، وليست خصوصية الشعوب التواقة إلى تحقيق الديمقراطية إلى جانب الحرية والعدالة الاجتماعية.

أما الواقع المتميز فهو تميز هذه الأنظمة بالاستبداد، وبقمع الشعوب، وبفرض حرمانها من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية، وبتبعيتها للنظام الرأسمالي العالمي، وبقبولها بتنفيذ تعليمات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وبالمؤسسات المالية الدولية، وبشرعنة الأبواب أمام الشركات العابرة للقارات، حتى يصير الاقتصاد المحلي تحت رحمة تلك الشركات وبالإخلاص في خدمة الدين الخارجي، وبحرمان الشعب العربي في كل بلد عربي من تلك الحقوق المختلفة وفي مقدمتها حقه في تقرير مصيره بنفسه من خلال إيجاد دستور ديمقراطي وإجراء انتخابات حرة ونزيهة من اجل إيجاد مؤسسات تمثيلية حقيقية معبرة عن أداة الشعب المغربي، ومفرزة لحكومة تقوم بخدمة الشعب وبحماية مصالحه.

وتميز كهذا لا يمكن أن يقبل الديمقراطية لتناقضها مع طبيعة الأنظمة العربية تناقضا مطلقا.و في أحسن الأحوال فإنها يمكن أن تتقبل الإصلاح السياسي التدريجي الذي لا يعني في عمقه إلا تكريس ما يسمى بديمقراطية الواجهة التي لا تعني إلا شرعنة الاستبداد الذي يرتبط ارتباطا عضويا بوجود الأنظمة العربية التابعة الخنوعة والطيعة أمام جبروت النظام الرأسمالي العالمي في الوقت الذي تفرض فيه جبروتها وعنجهيتها أمام الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج.

ولذلك نجد أن الحديث عن الخصوصية والإصلاح السياسي التدريجي لا يمتلك أرضية واقعية لأنه لا يوجد شعب على وجه الأرض يكره أن يتمتع بالممارسة الديمقراطية وبمضمونها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي. وإذا كان هناك ما يمكن تسجيله بالنسبة للشعوب العربية من المحيط إلى الخليج هو التطور المعاق الذي حصل بقرار استعماري، ثم بقرار من الأنظمة الرجعية المتخلفة والتابعة التي تحكمه في بناء التشكيل الطبقي للمجتمعات العربية حيث نجد أن التشكيل القائم هو تشكيل لم يأت نتيجة التطور الطبيعي للمجتمعات العربية بقدر ما جاء نتيجة للتدخل الاستعماري. أو بسبب الفساد الإداري أو بسبب استغلال النفوذ على مستوى الوطن العربي.

وتشكيل طبقي من هذا النوع تكون الطبقة الحاكمة فيه طبقة مستبدة وغير قابلة للممارسة الديموقراطية لتناقضها مع مصالح تلك الطبقة. ولهذا فهي عندما تمارس الديموقراطية فإنها لا تتجاوز ديموقراطية الواجهة، لأنها هي الإطار الذي يمكن أن يعمل على تضليل الجماهير الشعبية الكادحة وتضليل الرأي العام الخارجي في نفس الوقت حتى يعتقد الجميع بأن الطبقة الحاكمة في كل بلد عربي هي طبقة ديموقراطية فعلا والواقع غير ذلك.

وللوصول إلى تكريس تضليل الشعوب العربية فإن الطبقات الحاكمة في البلاد العربية تلجأ إلى:

1) إدعاء أن نظام الحكم في كل بلد عربي هو نظام إسلامي من أجل الشرعية الدينية للحكم وحتى يقبل الناس الممارسة السياسية المجحفة في حقهم على أنها قدر من عند الله وأن الصبر والتحمل يكسب الشعوب الثواب.

2) إدعاء نيابتها عن الله في الأرض وأنها تحكم باسم الله وبتفويض منه على قاعدة "إننا نسوسكم بسلطان من الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيئه الذي خولنا" كما ادعى ذلك الأمويون في بداية حكمهم.

3) شرعنه دسترة الدين الإسلامي على انه دين الدولة في كل بلد عربي من اجل فرض كون الأنظمة الحاكمة في البلاد العربية تنوب عن الله في الأرض، وما يمكن اعتباره وسيلة لجعل الدين الإسلامي أيديولوجية الأنظمة العربية القائمة مما يفرض تجييش مؤدلجي الدين من اجل تضليل الناس بتأويلات الدولة للنصوص الدينية.

4) دعم الأحزاب الرجعية الإقطاعية والبورجوازية التابعة حتى تلعب دورها في تضليل الشعوب العربية عن طريق إيهامها بأن الأنظمة القائمة هي أنظمة ديموقراطية.

5) تشجيع أدلجة الدين الإسلامي ودعم الأحزاب والتيارات الممارسة لتلك الادلجة حتى تكون في مستوى إقناع الشعوب العربية بأن حقيقة الدين الإسلامي لا تختلف جملة وتفصيلا عن حقيقة الادلجة التي يجب أن ينشغل بها الناس.

6) العمل على إجراء انتخابات على مقاس الطبقات الحاكمة واعتبار تلك الانتخابات هي عين الديموقراطية التي تباركها الولايات المتحدة الأمريكية على أنها ممارسة ديموقراطية وتغيير من الداخل بينما نجد أن الواقع غير ذلك لأن ما يجري من انتخابات لا يتجاوز أن يكون ممارسة لديموقراطية الواجهة.

ولذلك فطرح الأنظمة العربية لخصوصية كل مجتمع إنما هو للتبرير فقط حتى تستمر في فرض استبدادها على البلاد العربية. وطرحها للإصلاح السياسي التدريجي ما هو إلا تمسك بممارسة الاستبداد الذي يأخذ طبع الشرعية حتى لا نقول إن الحديث عن الخصوصية والإصلاح السياسي التدريجي يمتلك أرضية واقعية.

خلاصة عامة:

وهكذا نكون قد تناولنا في معالجتنا لموضوع "الديموقراطية والإصلاح السياسي في العالم العربي" مفهوم الديموقراطية ومفهوم اليسار ومفهوم المعارضة، وارتباط الديموقراطية بمطالب اليسار وتحول المطالب الديموقراطية إلى مطالب سياسية التي لا تعني إلا تمكين عملاء أمريكا من السيطرة على أجهزة الدولة وخلق شروط التجزيء والشرذمة كما حصل في العراق، وكيف أن ما يمكن أن يجري في العالم العربي لا بد فيه من قيام ضغوط خارجية محاولين مقاربة الأجوبة على الأسئلة المطروحة علينا من قبل منبر الحوار المتمدن والمتعلقة بالضغوط الخارجية من اجل إقامة الديموقراطية في العالم العربي واعتبار المشروع الأمريكي في العراق من دعائم الديموقراطية في العراق حتى وإن كان من إحدى نتائجه كتابة دستور يؤسس لإقامة دولة دينية وحكم لرجال الدين بالإضافة إلى إحداث تغييرات عميقة في بنية التخلف العربي في مظاهره المختلفة وإفساح المجال أمام الارتقاء بحقوق الإنسان وإشاعة مظاهر الرفاهية والتمدن. وكيف يجب أن نتعامل مع التيارات الإسلامية التي يمكنها الوصول إلى الحكم من خلال صناديق الاقتراع وكيف يجب التعامل مع طرح الأنظمة لخصوصيات المجتمعات العربية والإصلاح السياسي التدريجي مستخلصين من كل ذلك:

1) أن الديموقراطية لا تمنح لا من قبل الأنظمة ولا من قبل النظام الرأسمالي العالمي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. بل إن الشعوب العربية ومن خلال تنظيماتها الحزبية والجماهيرية هي التي يمكن أن تخوض معركة النضال من أجل الديموقراطية حتى النهاية.

2) أن التصور الأمريكي للتغيير في العالم العربي ليس إلا رغبة في إعادة صياغة الواقع العربي حتى يصير في خدمة مصالح النظام الرأسمالي العالمي.

3) أن الأنظمة العربية لا يمكن أن تقبل قيام ديموقراطية حقيقية لتناقضها مع مصالح تلك الأنظمة.

4) أن النضال من اجل الديموقراطية لا يمكنه أن ينفصل عن النضال من اجل الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية.

5) أن الجهة الوحيدة المؤهلة تاريخيا لقيادة الجماهير العربية في أفق الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية هي اليسار الاشتراكي العلمي الذي يملك وحده القدرة على التحليل الملموس للواقع الملموس ومعرفة ما يجب عمله لتغيير الواقع تغييرا ديموقراطيا ليصير في صالح الجماهير الشعبية الكادحة على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية.

فهل يتمكن اليسار العربي من لعب دوره في هذه المرحلة؟

وهل تستجيب الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج للانخراط في النضال الديموقراطي بقيادة اليسار الاشتراكي العلمي؟

وهل يوضع حد للسماح بالاستغلال الإيديولوجي والسياسي للدين الإسلامي؟

وهل تمسك الدول العربية القائمة عن الاستغلال الإيديولوجي والسياسي للدين الإسلامي؟

وهل يتوقف النظام الرأسمالي العالمي عن دعم الأنظمة الرجعية العربية ضدا على مصلحة الشعوب العربية؟

وهل تترك أمر التغيير الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي لإرادة الشعوب؟

وهل يتم اشتراط احترام الممارسة الديموقراطية الحقيقية وحقوق الإنسان كما هي في المواثيق الدولية في التعامل بين الدول؟

ونحن عندما نطرح هذه الأسئلة وغيرها فلأننا نريد أن يبقى النقاش مفتوحا على المستقبل حتى نساهم بتطوير وعي الشعوب العربية صاحبة الحق في النضال من اجل الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية وبقيادة المخلصين من أبنائه.

ابن جرير في 1 تشرين الاول 2005


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى