الرجل الأرنب
" إذا ما عاملت إنسانا كما يبدو لك فستجعله أسوء مما كان عليه. وإذا عاملت إنسانا حسب الصورة التي يطمح هو أن يكونها، ستجعل منه ما يطمح هو إليه."
غوتــــه
الأصدقاء يطلبون الكرة على الرأس وهم في معترك الخصم قبالة المرمى لكنني فضلت استعراض مهاراتي الفردية أمام مدافعين خشنين أرسلاني إلى الهواء بضربتي مقص فكان علي، وأنا في الهواء، أن أحدد جهة الأرضية التي سأسقط عليها وجهة جسمي التي سترتطم بها، ففضلت السقوط على ساقي و... تكسرت.
حملني اللاعبون، زملاء وخصوما، بالتناوب إلى أقرب طبيب للعظام.
الطبيب المحلف لدى المحاكم اشترط تسلم المال قبل إجراء العملية الجراحية على ساقي المكسور ثم طردني في منتصف الليل بعيد العملية وأنا لا أزال تحت تأثير التخدير وأعطاني موعدا بعد شهر.
طيلة شهر كامل، لم تطأ قدماي حماما. النثونة تنبعث من جسدي على بعد أمتار طويلة من مكاني. صرت أخجل حتى من مجالسة أقاربي. أما في الكلية فصرت أكثر انطوائية وأضحيت أفضل الجلوس وحيدا في آخر المدرج تحت فعل الإحساس بالنتونة.
انتهت المهلة، أو الموعد. عدت ثانية إلى الطبيب المحلف لدى المحاكم كي يفسخ لي الجبس. لكن ساقي اليسرى ظهرت أقصر من الساق الثانية ثم إن ركبتي اليسرى لا تنثني!
سبقني الطبيب المحلف لدى المحاكم إلى الحل السحري:
– الآن، يمكنك الذهاب إلى الحمام. هناك، ستعود ركبتك للعمل...
– وساقي القصيرة ؟!
– إذهب أولا إلى الحمام. بعد ذلك سنرى مع قصر الساق...
ذهبت فرحا إلى الحمام ثم عدت إليه ثانية في اليوم الموالي ثم في اليوم الثالث ثم...
قضيت أسبوعا كاملا في التردد على الحمام العمومي حتى انتبه القيم عليه لمواظبتي اليومية على الاغتسال. وبدأت أسمعه يهمس في أذنه صاحبه:
– هذا أعرفه. هو غير متزوج. لكن لماذا كل هذا الاغتسال؟!!!
عدت إلى عيادة الطبيب المحلف لدى المحاكم. كان وحيدا في مكتبه منهمكا في حساب الفواتير حين أفزعته بسؤالي:
– لماذا عوجتني ؟
– أنا لم أعوجك. كل وحظه. العملية الجراحية دائما تسعة وتسعون في المئة نجاح، وواحد في المئة فشل...
– وماذا سأفعل الآن برجل واحدة في الأرض ورجل ثانية في الهواء؟!!
– المهم أنك تمتلك ساقين مثل كل الناس.. .
– سأقتلك، أيها الوغد !
– أغرب عن وجهي، أيها الصنديد!
ثم طاردني بساطور في يده اليمنى ومطرقة في يده اليسرى لكنني كنت أقفز كالأرنب هاربا من القصاص: أستقيم على الساق القصيرة ثم أدفع بنفسي في الهواء بالساق الطويلة فأجد نفسي قد قفزت تسع زليجات ثم تسع آخر ثم ... ثم... ثم...
لم أتوقف إلا وأنا بين رفقائي في الحرم الجامعي ففاجأتهم:
– أنتم شهودي ...
– على ماذا ؟
– الطبيب مسخني وسأحضر لمقاضاته وإلا سأقتله أو يقتلني...
– حذار أن تدخل في خصام مع الطبيب. هو يعرف كل الأدوية وكل السموم. ثم إن الموت بالنسبة له هي حالة عادية. الموت الذي نخافه هو عنده مجرد حالة. والموتى الذين نجلهم هو يقضي يومه يتعثر في جثتهم. إذا دخلت في عداوة معه،فقد يحقنك بحقنة واحدة فيحنطك مثل أفعى أو تمساح...
لم أفهم.
هل سيخذلني أصدقائي؟!...
سمعت أحدهم يردد وهم ينصرفون،جميعا، بعيدا عني:
– هذا قدر الله! ...
أحسست بالعالم يتغير أمامي...
عواطفي تتغير داخلي...
إدراكي يتغير، رؤاي، قناعاتي، تربيتي، آمالي...
هل خذلني أصدقائي؟... ووجدتني أهمس لنفسي:
كيف؟ !
هل ضعت في ساقي؟ !
هل سأتعلم حياة جديدة؟ !
هل أقبل بحياة الأرانب ؟ !...
الدوار ينتابني:
– هل صار لزاما علي أن أقبل بدور جديد في حياة جديدة كأرنب؟
الدوامة تتملك الكون أمام عيني:
– هل أصبحت أرنبا؟ !
ثم وجدت نفسي أصيح بحرقة من يغرق في دوامة من الوحل ويرى نهايته ويحسها:
– تعالوا، أيها الأصدقاء !
لكن الأصدقاء واصلوا ابتعادهم كلما واصلت التوسل:
– اجيبوني ثم انصرفوا إن شئتم: هل سأحيى بقية حياتي هكذا ؟
لكن الأمر لم يكن يهم أحدا غيري:
– أجيبوني من فضلكم. أيها الأصدقاء، إلى أين أنتم ذاهبون ؟ هل تتركوني أنتم أيضا؟...
لكنهم استمروا مبتعدين، صامتين .
نظرت إلى الأرض تحتي ووجدتني أقف على رجل واحدة والأخرى تتأرجح في الهواء. رددت سؤالي بصوت أضعف والدمع المطل من مقلتي يقعر الكون ويحدبه:
– هل توصوني بالحياة هكذا ؟
التفت إلي أحدهم، للمرة الأخيرة، قبل أن ينعطفوا جميعا خلف زاوية المقصف:
– "اشتر حذاء بكعب عال ووفر على نفسك كل العواقب غير المحسوبة !"...
انتبهت لنفسي وقد بقيت وحيدا وسط الحرم. الأساتذة من نوافذ كل الطوابق،على اليمين، يلغطون.هدير السيارات ونفير الشاحنات خارج الحرم، على اليسار، يصيبني بالدوار وأشرع في التفكير في تحويل اتجاهي إلى ما وراء اليمين واليسار، الأعلى: فعوض أن أقفز كأرنب إلى الأمام سأقفز كصاروخ إلى الأعلى:
وإني وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل