الأحد ٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨
في حوارنا مع الشاعرأحمد قشعم
بقلم بسام الطعان

الشعرهو اكتشاف المخبّأ، واقتناص اللحظة التي هي أشبه بالبرق

الشّعر رياضةٌ روحيّةٌ، وسموٌّ عاطفيٌّ، وإضاءةٌ لبقعةٍ مظلمةٍ من بقع الحياة

أحمد قشعم:
باحث وشاعر سوري، من مواليد 1960 مدينة تدمر، إجازة في اللغة العربية ويعمل مديرا للمركز الثقافي العربي في تدمر،
صدر له:
 ظلال النخيل ـ شعر.
 المستثنى بألاـ شعر.
 البلسم الشافي في تاريخ تدمرـ دراسة من 3 أجزاء
 أسماء الأمكنة في تدمر وباديتهاـ دراسة
 من عادات وتقاليد مدينة تدمرـ دراسة
 الحيسانيّة ـ دراسة
له العديد من المقالات والأبحاث المنشورة في الدوريات العربية، التقينا به في المركز الثقافي بتدمر وكان معه هذا الحوار

ـ أنت باحثٌ بالآثار وشاعرٌ، لك مجلّداتٌ عن تاريخ تدمر، وعدّة مجموعاتٍ شعريّةٍ، وتجربتك الشّعريّة جميلةٌ، وبها من النّضج الكثير، الآن كيف تعيش المغامرتين، أقصد مغامرة البحوث والشّعر، وأين تجد ذاتك أكثر؟.
 أعتبر كلّ ذلك شعراً، لأنّني أشعر بهما معاً، والشّعور إحساسٌ، ولذلك سمّي الشّعر شعراً، فكل شيءٍ تحسّ به وتحبّه يصبح لديك هاجساً وشعراً وشعوراً، وأنا عندما أقول شعراً، أو أكتب في التّاريخ والآثار فإنّني أتماهى مع الحالة، وأجد نفسي فيها، وأعيشها وأحياها حياةً شعوريّةً، أحلم بها، وكأنّني أعود إلى زمنها، أحاكي الأشخاص، وأسائل الأطلال، وأبحث في ثنايا كلّ جزئيّةٍ من جزئيّات الحالة التي أعيشها، فالحالة عندي واحدةٌ، سواءٌ أكان ذلك شعراً أم نثراً أم بحثاً، وأجد ذاتي في كلّ حرفٍ أكتبه، وكأنّه جزءٌ منّي أفرغته على الورق، وصار شيئاً أحسّ به، ولا أتخلّى عنه أبداً.

ـ هل لك أن تقدّم للقارئ العربيّ لمحةً عن آثار تدمر، وماذا قدّمت الحضارة التّدمريّة والإنسان التّدمريّ للبشريّة؟.
 حضارة تدمر حضارةٌ عريقةٌ، فهي موطن الإنسان الأوّل الذي وجد في باديتها، وفيها تمّ استئناس بعض الحيوانات، وفيها حضاراتٌ متعاقبةٌ كثيرةٌ، بدأ العمران فيها منذ الألف الثّالث قبل الميلاد –على أقلّ تقديرٍ- كان التّدمريّون خبراء في البادية ومجاهلها، جابوا أصقاع العالم في تجارتهم، وتبادلوا السّفراء مع الهند واليمن، ووصلت تجاراتهم حتّى الصّين، وكان التّدمريّون يعملون على طرد الغزاة من الوطن العربيّ، ووصلت المملكة التّدمريّة إلى حدود فارس وروما، واشتهر التّدمريّون بفنونهم وحضارتهم التي كانت مقدّمةً للفنّ الذي جاء بعد ذلك، فتدمر تحفل بالكثير من المعابد الوثنيّة، كما تعتبر تدمر أوّل دولةٍ سمحت بالحرّيّة الدّينيّة في ذلك الزّمن، فنجد المعابد الوثنيّة إلى جانب الكنائس، وعرف التّدمريّون تقنيّات الماء الكثيرة، فشقّوا التّرع والآبار، وأقاموا الأنفاق والقنوات والحمّامات والصّرف الصّحّيّ، وعرفوا نظام العدّان الذي يعتمد على التّوقيت. وغير ذلك كثيرٌ يصعب ذكره في هذه العجالة.

ـ ما هي أهمّ المكتشفات الأثريّة في تدمر حتّى الآن، وهل من كنوزٍ غير مكتشفةٍ؟.
 المكتشفات في تدمر كثيرةٌ جدّاً، ففي كلّ يومٍ هناك اكتشافٌ جديدٌ، ولكنّ أهمّ الاكتشافات هي: (القانون التّجاريّ التّدمريّ- تماثيل الآلهة الكثيرة- المعابد والمسارح والأسواق- الحمّامات الملكيّة- القصر الملكيّ- تمثال الرّبّة اللات، ومنحوتة أسد اللات، وتماثيل الأشخاص التي تعدّ بالآلاف- المومياء- المدافن البرجيّة- مدافن البيت- المدافن الأرضيّة- الأسوار)، وكلّ نوعٍ من هذا الأنواع متعدّدٌ ومتنوّعٌ، علماً أنّ المكتشف والمنقّب من آثار تدمر لا يعادل ثلاثين بالمائة حتّى اليوم، فلنتصوّر إذن غنى هذه المملكة العربيّة العظيمة التي تعِد بالكثير من الهبات والعطايا في المستقبل إن شاء الله.

ـ الاختراعات التي اخترعها التّدمريّون كثيرةٌ، من هذه الاختراعات السّاعات الشّمسيّة، وهي ابتكاراتٌ حجريّةٌ ترصد إيقاع الزّمن، ومن خلالها اهتدى التّدمريّون إلى تقسيم ساعات النّهار، حدّثنا عن هذه الاختراعات؟.
 تدمر حضارةٌ متكاملةٌ، ومملكةٌ واسعةٌ جدّاً، وكلّ حضارةٍ أو مدينةٍ عظيمةٍ أو عاصمة مملكةٍ عظمى تحتاج إلى كلّ تقنيّات العصر التي تعيش فيه، وتدمر هي أوسع المدن التّاريخيّة وأكثرها تنظيماً وأبنيةً وآثاراً، ففي تدمر تجد العديد من المعابد والأسواق والحّمامات والبيوت والمدافن والأوابد الكبيرة، ومجلس الشّيوخ، وهذا يدلّ على مدى التّنظيم، وكلّ هذه الأمور تحتاج إلى إداراتٍ وقوانين تنظّمها، فكان ذلك، وكان الوقت بالنّسبة لهم ثميناً جدّاً، فاخترعوا السّاعات الحجريّة ووضعوها في السّاحات والأمكنة العامّة، ليشاهدها النّاس، وكانت لديهم أيضاً السّاعات الرّمليّة، وكانوا على معرفةٍ تامّةٍ بالكواكب والنّجوم، ونجد ذلك ماثلاً في معبد (بعل)، حيث نجد صورة الإله في الوسط تحفّ به صور الآلهة التي تمثّل المجموعة الشّمسيّة، ثم نجد الأبراج الاثني عشر منحوتةً في القبّة، كما كان التّدمريّون بارعين في أنظمة الرّيّ وقطاف المياه، فقد حفروا آباراً عربيّةً في البادية لستتفيدوا من الماء، وكان لكلّ قبيلةٍ في البادية آبارٌ بعدد أيّام السّنة، حيث يستخدمون بئراً واحداً في كلّ يومٍ، وكانوا يغطّون هذه الآبار ويموّهونها ويخفونها في أيّام الحروب والخلافات حتّى لا يهتدي إليها الأعداء، ومن اختراعات التّدمريّين تلك المدافن البرجيّة التي تتّسع للمئات، والتي لا يوجد لها مثيلٌ في العالم، وعرفوا التّدمريّون وزن الكتلة وبناء القبّة، وغير ذلك كثيرٌ.

ـ الكثير من البعثات الأثريّة الأجنبيّة تأتي إلى سوريا للتّنقيب عن الآثار، لماذا؟ هل نحن في سوريّة بحاجةٍ إلى هذه البعثات، وماذا ينقص السّوريّين حتّى يستعينوا بمثل هذه البعثات؟.
 البعثات التي تأتي إلى سوريا تأتي وهي مغرمةٌ بحضارة تدمر، تأتي للبحث والتّنقيب وإعداد البحوث ونيل شهادات الدّراسات العليا، ونحن في سورية بحاجةٍ إلى هذه البعثات، وذلك لتبادل الخبرات وزيادة المعرفة، وسورية مليئةٌ بالباحثين والمنقّبين والآثاريّين الذين يعملون جنباً إلى جنبٍ مع هؤلاء، فالأمر ليس انتقاصاً، بل هو منفعةٌ متبادلةٌ، وهذا يحدث في كلّ دول العالم، حتّى في الدّول التي تعتبر متقدّمةً في هذا المجال، والدّليل على ذلك أنّ أبحاث الآثاريّين السّوريّين تعتبر من أهمّ الكتابات وأصدقها عن تلك الآثار، وخصوصاً في الآونة الأخيرة.

ـ بصفتك مديراّ للمركز الثّقافيّ في تدمر، كيف تنظر إلى دور المراكز الثّقافيّة المنتشرة بكثرةٍ في المدن والبلدات السّوريّة، وماذا تقدّم هذه المراكز من خدماتٍ وفوائد للمبدع والمتلقّي؟.
 دور المراكز الثّقافيّة هو تزويد الإنسان بخبرةٍ وذخيرةٍ معرفيّةٍ، وتقديم كلّ جديدٍ ومفيدٍ لهذا الإنسان، وتخليصه من الفكر الخاطىء، وتقديم أفضل الرّؤى والحلول له، وكذلك إقامة الدّورات التّثقيفيّة والدّورات التّدريبيّة والمهنيّة، والأمر متعلّقٌ بإدارة المراكز، فإذا كان مدير المركز مثقّفاً واعياً، فهو الذي يقوم بتفعيل هذا المركز والنّهوض به، أمّا إذا كان من غير الوسط الثّقافيّ فلا يكترث بهذا الأمر كثيراً، ويعتبره عملاً روتينيّاً بعيداً عن التّجديد والإفادة.

ـ ما هي دوافعك الأساسيّة نحو نظم الشّعر؟.
 لم يكن لديّ دوافع لقول الشّعر، لأنّ الشّعر موجودٌ في ذاتي منذ وعيت، فكنت أحفظ الشّعر وأكتبه، وتعلّمت العروض، وأنا في الصّفّ الأوّل الثّانويّ، فكنت أتغنّى في الشّعر أنّى كنت، وكنت في بداية تعلّمي للعروض أقوم بتقطيع عشرات الأبيات في اليوم، وقد قرأت لكلّ الشّعراء المعروفين، قديماً وحديثاً، فالشّعر هو أيكتي التي أرتاح في ظلالها، وأقطف من ورودها وثمارها ما لذّ وطاب لي.

ـ كيف يتشكّل النّصّ لديك، معاناة، انفعال، حزن، فرح، لحظة صفاء، أم ماذا؟.
 النّصّ الشّعريّ يتشكّل من كلّ هذه الأشياء، فليس هنالك شعرٌ حزينٌ أو شعرٌ فرحٌ، هناك لحظات فيضٍ وتدفّقٍ وجيشانٍ تأتي هادئةً لطيفةً أحياناً، وتأتي ثائرةً أحياناً أخرى، وهذه اللحظات والانفعالات هي التي تجعل الشّعر حزيناً أو فرحاً، فأنت وشعرك أبناء اللحظة الفيضيّة، وكأنّك تغيب في عالمك الشّعريّ، فلا تحسّ بمن حولك أبداً، حتّى تفرغ من هذه الحالة الكشفيّة الفيضيّة، وهذه الحالة تولّد نصّاً، وهذا النّصّ ربّما أكون غير راضٍ عنه تماماً، من حيث اللغة والصّور وغير ذلك، ولكنّ الفكرة تكون قد اكتملت وارتسمت وتمّت، فالتّغيير لا يطال إلاّ الشّكل، أمّا المضمون فيبقى، وهذا يتمثّل بتغيير لفظةٍ أو تقديم أخرى، أو محاولة إظهار الصّورة بأبعادها الحقيقيّة والجماليّة، وذلك كما يفعل المصوّر.

ـ من حيث الإيقاعيّة، أيّهما أكثر غنىً، الشّعر القديم ببنيته العموديّة، أم الشّعر الحديث ببنيته التّفعيليّة؟.
 الإيقاعيّة تأتي من خلال الوزن والقافية والرّويّ والشطر والتّصريع، وغير ذلك من لوازم الشّعر، فإذا تخلّى الشّعر عن الموسيقا والإيقاع الذي توفّرها هذه اللوازم، فإنّه يفقد الإيقاع، ومن هنا لا يمكن المقارنة بين الشّعر الموزون والنّثر، وأنا أرى شعر التّفعيلة لا يخرج عن الشّعر الموزون لأنّه منه، وتسمية الشّعر الموزون بالشّعر العموديّ أو التّقليديّ هي تسمياتٌ فيها غبنٌ وتجنٍّ على هذا الشّعر، فالشّعر العموديّ هو الشّعر الذي يلتزم فيه الشّاعر بعمود الشّعر، وعمود الشّعر هو ما كان في الجاهليّة وصدر الإسلام، من حيث الوقوف على الأطلال ووصف الرّاحلة والمحبوب، والمعاناة، ثمّ الدّخول على الغرض الأساسيّ، وهذا لم يعد موجوداً تقريباً، والتّسمية الأخرى هي الشّعر التّقليديّ، فمن يقلّد الشّعراء في هذا الزّمن، إنّها تسميةٌ ظالمةٌ، ويقصد منها الإساءة على الشّعر الموزون.

ـ أغلب النّقّاد والقرّاء لا يبالون بقصيدة النّثر، ويقولون إنّها لا تنتمي إلى الإبداع وأنّها مجرّد صفّ كلامٍ، وأنت ماذا تقول عن قصيدة النّثر؟.
 الشّعر شعرٌ، والنّثر نثرٌ، والفرق بينهما واسعٌ، ولكنّ الجميل والحسن موجودٌ في كليهما، فكم من شاعرٍ وناثرٍ مجيدٍ، المشكلة ليست في التّسمية، بل في النّصّ، سواءٌ أكان النّصّ شعراً أم نثراً، والمعيب في الأمر أن تغمط حقّ أحدهما!!!! فماذا يفيد النّاثر أن يسمّي نثره شعراً؟!! هل الشّعر أسمى وأجلّ من النّثر في نظره؟!... هذا ما يبدو عند من يقولون هذا، وعندما نقول: (قصيدة النّثر)، فهذا التّركيب مكوّنٌ من: (مضافٍ ومضافٍ إليه)، فالقصيدة مضافةٌ إلى النّثر، فكيف يتمّ الجمع بين هذين المتناقضين، أليس النّثر في بعض الأحيان أسمى من الشّعر، لماذا نلجأ إلى هذه المراوغة والكذب على أنفسنا؟!!! أيجد النّاثر نقصاً في نتاجه؟!!! فلذلك يسمّيه شعراً!!!! إنّه يعترف ضمناً أنّ الشّعر أسمى، وهذا انتقاصٌ من النّثر!!! وأحياناً يسمّونه النّثر: (الشّعر النّثريّ- القصيدة الحديثة- الشّعر الحرّ)، فكلّ هذه التّسميات لا تعني شيئاً من الحقيقة، وكلّها مراوغاتٌ وتشويهٌ للشّعر والنّثر معاً، غالبيّة الذين يكتبون هذا النّوع لا يملكون اللغة وأدوات الشّعر، ويهربون نحو هذه التّسميات الجوفاء، وباستطاعة من يشاء أن يكتب ديواناً من هذا النّوع في اليوم الواحد.

الحقيقة البيّنة أنّ الشّعر شعرٌ، وأنّ النّثر نثرٌ، ومحاولة نسبة أحدهما إلى الآخر ظلمٌ وانتقاصٌ له، وإنّني أسال ما هي الفائدة المرجوّة من هذا الخلط والفوضى، لأنّ ذلك إلى اليوم لم يتوضّح أبداً رغم مرور هذه المدّة الطّويلة لظهور هذه الأشياء، فما زالت تراوح مكانها، بل أخذت تتراجع وتتلاشى.

ـ أغلب النّصوص الشّعريّة الحديثة المكتوبة كلاسيكيّاً لا تقدّم أيّ شيءٍ من تلك النّكهة الجميلة في النّص القديم، لماذا برأيك؟.
 أوّلاً أنا أمجّ هذه التّسميات والتّقسيمات للشّعر: (كلاسيكيّ- إبداعيّ- رمزيّ....)، لأنّ الشّعر فوق التّسميات، فالشّعر هو مجموع هذه الأشياء كلّها، والشّاعر الذي يحصر نفسه ضمن بوتقةٍ واحدةٍ ليس شاعراً، لأنّ الشّعر فضاءٌ رحبٌ وانطلاقٌ فوق المصطلحات والتّسميات والقماقم.... والشّعر الذي تسمّيه كلاسيّكيّاً لم يتراجع أبداً، بل تراجع الشّعراء الذين يكتبون هذا الشّعر، ويسمّون أنفسهم: (شعراء)، هناك الكثير من الشّعراء اليوم الذي يكتبون الشّعر الكلاسيكيّ، وهم لا يجيدون من الشّعر إلاّ شكله، وقد كثر هؤلاء كثرة الجراد، وظنّ النّاس أنّ هؤلاء هم الشّعراء، وهناك أيضاً شعراء كلاسيكيّون مازالوا يبدعون أجمل الأشعار، فالأمر متعلّقٌ بالشّاعر ذاته، وليس بالشّعر، فهناك من يدّعون الشّعر، كما يدّعون النّثر، وليس في كتاباتهم شيءٌ من الإبداع، فهو أشبه بالتّكرار وإعادة الصّياغة، أو النّسخ واللصق.

هؤلاء الشّعراء هم الذين أساؤوا للشّعر ودوره، وحالتهم هذه تشبه حالة الفضائيّات= الفضائحيّات العربيّة التي تتكاثر كالطّحالب في سمائنا، تنظر إلينا من علٍ، وتنفث سمومها، ولا تحسّ بنا، وكلّ دورها هو الإفساد والتّخريب.

ـ كيف تنظر إلى دور ووظيفة الشّعر في الحياة؟.
 الشّعر رياضةٌ روحيّةٌ، وسموٌّ عاطفيٌّ، وإضاءةٌ لبقعةٍ مظلمةٍ من بقع الحياة، هو اكتشاف المخبّأ، واقتناص اللحظة التي هي أشبه بالبرق، وإفراغها في قالبٍ شعريٍّ جميل الشّكل والأسلوب والمضمون، سهل الولوج إلى وجدان المتلقّي.

أحياناً تجد من ينتقصون الشّعر، وهم يرون أنّ الشّعر هو كلامٌ بكلامٍ، وأقول لهم: وهل كان الشّعر غير ذلك؟!!!! هم يريدون من الشّعر أن يحلّ مشكلاتهم، وغير ذلك من أمورٍ، وهذا ليس عمل الشّعر، لأنّ الشّاعر مهمّته هي إضاءة الشّيء وإبرازه، وتقديمه للنّاس، ومهمّة التّنفيذ ليس من اختصاصه، هو ينتقد ويبيّن ويحرّض ويرى، والرّؤية تحتاج إلى الفعل، والفعل ليس من مهامّه، ومن يحمّل الشّعر أكثر من ذلك، فإنّه يظلمه، ولا ينصفه، الشّاعر لسان حال أمّته، يرى بعينه، ويحسّ بقلبه، ويمثّل آمال ناسه ومجتمعه، وينقل همومهم، ويصوّر معاناتهم، وهذه مهمّة الشّعر المقدّسة.

ـ ما السبب في سيطرة قصيدة التّفعيلة على المنابر الشّعريّة على حساب القصيدة العموديّة؟.
 بدايةً يجب أن نعرف ما هي قصيدة التّفعيلة، فهذا النّوع من الشّعر يعتمد على تفعيلةٍ واحدةٍ في القصيدة، يلتزم بها الشّاعر من أوّلها إلى آخرها، وربّما نوّع في المقاطع أحياناً، فأساسها التّفعيلة، والتّفعيلة لبنةٌ أساسيّةٌ من العَروض، فهذا النّوع لم يخرج عن الشّعر، الذي تغيّر هو الشّكل فقط، فالأشطر تتغيّر وتتعدّد، والقوافي تتبدّل، وهكذا، وبدايات هذا النّوع تعود إلى زمن الأندلس، وهذا الشّعر حقّق حضوراً على السّاحة العربيّة، وهناك عمالقةٌ من الشّعراء في هذا المجال، وهذا النّوع لا يكتبه ويجيد فيه إلاّ الشّاعر المتمكّن، وأنا لا أرى فرقاً كبيراً بينه وبين الشّعر أبداً، فهما من دوحةٍ واحدةٍ، ومن امتلك الأدوات فإنّه يستطيع أن يكتب ويبدع.

ـ الكتابة على طريقة الأسطر المتناقضة التي تملأ دواوين تنسب إلى الشعر باسم الحداثة هل يمكن اعتبارها شعراً؟.
 الشّعر –كما قلت- هو الشّعر، وكلّ ما عداه هراءٌ وزبدٌ لا يلبث أن يزول، ومن يكتبون ويهذرون ويهرفون بما لا يعرفون هم أشبه بذلك الفنّان العالميّ المشهور الذي استشهد به النّاقد والأديب الدّكتور: (الهويمل) الذي وصف شعر الحداثة بذيل الحمار، وهو أجمل وأصدق ما يقال في هذا الغثاء:

(تطرّق الدّكتور الهويمل للعديد من نقاط الضّعف في شعر الحداثة الذي يخلو من النّظام وغير مفهومٍ، ومعدوم المعاني، أمّا الصّفعة القويّة التي ضرب بها الدّكتور الهويمل شعراء الحداثة عندما شبّه شعرهم بذيل الحمار الذي عرف عن قصّة فنّانٍ عالميٍّ رسم لوحةً فنّيّةً بطريقةٍ غريبةٍ، وضع ألواناً في ذيل الحمار، وأحضر ورقةً بيضاء لترتسم لوحةٌ اختلف النّقّاد في معرفة طريقة رسمها، والتّشبيه هنا يعني أنّ شعر الحداثة لا يفهمه النّقّاد، ولا يمكن تفسيره، وزاد الهويمل من سخريّته عندما وصف بأنّ الرّقص نظامٌ، بينما شعر الحداثة بلا نظامٍ).

ـ من هو الشاعر الذي يوفّر للمتلقّي المتعة الجماليّة ويترك فيه أثراً عميقاً؟.
 المتعة تأتي من جماليّات الشّكل والمضمون، ولا يمكن أن نغفل جانباً من هذين الجانبين، والشّاعر الذي يوفّر المتعة هو الشّاعر الذي يستطيع أن يقدّم لي شيئاً جديداً، هو الذي يدغدغ مشاعري، ويعزف على أوتار حزني وألمي، هو الذي يرى الأمور التي لا نراها، هو الذي يدخل أفكاره في عقلي بجراحةٍ لطيفةٍ، على الرّغم من قساوتها ووقعها، هو الذي يتركني أحسّ بما قاله دائماً، والمتعة الجماليّة هي نقطة النّشوة التي تشعر بها وأنت تسمع لشاعرٍ ما، ولا تلعنه بعد أن تسمع إليه، فالمصيبة بمن يسوّقون ما يقولونه على أنّه شعرٌ، ويكذبون على أنفسهم فقط، لأنّ الجمهور سيعرف ويحسّ بالجمال مهما كانت درجة الثّقافة لديه.

ـ أعلم أنّك فنّانٌ تشكيليٌّ أيضاً، ولك عدّة لوحاتٍ، ولكنّك تخلّيت عن الفنّ التّشكيليّ، لماذا، هل لأنّك وجدت أنّ صفة الفنّان التّشكيليّ لا تنطبق عليك، وأنّك باحثٌ وشاعرٌ بالدّرجة الأولى؟.
 أنا لست فنّاناً أبداً، ولم أكن، وأتمنّى أن أكون فنّاناً، في بداية حياتي رسمت بعض اللوحات، وقمت بعمل لوحاتٍ فنّيّةٍ يدويّةٍ من بقايا الأشياء، ثمّ لم أعد أهتمّ بهذا المجال لانشغالي الكثير بالتأليف والشّعر، والفنّ يحتاج إلى ممارسةٍ ودربةٍ، وأنا لم أستمرّ في هذا، ولذلك فأنا لست فنّاناً أبداً لأنّ صفات الفنّان ربّما لا تنطبق عليّ أيضاً.

ـ بعد "ظلال النحيل، والمستثنى بألا"، ما جديدك على صعيد الشّعر؟.
 لا أخفيك أمراً أنّ الشّعر يلازمني يوميّاً، ولذلك كان نتاجي الشّعريّ غزيراً جدّاً، ولديّ الآن مجموعتان شعريّتان أعدّهما للطّبع. عدا الأشعار التي أحتفظ بها منذ وقتٍ طويلٍ، ويقول لي البعض أنّ قصائدي تتميّز بالإطالة، وهذا شيءٌ صحيحٌ، فأغلب قصائدي تتميّز بالطّول.

وأخيراً أردّد ما قاله حسّان بن ثابت:

تغنَّ بالشّعرِ إمّا كنتَ قائله
إنّ التّغنّي لهذا الشّعرِ مضمارُ
 
نميزُ ساقطه منهُ، ونعزلهُ
كما يميز خبيثَ الفضّة النّارُ
 
وقول طرفة بن العبد:
 
وَلا أُغيرُ عَلى الأَشعارِ أَسرِقُها
عَنها غَنيتُ، وَشَرُّ النّاسِ مَن سَرقا
 
وَإِنَّ أَحسَنَ بَيتٍ أَنــتَ قائِلُهُ
بَيــتٌ يُقالُ إِذا أَنشَدتَــهُ صَدَقا
الشّعر رياضةٌ روحيّةٌ، وسموٌّ عاطفيٌّ، وإضاءةٌ لبقعةٍ مظلمةٍ من بقع الحياة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى