الشعور بالأمان تجاه اللغة العربيّة: اللسان والهويّة والانتماء
المبدوءُ باسمه، إلهنا ربّ الأطفالِ لا ربُّ الجندِ
والمصَلّى عليهِم، أنبياؤنا المقدَّسةُ رسالاتهم
والمرَحَّب بهنّ وبهم، المجمّلات والمجمِّلون لهذا الملتقى
والمحتفى بها، العربيّةُ ترفلُ بالأمان بينَ أهلها
أيّها الأحبّةُ،
أن يرحل العسكر، محمِّلا معدّاتِه، كاتما فوهاتِ بنادقه، محرّكا مجنزراتِه إلى مرائبها... ليس إيذانا بنهاية استعمارٍ أوِ احتلال... إن هو إلاّ نهايةُ مصطلح.
وأن ينسحب المندوب السّامي بخَدَمِه وحشمه، بعد أن تيقّن أنّ الشّعوبَ أتقنت فنّ السّيادة المدبلجة، لا يعني أنّنا أصبحنا أسياد أنفسنا... إن هي إلا مفرداتٌ انزاحت أمام مفردات أكثرَ دماثة.
أُغلِقَ بابٌ، لتُفتَّحَ بيبانٌ تحت أسماءٍ حضاريّة شتّى، تحضنها التّعدّديّة حينا، والانفتاحُ على الآخر، وقَبولُ المغاير، وحوار الحضارات حينا، وكلّ ما هناك أنّ القسريّةَ في الأمور قدِ انزاحت، لتتربّعَ الطّوعيّةُ مطرَحَها، ونحن نعشق الطّوعيّةَ حتّى التّطوّع.
وما السّيادة؟
من مِزَقِ حضاراتٍ وأشلاءِ تاريخ، استطاعتِ الدّولة العبريّة أن تبنيَ أمّةً عبر لغةٍ كانت طقسيّة... بنَتْ لغتَها وجامعتَها قبل بناء دولتها، ووعتْ أنّ تشكُّلَ الأمّة لا يتأتّى إلا في بوتقة الصّهر؛ سنواتٌ قليلة، وسبعون لغةً ولُغَيَّةً تذوب وتمّحي في العبريّة الجديدة، باللّغة تأسرلوا وتصهينوا، وباللّغة تهوّدوا وتسيّدوا... والبداية بسيطة جدّا؛ لغةُ التّدريس هي العبريّةُ، من الحضانة حتى الجامعة.
أمّا نحن، فمنفتحون على الآخر، مُعَوْلَمون، مُتَهَيْتِكون حتى الانهتاك؛ في المدرسة الواحدة مساقاتُ تدريس... والعربيّةُ منزوية محمرّة الخدّين... من لطمٍ، لا من تورّد العافية.
صفوة الطّلبة، بل صفوة الصّفوةِ، يتعلّمون بالإنجليزيّة أو بغيرها!
هل سمعتم إنجليزيّا يُقحم كلماتٍ فرنسيّات أو ألمانيّات في حديثه؟
أسمعتم ألمانيّا أو فرنسيّا يفعلان كذا بلغتهما؟
أرأيتم أسودا هجرتْ زئيرها؟
أسمعتم عنادلَ صدحت بهديل الحمائم؟
كلّ مخلوقات الأرض تعرف أصواتَها، تعرف ذاتَها وخصيصتَها، وتعرف لغاتِها ولغوَها...
أمّا نحن، فللغتنا معنا قصّةُ عتابٍ يئست منها فيروز من قبلُ، أو مسرحيّةُ عذابٍ، دونَها سيزيفُ أو تنتالوس،لم تُرخَ ستائرُها بعدُ، فالمشاهد تخترق الزّمان والمكان، والأبطالُ بعدد رمل الصّحراء العربيّة... لا بعدد نجوم السّماء.
مأساتُنا أنّنا لا نجيد إلاّ الإفراطَ في الأمور أو التّفريطَ بها، وبين إفراطٍ وتفريطٍ انفرط عِقدُنا.
سيادة الأمم تبدأ بسيادة لغاتها وبمؤسّساتها التي ترقى بهذه اللّغات.
ما صارتِ الإنجليزيّةُ لغةً دوليّةً لقدسيّةٍ فيها، بل لخطإٍ في التّاريخ العسكريّ في الحرب الكونيّة الأولى، في اللّعبة الدّمويّة لهيمنة القوّة، جعلها لغةَ الولايات المتّحدة، بعد أن كانت الألمانيّة اللّغةَ الرسميّة السّيّدة...
ومن باب محاولة حفظ التّوازن، تسعى فرنسا إلى إثبات حضورها، حضارةً وقوّةً رئيسة في العالم عبر ما يسمّى بالدّول الفرانكوفونيّة!
ونحن، وجُلّنا سيّدات وأسياد في الخطاب، سادةٌ مقموعون مقهورون ظلّيّون...
يتملّكنا شعور بالاستعلاء على اللّغة مردُّه إلى شعور بالدّونيّة تجاه الآخر.
جلّنا سيّداتٌ وأسياد... وبنو سام وبنو الجان وبنو ضبّة يجدون عندنا، في هجعة بني أميّة، المطايا والتّكايا، ونظلّ نردّد:
"دكّوا النشامى هيلنايا ليلنا يا ليلنامن صولتك ديغول خبّر دولتكباريز مربط خيلناوبتسرح مواويلنا"وا ويلناوا ويلناقاتلك الله أيمن أبا الشّعر!
يومَ همس بنيامين فرانكلين عامَ 1750، معبّرا عن قلقه من انتشار الألمانيّة وهيمنتها في بنسلفينيا، ويوم عارض جورج واشنطن تشجيعَ الهجرة في رسالته إلى جون آدمز عام 1789، لأنّ المهاجرين، من ضمن أخطارهم، أنهم: " يحتفظون بلغاتهم التي أتَوا بها"... كان الاثنان يعرفان خطرَ اللّغة وخطورتَها.
كانت الألمانيّة آنذاك، اللّغةَ الرّسميّة في المدارس الأهليّة والعامّة في سنسناتي (Cincinnati)، مِلووكي (Milwaukee)، وسانت لويس (St. Louis)، حتى سمّيت المنطقةُ " المثلّثَ الألمانيَّ العظيم"، ثمّ بدأت الولايات بإصدار قوانينَ تُعلَّم وَفقها المباحثُ الأكاديميّةُ بالألمانيّة، وبدأت أوهَيو (Ohio) عام 1837، ثمّ تلتها ولايات أخرى في الأربعينيّات، فأعلِنَتِ الألمانيّةُ لغةَ تعليمٍ في كلّ الصّفوف في الولاية المذكورة، وفي ويسكنسن (Wisconsin) ومسّوري(Missouri).لم تكن الألمانيّة لغةَ تدريس فحسب، بل كانت وسيلة إحياء التّراث الألمانيّ والانتماء إلى الشّعب الألمانيّ، وكان أن وقع "الخطأ" التّاريخيّ بعد توحيد ألمانيا عام 1870، وانعكس الأمر في تنامي المدّ القوميّ الألمانيّ وتزايُدِ مظاهر الانتماء إلى البلد الأمّ الذي هاجروا منه. لاحظنا بدايات النّهاية في هيمنة الألمانيّة بُعيد اللُّعبة الدّمويّة؛ الحربِ الكونيّة الأولى، ولا شكّ في أنّ وجود ألمانيا والولايات المتحدة في جانبي القوى المتقاتلة، ترك أثره في مجريات الأمور، وحين تتحدّث كتُبُ التّاريخ الغبيّةُ عن عقابيل الحرب وما خلّفته من دمار، تُغْفِلُ اندحارَ الألمانيّة، واختيالَ الإنجليزيّة بدلا منها حتى بين الأمريكيّين من ذوي الأصل الألمانيّ، لتصير هذه الإنجليزيّةُ الأداةَ الأولى في تشكيل أمّة الأمم.
وفي ثلاثينَ دقيقةً عليّ أن أتحدّث عن اللّسان والهُويّة واللّغة والأمان، وحيث إنّني أتحدّث بلغتي عنّي، فأنا مترفٌ بالأمان،
فعلا مشتقّا من الإيمان، بدءا بالخالق وانتهاء بالذّات،
فعلا مشتقّا من أمانتين تعانقان الوريد؛ لغتي وأطفالي...
لغتي التي فَتَحَتْ عينيّ على الجمال، منذ أطلّ وجه خولةَ الذي ألقتِ الشّمسُ رداءها عليه، فعشقتُ حتى الدَّنَف، وتعلّمت البوح والتّوجّع واجتراحَ العلوم والمعارف،
وعشقت أطفالي بملائكيّتهم وشيطنتهم، بلثغتهم، تُجَمِّلُ "سورة الإخلاص" و "أبانا الذي في السّمٰوات"، وعشقت حتّى لثغةَ شتائمِهم...
أوَبعدَ هذا الدّنفِ تريدون تخلّيّا وانكفاءً؟ اللّغات، كما الأمّهات أو الحبيبات، لا تُعقُّ ولا تُهجَرُ...
والعربيّة، أيّها الأحبّةُ، لا تعيشُ أزمةً، وإن كان لنا أن نتحدّث عن أزمتها، فإنّها مأزومة معنا ومأوزمة بنا.
اللّسان:
حين نتكلّم اللّغةَ، فاللّغةُ حقّا هي التي تتكلّمُنا، ويوم أكفُّ أنا عن التّكلّم بلغتي، فإنّ لغتي لن تتكلَّمَني... ستتكلّمُني لغةُ الآخر، وستذهب الأنا الفاعلةُ المخبِرةُ المخبَرُ عنها، والـ" ني" المتلقِّيةُ، والياء صاحبةُ الملك والملكيّة والإسناد، بمدلولها الفرديّ والجمعيّ، إمّا إلى الجحيم، أو إلى الطّقوسيّة، أو لتنضاف إلى أملاك الآخر. لغة الآخر ليست أنا، ولن تقوى، مهما أجدتُها، على التّعبير عن أنايَ الذّاتيّة المفردة، وأناي الجمعيّة العامّة... قد تُعبِّر بشكل آليّ عنّي، ولكنّها أعجزُ من أن تحملَ أنفاسي وخاصّيتي، وجعي ورؤاي.
لحكمةٍ ما عبّرتِ العربيّة، ومثلها العبريّة والإنجليزيّة، عن اللّغة بمصطلح آخرَ، وهو اللّسان/ לשון/ tongue، حيث تعني هذه الكلمات، إضافةً إلى دلالة العضو الذّائق اللاحس اللائك والمشارك في عمليّة النطق، دلالاتٍ مجازيّةً هامّة، فهي المفردة واللّغة كلّها، وهي اللّسانُ من اليابسة المخترقُ للبحر، أو لسانٌ من ماء البحر يخترق اليابسة، وليس الأمر مبنيّا على التّشبيه الشّكليّ فحسب، إنّها قضيّة الحدّ الفاصل بين عالمين مختلفَيْن، بين وجودين متباينَيْن، ولساني الحاضنُ للغتي هو الحدّ الفاصل بين الأنا والآخر، وليس بالعسير أن نجعل ما اعتبرناه حدّا فاصلا، نقطةَ التقاء أيضا، فهو، أيِ اللّسان، الذي ينطق ما في خبايا نفسي وعقلي ومخيّلتي، وهو الذي يعبّر عنّي أو يتكلّمُني أمام الآخر، والآخر ليس بالضّرورة صاحبَ اللّسان الآخر، فهو أيضا صاحبُ لساني أنا، فلغتي تأخذ وظيفتين تعبيرا عن الأنا الفرديّ وعن الأنا الجمعيّ... قلت إنّ استعارة اللّسان لم تكن صوريّةً، لأنّ العربيّة والعبريّة ارتأتا أيضا أن تستعملا كلمة شفة/ שפה للدّلالة نفسها، ففي العربيّة الكلاسيكيّة عُبِّر بالشّفة عن اللّغة والمفردات، ومنه قالوا: " إنّ شفة النّاس عليك لحسنة" أي إنّهم يذكرونك بالخير ويلهجونَ بالثّناء عليك، أمّا رديفها العبريّ، فما زال مصطلحا أساسيّا يعني اللّغة، إضافة إلى أنّ كلتيهما تعنيان الحافّة والحدّ، وهما كلسان الماء أو كلسان اليابسة، نقطتا فصل ووصل... وما علينا إلا أن ننظر فسيولوجيّا إلى شفتينا ولساننا لنتيقّن من كونها الحدَّ الفاصل والواصل بين عمق الأنا وما يختلج فيها، وبين خارج الأنا. ولئلا يُظنَّ أنّ الأمرَ في دلالة الحدّ الفاصل الواصل محضُ مصادفة، في توظيف اللّسان والشّفة للتّعبير عن اللّغة، فإنّ العربيّة جعلتِ الحرفَ، وهو الحدُّ والحافّة، يعبّر عن اللّغة أيضا، فمن هذا قولُ رسول الله عليه أفضل الصّلاة والسّلام: " نزل القرآن على سبعة أحرف كلّها شافٍ كافٍ، فاقرأوا كما عُلِّمتُم"، وأهل التّفسير واللّغة يجعلون الأحرفَ لغاتٍ، ويجعلون الحرفَ لغةً أو كلمةً، أمّا النّحْويّون، فالحرف عندهم القسيم الفاصل الواصل بين قسيمي اللغة، الاسم والفعل.
الهُويّة:
لست مختصّا بالتّنظير للهويّة، وغاية ما أعرفه أنّها مصطلح هلاميّ فضفاض، ولذا كثرت الاجتهادات في حدّه وتفكيكه، وإن كانت هويّتي هي حقيقة الأنا، وإن كانت الأنا خاضعة لمتغيّراتٍ وأمزجةٍ ومؤثراتٍ داخليّة أو خارجيّة، نفسيّة أو اجتماعيّة سياسيّة، أحداثيّة عامّة أو خاصّة، فإنّها تتشكّل بصور شتّى، فهي ليست قالبا مصبوبا، أو شكلا هندسيّا تحدُّه الأبعاد والزّوايا، ولا صنافةً ( taxonomy) تتموقع فيها الأشياء بشكل تراتُبيّ/ تَمَرْتُبيّ مُنْزَل، هي جملة من الهويّات تتّسم بتراتبيّة متغيّرة متململة منتفضة صعودا أو هبوطا؛ فهي الأنا التي تنتمي إلى العرب أو إلى فلسطين أو إلى الوطن/ المواطنة - على ضيق واتّساع هذين المصطلحين-، أو إلى الدّين أو إلى الجندر أو الجهة أو إلى الحمولة أو إلى الحزب... والباب مفتوح لزيادةٍ أو حذفٍ خضوعا للقناعات والأحداث والمحكّات، إذًا، هي جملةٌ من هويّات شخصيّة، ولأنّني حيوان اجتماعيّ مدنيّ بالطّبع كما يرى ابن خلدون، فإنّ هويّتي الشّخصيّة ترتبط بهويّتي الجمعيّة، فحين أقول إنّني عربيّ، فإنّني أعني انتمائي إلى هذه القوميّة أو الأمّة، وإنّني وغيري أيضا نشاركُ في الانتماء إلى هذه القوميّة بكلّ ما تشمله هذه من نواح إثنيّة، معتقديّة، تاريخيّة، قديمة أو معيشه، ثقافيّة وحضاريّة، وانتمائي هذا لا يعني العودةَ إلى بداية بحث العربيّ عن أناه وهويّتِه في تململات العروبة في الدّولة العثمانيّة، ولا العودةَ إلى العصر الذّهبي العربيّ الفاعل والمهيمن، والجثوَّ عند هاتين المرحلتين استرجاعا واستحضارا بشكل تقديسيّ متغنٍّ... إنّه إفادةٌ منهما ومن تاريخ المنتَمَى بشكل يراوح بين التّماهي والتّفحُّص النّاقد، من أجل الانتقال من الفائت/ الماضي لتشكيل الآتي/ المستقبل، هويّتي الجمعيّة الآن هي أن أتّفق مع الأنا العربيّ الآخر، لا على توصيف التّاريخ واستحضاره أو استلاله في قصائد فخر أو غزل، بل على ماذا نريد لأمّتنا أن تكون، أيَّ مستقبل سنشكّلُ لها في غمرة الأحداث والمتغيّرات، دون ظلّيّة، ولكن دون قطيعة أو انقطاع.
اللّسان والهويّة والمسألة اللّغويّة:
أرجأت ذكر اللّغة في مقوّمات الأنا الذّاتيّة والجمعيّة، أو في مقوّمات الهويّة، وتعمّدت أن أفردها لأنّني أرى فيها أهمّ المركّبات، فعبر تاريخنا، كثيرا ما نُهشتِ المركّباتُ الأخرى فأوهَنت الهويّة الجمعيّة، وجعلتها غرضا مستهدفا، وحيث إنّنا قد نختلف أو نتباين ضمن الأنا الشّخصيّة والجمعيّة في مركّبات مذهبيّة دينيّة أو حزبيّة أو إقليميّة أو لهجاتيّة، فإنّ ما تبقّى لنا من المركّبات التي لا مراء فيها هو تواصُلنا عبر لغتنا العربيّة الفصيحة أو الفصحى، وحيث إنّ الرّابصين بالقوميّ فينا استطاعوا عبر التّاريخ أن يوظّفوا أو ينهشوا كلّ أنواع المركّبات لمآرب لا تصبّ في صالح القوميّ، لم يبق لنا إلا هذه الوشيجةُ ندافع عنها - بل تدافع عنا- ولم يبق إلا هذا المركّب، تُوجَّه إليه أساليبُ الهدم. كنت في دراسة سابقة قد تناولت حالةَ العربيّة في الدّاخل، والمؤثّراتِ الفاعلةَ فيها، وإن كانَ قُيِّضَ لنا أن نجبهَ كلَّ السّياسات التي تحمل في أحشائها نظريّات إفراد الهو المُغاير، أو تفريغِهِ من المقوّمات التي يهدّد بقاؤها رؤيةَ ورؤيا الدّولة العبريّة، وإن كتِب علينا أن نعيش مشهديّات الاقتلاع من الوطن، والتّهجير، ومصادرة الأرض، والاستيطان، والتّهويد، والأسرلة فالعَبْرَنة، وهذه الأخيرةُ أخطر ما يتعرّض إليه الأنا الفرديّ والجمعيّ العربيّ في الدّاخل، لأنّها انتقلت من كونها احتلالا مخطّطا له، إلى ظاهرة طوعيّة تطوّعيّة، وفي الحالتين تستهدف صميمَ الخاصّ الأسمى في العامّ القوميّ... إن كانت هذه حالتَنا، هناك، قسرًا، فعجبٌ أمرُ عربٍ، هنا، يجتلبون لغاتٍ مهيمنةً، ويقتادون لغتَهم أسيرةً سبيّةً إلى أغمات! هي همسة صارخة لما ستؤول إليه العربيّة بعد سنوات قليلة، همسةٌ علّمتنيها العربيّة؛ حينَ صاغتِ المثنّى من كلّ شيء إلا من الأنا، إذ ليس في حيّز المكان أو الزّمان ولا في القلب، متّسَعٌ " لثانية" الأثافي.
لا تقفُ القضيّة عند تذويت المفردة غيرِ العربيّة، واستلالِها خطابا، ولا عند الأسلوبيّة اللّغويّة، فبمقدور المحتلّ أو الحاكم أن يربض على صدر الأنا المغلوبة ما رضيت هذه بالهزيمة، ولكنّه لا يقدر أن يبدّل في الفكر والحضارة وجوهر اللّغة إن هي رفضت، ولنأخذ نموذجا من الأحد عشر قرنا التي خضع فيها العرب، ولكنّ لغتهم ما خضعت، ولا خبت لها جذوة، ومن هنا غَيْرَتنا على هذا الخاصّ ومحافظتنا عليه.
لسنا هويّة قدسيّة، وليست المناعة سمتَنا جميعا، ولذا، وتحت أيّ بهرجِ غطاء، تتسلّل وتتغلغلُ الأنا المخترَقة، متبنّيةً عقليّةَ الآخر وخطابَه، ممثِّلةً دورَه في القهر، وهذه الأنا ليست من الفئات المستضعفة الموصوفة بانعدام الصّوت، إنّها الأنا المتأكدمةُ المتنفّذةُ اللاعبةُ دورَ القامع، اللابسةُ لَبُوسَه والمتبنّيةُ لأناه، المقتحمةُ صنافةَ هويّتنا الفرديّة والجمعيّة لتعبث بمركّباتها السّائلة القابلة للتّململ، المؤجِّجةُ لدعوى عقم العربيّة، تنعاها حينا باسم العصرنة، وأحيانا باسم العلميّة، وكلّها تتحدّث باسم العربيّة واللّهفة على صونها...
هويّتُنا ولغتنا فوق العبث وفوق البِدع... فهي، بقرآنها، وتراثِها الرّحب، ومقوّماتِ بِنيتها، وقدرتِها على التّجدّد، ودورِها الأساس في تشكّل وتشكيل هويّتي الجمعيّة المستقبليّة، سادنةُ نفسها.
أمّا أنا المنسيُّ الذي نجلَتْهُ العربيّةُ في قيظِ صحرائِها وخضْلِ عطائها، في واحدٍ من مواطنها أو معاطنها...
فَلِسَنَواتٍ طِوالٍ وَأنا أَحْمِلُ وَأَلِدُ أسْبوعِيًّا، ولا يَعْرِفُ وَجَعَيَّ هٰذَيْنِ، مُمارَسَةً، إلاّ ٱلنِّساءُ، أمّا مَجازًا، فَيَعْرِفُهُ كُلُّ ٱلغُيُرِ عَلى ٱلْعَرَبِيَّةِ حِصْنًا وَمِظَلَّةً.
لِسَنَواتٍ وَأنا أذُرُّ ٱلْمَساحيقَ، وَأرُشُّ ٱلطُّيوبَ عَلى جُثَثِ ٱلْمُفْرَداتِ، رَغْبَةً في إحْيائِهِنَّ وَرُؤْيَتِهِنَّ نَابِضاتٍ مُخْتالاتٍ عَلى ٱلأوْراقِ وٱلألْسِنَةِ.
فَإنْ كُنْتُ قَدْ أحْيَيْتُ وَأبْلَغْتُ، فَلِيَ ٱلنَّشْوَةُ وَأجْرَا ٱلأرْضِ وَٱلسَّماءِ...
وَإنْ لمْ أُبْلِغْ، فٱلْحَمْدُ للهِ ٱلَّذي لا يُحْمَدُ عَلى مَكْروهٍ سِواهُ، أَقولُها دونَ نَدَمٍ أَوْ حَسْرَةٍ، وَما عَلَيَّ إلاّ ٱلانْتِظارُ...
فَقَدْ يُبْرِدُ ٱللهُ عَيْنَيَّ بِرُؤْيَةِ ٱلْجَنى،
وَقَدْ يُطيلُ ٱلْعَهْدَ إلى أَنْ تَنْضِجَ أَجْيالٌ تَأْتي بَعْدي...
وَفي كِلْتا ٱلْحالَتَيْنِ كِفايَةٌ مِنْ فَرَحٍ وَطُمَأْنينَةٍ.
أَتْرُكُ اللّغةَ في هَجْعَتِها، تَطولُ أَوْ تَقْصُرُ، وَأَنْتَقِلُ إلَيَّ، أنا ٱلْجَلاّدُ ٱلْعِرِبِيُّ، مَفْعولاً فيهِ وَبِهِ، وَفاعِلاً في ذاتِهِ تَقْويضًا وَهَدْمًا، أَقولُها، تُحاصِرُني، حَتّى لَوْعَةِ ٱلتَّحْليقِ أَوِ ٱلاِنْسِحاقِ، نَفائِسُ ٱلْعَرَبِيَّةِ تَكادُ تُرَتِّلُ ما فيها، مُخْتَرِقَةً ٱلأوْراقَ وَٱلنَّاسَ وٱلْمَسافاتِ، فَمِنْ آيَةٍ كَريمَةٍ تَتْلو نَفْسَها، إلى إطْلالَةِ بَيْتٍ أفَْلَتَ مِنْ ديوانِ أَبي ٱلطَّيِّبِ، إلى أَنْفاسٍ حَرّى تَتَلَظّى بَيْنَ فَواصِلِ ٱلطَّائِيِّ وَٱلْمَعَرِّيِّ وَٱلنُّواسِيِّ... إلى قاعِدَةٍ قامَتْ، أَوْ أُقِيمَتْ قِيامَتُها، تُطِلُّ خَجِلَةً مِنَ ٱلْكِتابِ أَوِ ٱلْعَيْنِ... وَتَتَقافَزُ حَوْلي أَسْماءٌ صاغَتْ حَضارَتي وَتُراثي، ماضِيَّ وَحاضِري، تَنْظُرُ بِكِبْرِياءٍ كَسيرٍ إلَيَّ وَإلى مَنْ خالَتْ أَنَّهُمْ سَدَنَتُها، فَإذا بَيْنَهُمْ مَنْ يَرْطُنُ بِٱلْعِبْرِيَّةِ هُناكّ بَيْنَ طَوْعٍ وَقَسْرٍ، وَبِٱلْفَرَنْسِيَّةِ وَٱلإنْجْليزِيَّةِ في بَعْضِ دُوَلِ ٱلْجِوارِ، مِنَ ٱلْمَقْهى ٱلْقَريبِ مِنَ ٱلْجامِعَةِ ٱلأمْريكِيَّةِ في ٱلْقاهِرَةِ، إلى مَغاني عَمَّانَ وَبَعْضِ مَدارِسِها، إلى لُبْنانَ خارِجَ ٱلْمُخَيَّمِ وَٱلضِّيَعِ، إلى ٱلشّمالِ ٱلإفْريقِيِّ ٱلّذي خَرَجَ بَعْضُ أكاديمِيِّيهِ مِنَ ٱلْفَرْنسَةِ إلى ٱلتَّفَرْنُسِ... حَسَنٌ أنْ نُجيدَ ٱللُّغاتِ، وَأنْ نَتَعَرَّفَ إلى ثَقافَةِ ٱلآخَرِ، وَلـٰكِنَّ ٱلأمْرَ ما عَنى يَوْمًا أنْ تَكونَ هٰذِهِ بَدائِلَ لِلُغَةٍ هِيَ ٱلْهُوِيَّةُ، وَما عَنى بٱلطَّبْعِ أنْ نُفاخِرَ مُكابِرينَ مَنْفوشينَ كٱلطَّواويسِ بِأنَّ لُغَتَنا مَيْتَةٌ لا تُواكِبُ ٱلْعَصْرَ، وَكَأنَّها أضْحَتْ كَأهْلِها مَرْمِيَّةً بِٱلإرْهابِ وَٱلتَّخَلُّفِ... أنْ يَنْظُرَ ٱلْغَريبُ إلَيْها هٰكَذا، أمْرٌ قَدْ أفْهَمُهُ عَلى ما فيه مِنْ إغاظَةٍ... أمّا أنْ أتَعامَلَ أنا ٱبنُها مَعَها هٰكَذا، فَهٰذا هُوَ ٱلْعُقوقُ مُجَسَّدًا.
لا تَخْسَرُ ٱلْخَمْرَةُ شَيْئًا إنْ جَهِلْنا تاريخَ ٱلدِّنانِ، وَيَظَلُّ ٱنْسِيابُها في ٱلأوْصالِ مُحَبَّبًا...
وَلا يَضيرُ شَذا ٱلرُّبى شَيْءٌ إنْ جَهِلْنا تاريخَ ٱلزَّهْرِ...
فَٱلأرَجُ سَيَظَلُّ يُعَطِّرُ ٱلآفاقَ...
وَسَتَظَلُّ ٱلزَّهْرَةُ تُمارِسُ ٱلْعِشْقَ، عَلَنًا أوْ بِخَفَرٍ، مَعَ ٱلْفَراشَةِ وَالنَّحْلَةِ شَهْدًا وَرَحيقًا.
ما قيمَةُ ما نُحْييهِ إنْ كانَ أهْلُ ٱللُّغَةِ يَعيشونَ في غُرْبَةٍ عَنْها؟ وَما أقْسى أنْ أجِدَ ذَرائِعَ لأفَلْسِفَ غُرْبَتي وَٱغْتِرابي وَتَمَغْرُبي!
لا أعْرِفُ وَٱللهِ، وَحالَتُنا هٰذِهِ ٱلْحالَةُ، إنْ كانَ إبْراهيمُ ٱلْيازَجِيُّ قَدْ كَتَبَ:
تَنَبَّهوا وَٱسْتَفيقوا أيُّها ٱلْعَرَبُ
فَقَدْ طَمى ٱلْخَطْبُ حَتّى غاصَتِ ٱلرُّكَبُ
بَعْثًا لِيَقْظَةِ ٱلْعَرَبِ ٱلرّازِحينَ تَحْتَ ٱلْحُكْمِ ٱلتُّرْكِيِّ، أوْ إنْذارًا بِحالَةِ ٱلْعَرَبِيَّةِ بَيْنَ ٱلْعَرَبِ ٱلرّازِحينَ تَحْتَ ٱلاِنْفِتاحِ ٱلْمَعْطوبِ؟
لُغَتُنا ذَوْبُ ٱلْجَمالِ وَصَحْوَةُ ٱلْجِيادِ وَتَغْريدَةُ ٱلْعَصافير... صانَتْنَا حَضارَةً وَأمَّةً وَكَيْنونَةً... فَلْنَصُنْها... فَأطْفالنُا بِشَوْقٍ إلَيْها، قادِرون عَلى ٱلتَّغِنّي بِها إنْ نَحْنُ عَلَّمْناهُمْ وَأكْسَبْناهُمْ...
هِيَ دَعْوَةٌ لِلنَّفيرِ، وَإنْ شِئْتُمْ هِيَ ٱلْجِهادُ ٱلأكْبَرُ، وَلَوْ غَضِبَ ٱلْمُتَصَوِّفَةُ،
لا حَقَّ لأحَدٍ أنْ يَبْحَثَ عَنْ وَطَنٍ وَهْوَ يُبَعْثِرُ لُغَتَهُ،
وَهَزيلٌ ٱنْتِماؤُنا وَسَقيمَةٌ تَطَلُّعاتُنا إنْ تَظاهَرْنَا نَحْنُ وَلُغَتُنا...
لا أعْرِفُ شَعْبًا تَخَلَّى عَنْ لُغَتِهِ وَلَمْ يَنْقَرِضْ!
تُريدونَ لها تَحْديثًا وَيُسْرًا وَدَيْمومًةً؟ فَٱفْعَلوا... فَهْيَ بَيْنَ أيْديكُمْ مِطْواعٌ مِغْناجٌ، فَٱرْتَقُوا إلَيْها لِتَرْقى بِكُمْ... أقولُ مَقالَتي هٰذِهِ غَيْرَ ناسٍ أنَّ ثَمَّةَ عُشّاقًا لِلْعَرَبِيَّة سَبَقوني ذَوْدًا عَنْها، وَأنَّ ثَمَّةَ مَنْ يُجايِلُني وَيَكْتُبُ لِصَوْنِها، وَأنَّ ٱلْكَثيرينَ مِنْ أبْنائِنا يَعْشَقونَها، وَسَيَكونونَ لَها حُماةً... فَحَماهُمُ ٱللهُ جَميعًا، وَحَماكُمْ، وَتَبْقى ٱلْعَرَبِيَّةُ بِألْفِ خَيْرٍ، ثَرْوَةً أرْهَقَتِ ٱلزَّمَنَ، وَتَمَرَّسَتْ بِتَجاوُزِ ٱلْمِحَنِ.
ديوان العرب: صدقت يا دكتور إلياس فليت كل أب وأم في بيتها تحرص على تربية أبنائها على حب لغتنا العربية، وعدم إقحامها بكلمات غير عربية مهما كانت المبررات.
ليت الفضائيات العربية تفهم ذلك، وكذلك الصحف ومواقع النت العربية ووو... والقائمة تطول.