الاثنين ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
مجامع اللغة العربيّة
بقلم إلياس عطا الله

قرارات لجان الألفاظ والأساليب ودعوات التيسير في القواعد والإملاء

ألقي جزء من هذه الدراسة( جزء من موضوعة الأسلوبيّة) في أكاديميّة القاسميّ في باقة الغربيّة يوم 11/ 11/ 2006، في اليوم الدراسيّ الذي عقده مجمع اللغة العربيّة وأكاديميّة القاسميّ حول موضوعة: قرارات المجامع اللغويّة بين النظريّة والتطبيق.

حقنًا للوقت، أبدأ من الخلاصة، مسمّيا مداخلتي هذه بـ: أعمال المجامع بين الضائعَيْن؛ الجهد والوقت، أو: المجمع العربيّ بين الرغبة في التجديد والرهبة منه. ولئلا نتجنّى على الجهد المبارك في حقول عمل أخرى للمجامع( المعجميّة العامّة والخاصّة، المعجم التاريخيّ، التصنيف، التحقيق، المشاركة في وضع مناهج تدريس العربيّة، التوثيق، اللهجات...) نحصر التسميتين في المجالات التالية:

  1. الأسلوبيّة. وتشمل الأسلوب المعاصر والمفردة المعجميّة العامّة- غير الممعجمة.
  2. المفردة المصطلح.
  3. قرارات التيسير في قواعد العربيّة نحوا وصرفا، وفي الإملاء القياسيّ.

0- تمهيد

لم تأت جهود المجامع من فراغ، وإنّما ارتكزت على أسس متينة سابقة، بُنيت في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر/ عصر النهضة، ولا نخطئ إن جعلنا بعثات محمّد عليّ إلى أوروبا الشرارة الأولى التي فتحت صفحات جديدة فيما بعد على عمليّة الترجمة والتصنيف. قامت هذه النهضة على جهود أفراد ومؤسّسات قد نقسمها تيسيرا كالتالي:

0-1

شارك في العمل النهضويّ عدد من طلبة بعثات محمّد عليّ، وأساتذة مدرستي الطبّ في أبي زعبل وفي القصر العينيّ، ومدرسة الألسن، من الأجانب والعرب، ومترجمون سوريّون، وأساتذة أزهريّون انحصر عملهم في التصحيح والتحرير، وقد تكون سنة 1825 والفترة التالية لها، بإنتاجها، الدّفقة الأولى في عمليّة التعريب العلميّ وإن كان الطبّ هو الموضوع السائد. ونمثّل لهذه الفترة بجهود أنطوان كلوت Antoine Barthelmy Clot الجرّاح في الجيش المصري، وإنشاء مدرسة الطبّ عام 1827، وبداية ترجمة كتب الطبّ، حيث رأى النور كتاب " القول الصريح في علم التشريح" تر. حنا/ يوحنّا العنحوري لمؤلّفه Bayle مع إضافات من الدكتور كلوت، ثمّ ترجمت عشرة كتب وضعها كلوت نفسه بين 1834 و 1844، كان أوّلها" الدرر الغوال في معالجة مرض الأطفال" عام 1832، تر. محمد الشافعيّ، تلاه " مبلغ البراح في علم الجراح" عام 1835 تر. حنا العنحوريّ، وآخرها:" نبذة في التشريح المَرَضيّ، تر. محمد النبراوي، و " كنوز الصحّة ويواقيت المنحة" تر. محمد الشافعي عام 1845، في النصف الثاني من القرن نفسه، استمرّ النشاط التصنيفيّ والتعريبيّ، وشمل مواضيع علميّة أخرى كالصيدلة والكيمياء والهندسة والرياضيّات وعلم النبات والزراعة والتربية والميكانيك والفلك، وتابع نشاط الترجمة من ذكرت، ومعهم أسماء لامعة في هذا الميدان من أمثال إبراهيم النبراويّ وحسن الرشيديّ ومصطفى الجركسيّ وأحمد ندى والشيخ رفاعة رافع الطهطاويّ( مدرسة الألسن)... ووضعت آلاف المصطلحات المعرّبة، وذيّلت الكتب المترجمة بالمصطلحات الأجنبّة ومقابلها العربيّ، وأحييت مجموعة من مصطلحات العلوم المخزونة في بطون المصادر العربيّة، وبخاصّة مصطلحات ابن سينا.

0-2

ورفد هذه النهضة المباركة أساتذة الكليّة السوريّة الإنجيليّة( الجامعةالأمريكيّة) والتي كانت نواتها مدرسة عبيّة التي أسّسها فان دايك، وكان التدريس فيها بالعربيّة منذ عام 1866 حتى 1882 ( استقال فان دايك تضامنا مع الطلبة إثر التوقّف عن التدريس بالعربيّة)، ولمعت فيها وخارجها أسماء تركت الأثر الأكبر على البعث العربيّ مثل الدكتور فان دايك ( ت. 1885)، ويوحنّا ورتبات( ت. 1908) والدكتور جورج بوست( ت. 1909) وبطرس البستاني( ت. 1883) وأحمد فارس الشدياق( ت. 1887) وإبراهيم اليازجيّ ( ت. 1906) وغيرهم، ثم رفدت مجلّة المقتطف ويعقوب صرّوف( ت. 1927) هذه الجهود.

0-3

وجاء خاتمة القوم الأب أنستاس ماري الكرمليّ( ت. 1947) ليعزّز هذا النشاط، ولينضوي في كنف المجمع السوريّ فالعراقي متابعا خدماته الجليلة(1).

0-4

على هذا الأساس المتين تبلورت منذ نهاية القرن التاسع عشر أفكار تنادي بضرورة إقامة مجامع علميّة/ لغويّة تحمل هذا الهمّ الثقافيّ، وعليه تأسّست المجامع العربيّة، وكان أوّلها المجمع العلميّ العربيّ في دمشق( 1919)، فمجمع القاهرة( 1932)( عرف المجمعان المذكوران تغييرا في اسميهما)، فالمجمع العراقيّ( 1947)، فالأردنيّ ( 1976)، وكان من قبل قد اتّحد مجمعا سوريّا ومصر في عهد الوحدة ( الجمهوريّة العربيّة المتّحدة)، وانفكّا مع إجهاض فكرة الوحدة، وتأسّس اتّحاد المجامع اللغويّة العربيّة ( 1971) الذي اتّخذ القاهرة مركزا له، وشمل أوّلا مصر وسوريّا والعراق، وانضمّت إليه الأردن وفلسطين والسودان وليبيا والجزائر وأكاديميّة المملكة المغربيّة، وبيت الحكمة التونسيّ، وكان منذ عام 1961 قد تأسّس مكتب تنسيق التعريب بالرباط (2).

رغم اتّحاد هذه المجامع، فإنّ الأمر ظلّ شكليّا، وتابعت المجامع عملها بشكل إقليميّ، ولذا ظلّت أزمة المصطلح المعرّب قائمة، ولقد كان من المأمول أن تلقى الجهود المبذولة نجاحا لو كان الاتحاد حقيقيّا، وتعريب التعليم شعيرة لا شعارا... ونستثني التعريب في سوريا من هذا الحكم، أمّا العراق، فندعه الآن يلعق جراحة، فحين يسجّل التاريخ مجريات الأمور فيه، والقبح النازف المهيمن عليه، لا بدّ من أن يذكر أنّ مكتبة بغداد التي صبغ مداد مخطوطاتها الرافدين في عهد هولاكو، عادت من جديد لتلقى مصيرا مماثلا من مُتَهَوْلِكين جدد، فلا كتاب ولا مخطوط إلا ونهب من أعرق مهد للحضارة البشريّة.

فوّت المجمع على نفسه وعلينا- وهو يرصد هذه الأسلوبيّات الجديدة منذ عام 1934 وحتّى الآن- فرصة التأريخ لمستعمل هذه الأسلوبيّات أو المفردات، وأضاع علىنفسه مناسبة تاريخيّة، خاصّة وأنّه أعاد إلى مشاريعه الكبرى إصدار المعجم التاريخي الذي بدأه فيشر وتوقّف جرّاء الحرب ووفاته، وليت المجمع، والمجامع عامّة، توثّق هذه " المستجدّات" بالإشارة إلى صاحبها، وتاريخ نشرها، ومكان نشرها... وخيرا تفعل المجامع إن التفتت إلى هذا، وتابعت عملها بشكل رجعيّ، فهذا التوثيق أهمّ برأيي، من البحث في التخريجات والتجويزات.

1-1

على صعيد الأسلوبيّة:

كانت لجان الألفاظ والأساليب منشغلة، كما يتجلّى من كتبها (3)، ومن خطّة المجمع المرسومة لها، بما شاع على ألسنة الكتّاب من أدباء وغيرهم من أساليب لم ترد في فصحى العربيّة ولا في معجماتها، ولا في أسلوبيّة القدماء من الفصحاء ومن جاء بعدهم ممّن يندرجون في المولَّدين بدءا بالنصف الثاني للقرن الهجريّ الثاني، أي أنّها( اللجان) كانت وسيلة للبحث والإجازة أو الردّ، ولم تقم هي بعمليّة الإبداع- كحال من اضطلع بالهمّ اللغويّ في الوضع أو التعريب أو الترجمة من عمالقة القرن التاسع عشر(4)، وعليه نقرأ في مستهلّ بحثهم في كلّ لفظة أو أسلوب الجملَ المعادة التالية:

" يشيع في الاستعمالات المعاصرة مثل قولهم..."
" يستعمل المعاصرون كلمة..."
" يجري على أقلام الكتّاب وعلى الألسن..."
" تستخدم اللغة المعاصرة كلمة..."
" شاع في اللغة العربيّة المعاصرة..."
" يأنس بعض المتحدّثين بمثل قولهم..."
" يترد على ألسنة الناس اليوم..."
" يشيع في لغة أهل القضاء... السياسيين..."
وما إلى هذا من عبارات كاللازمة، تؤكّد التردّد والشيوع وكثرة الاستعمال كتابة وحديثا.

وتبحث اللجان عن مخارج وتخريجات لتجويز الاستعمال المعاصر أو المحدَث بالاتّكاء على أقيسة العربيّة أو على شاهد من عصور الاحتجاج إن وجدت، أو على قول لأحد المولَّدين من العصور القديمة، والجهد الضائع هنا متمثّل في أنّ تجويزها أو عدمه لا أهميّة لهما، فالأسلوب قد شاع، ولقي استحسانا، وسيظلّ في الاستعمال حتى لو أصدرت المجامع مجتمعة قرارا جمهوريّا أو ملكيّا بعدم تجويزه(5). وفي خضمّ بحثهم عن شرعنة المحدَث، وقعوا في جملة من مجانبة الصواب، ولكثرة الموادّ المبحوث فيها غير المنتظِرة شرعنة أصلا، ولأنّ الألفاظ والمصطلحات تعدّ بالآلاف، أكتفي بالعيّنات القليلة التالية:

1-1-1

التسييس:

قال المجمعيّون( في لجنة الألفاظ والأساليب) إنها من ساس الأمور يسوسها سياسة، إذا قام عليها ودبّرها، وأصله من ساس يسوس الدوابَّ. لا خلاف حول هذا، فهذه مادّة المعجم على إجماع. أمّا مجانبة الصواب فكانت في ما قدّمه شوقي ضيف تعليلا، قال: " كان القياس يقتضي أن يقال تسويس لا تسييس من سوّس القومُ فلانا تسويسا إذا جعلوه يسوسهم، غير أنّ اللغة كثيرا ما تقلب الواو ياء والياء واوا كما في دنيا وعليا وموقن وموسر... وفرارا من اللبس بين التسويس الذي هو وقوع السوس في الخشب، شاعت تسييس من سياسة لما قلنا من أنّ الواو والياء يتبادلان مواضعهما في العربيّة..." ( كتاب الألفاظ والأساليب 3: 79، القاهرة 2000). وما نأخذه على هذا التعليل أن قضيّة التبادل الواويّ اليائيّ هنا لا يعوّل عليها، وترفضها أقيسة العربيّة وكتب صرفها ذات الموثوقيّة؛ فما مثّل به ضيف تقويةً لرأيه مجانبٌ للصواب، إذ إنّ الكلمة المبحوث فيها لا علاقة لها واويّا أو يائيّا بقضيّة التبادل كما في " دنيا" و" عليا"، فهاتان الواردتان بالياء- مع أنّ أصلهما واويّ- مندرجتان في باب التمييز بين الاسم والصفة، وإلى هذا ذهب المازنيّ في كتاب التصريف، وهو أوّل كتاب( بين أيدينا) أُفرِدَ لموضوعة الصرف، قال: " قال أبو عثمان: وأمّا فُعْلَى فإذا كانت اسما أبدلت الياء مكان الواو، وذلك: " العُليا والدُّنيا والقُصيا"، وقالوا:" القُصوى" فجاءوا بها على الأصل..."، وقال ابن جنّي في شرحه لهذا الكتاب في المنصف: " إنّما ذَكَر العُليا والدُّنيا والقُصْيا في موضع الأسماء، لأنّها وإن كان أصلها الصفة، فإنّها الآن قد أخرِجت إلى مذاهب الأسماء بتركهم إجراءها وصفا في أكثر الأمر، واستعمالهم إيّاها استعمال الأسماء، كما تقول في " الأجرع" و " الأبطح" و" الأبرق": إنّها الآن أسماء... وإن كانت في الأصل صفات" (6). أمّا استشهاده بموقن وموسر في هذا المكان فأمرٌ مستهجن، وهو- ضيف- عارفٌ بأنّ قلب الياء واوا جاء لسكونها وانضمام ما قبلها( ينظر المصدر السابق، ص 203). والتسييس ليست مشتقّة من الأثل س و س مباشرة، بل هي مشتقّة من " سياسة"، وهذا ما يعرف بالاشتقاق الثانويّ secondary derivation، أو الاشتقاق من المشتقّ، ومنه ولدت كلمات نحو تقييم ( من قيمة، لا من الأثل ق و م)، وتعييد( من عيد، لا من الأثل ع و د)، وتدييم( من ديمة، لا من الأثل د و م)... وما إليها.

1-1-2

أبدا وقطّ:

لا أعرف علّة لإضاعة الجهد والوقت في التمييز بين أبدا وقطّ، وأساس البليّة كتب النحو واللغة التي جعلت أبدا ظرف زمان للمستقبل يستعمل في الإثبات والنفي، وبعض كتب " تقويم" الألسنة الرائجة العاشقة لقضيّة الفرق هذه، وبهذا خصّوا قطّ بالظرفيّة المستعملة في المضيّ. بُحِث قولهم:" لم أفعل هذا أبدا"، وعاد العارفون باللغة ليقولوا: قل قطُّ ولا تقل أبدا، لأنّ لم عيّنت الفعل بعدها للمضيّ، وانهمك المجمعيّون بهذا التخليط النحويّ( كتاب الألفاظ والأساليب 2: 84، 1985)، وهم مدركون أنّ أبدا تستعمل للاستقبال والمضيّ، وأعدّوا عدّتهم، ووجدوها كذا في أفصح كلام العرب؛ القرآن الكريم، وواردة - برأيهم- عند أكبر شعرائهم؛ المتنبّي؛ قال تعالى في سورة النور من الآية الحاديةِ والعشرين: ﴿ ... ولولا فضلُ الله عليكم ورحمته ما زكَى منكم من أحد أبدا ولكنّ الله يزكّي من يشاء والله سميع عليم﴾، أمّا أبو الطيّب المتنبّي فقال في رائعته التي يمدح بها أبا المنتصر بن محمّد الأزديّ:

أرقٌ على أرقٍ ومثلي يأرقُ وجوًى يزيدُ وعَبرةٌ تترقرقُ

قال:

لم يخلُقِ الرحمنُ مثلَ محمّدٍ أحدا، وظنّي أنّه لا يخلُقُ

ولا أعرف لِمَ جعل الأستاذ محمّد شوقي أمين عضو المجمع كلمة " أبدا" بدلا من " أحدا"، حيث أورد البيت كالتالي:
لم يخلق الرحمنُ مثلَ محمّد أبدًا وظنّي أنّه لا يخلُقُ ( ن. م.)
ولم أقف على " أبدا" المدّعاة هذه في القصيدة في شرح الواحديّ لديوان المتنبّ(7)، أو عند اليازجي في العَرْف الطيّب(8)، أو في معجز أحمد للمعرّي( شرح ديوان أبي الطيّب)(9)، ولم يشر هؤلاء إلى أن ثمّة رواية أخرى لعجز البيت ترد فيها كلمة" أبدا"!

1-1-3

ساهم وأسهم:

ما زال بعض الحذّاق أو المتحذلقين المنهمكين في " قُلْ ولا تَقُلْ" بعشوائيّة، يخطّئون من استعمل ساهم بمعنى شارك أو قاسم، مدّعين أن أسهم هو الصحيح، وذلك اعتمادا على أن ساهم الممعجمة كلاسيكيّا تعني المغالبة في القرعة أو المقارعة. وينشغل المجمع بهذا، وهو في غنى عن الأمر، ويأتي بالحجج التي كانت حقيقة وجودها كافية لعدم إضاعة الجهد والوقت، فقديما استعملوا تساهموا الشيءَ أي تقاسموه واشتركوا فيه، وتساهم مطاوع ساهم، ووجد المجمعيّون قولا للبديع في إحدى رسائله: " أفترضى أن تكون سهيم حمزة في الشهادة؟"، وقوّوا مستندهم المولَّد هذا باحتجاجهم ببيت لأبي الأسود:
أبا ثابثٍ ساهمتَ في الحزمِ أهلَهُ فرأيُك محمودٌ وعهدك دائمُ(10)
وعليه أجازوا المُجاز وشرعنوا المشرعَن في الجلسة السادسة من دورة المؤتمر التاسعة عشرة، ومذهبهم بيّن في " ردّ الاعتبار إلى المولّد ليرتفع إلى مستوى الكلمات القديمة" ( القرارات المعجميّة في الألفاظ والأساليب،، القاهرة، 1989، ص 16)، وكذلك في قرار تكملة المادّة اللغويّة المأخوذ في دورة المجمع الثانية( مجلّة مجمع اللغة العربيّة الملكيّ، القاهرة، 1937،ج 3: 211)، ولئلا نقع في الثرثرة نشير إلى أنّ من استعمل " ساهم" بهذه الدلالة من المعاصرين ما كان منتظرا إذنا أو إجازة من أبي الأسود وغيره ممّن يُحْتَجّ بهم، أو من البديع وغيره من المولّدين، أو من المجامع اللغويّة.

1-1-4

تلاشى:

وأضاف الحذّاق أنفسهم ضرورة قول: ضعفت الجهود أو فنيت أو اختفت بدلا من تلاشت، وقال المجمعيّون شططا في هذا الفعل، حيث قرروا:" إنّ المحدثين يستعملون الثلاثيّ لشا بمعنى فني وضعف أو خسّ بعد رفعة"، وذلك اعتمادا على ما ورد في القاموس المحيط وتاج العروس، وعليه أجازوا تلاشى( المصدر نفسه، ص 73)، والشطط المشار إليه كامن في ثلاثة أمور:
  الأوّل؛ قرارهم المستهجَن باستعمال الثلاثيّ " لشا" الواويّ في الكتابة الحديثة، وهذا ما لم أقف عليه قطُّ وأبدًا.
  والثاني؛ في اعتمادهم على المعجمات المتأخّرة- نسبيّا-، وأضيف إلى ما ذكروا اللسان لابن منظور، وكلّها مادّة واحدة مكرّرة، وإهمالهم لكتاب العين ولـ الصّحاح، وهما أكثر موثوقيّة، وخاصّة ما ذهب إليه العبقريّ الفراهيديّ بأنّ الشين لا تلي لاما في أثل ( وما ورد بلام بعدها شين محرّف مصحّف).
  والثالث؛ في معرفتهم أنّ الفعل منحوت من " لا" و " شيء"، وأنّ تلاشى تعني صار لا شيء، والمنحوت تلاشى على وزن تَفَعْلَلََ لا تفاعَل، ومن السذاجة أن نردّه إلى أثل فعليّ ثلاثي، وليس لنا أن نفعل هذا الردّ القسريّ إلى أثل ثلاثيّ فعليّ( من الفعل الصرفيّ)، لأنّنا سنقول خطلا في ما اشتقّ من الحروف والأسماء والجوامد والمنحوتات والاختصارات والملحقات بالثلاثيّ والدخيل والمعرّب، نحو سوّف من: الحرف/ الاسم سَوْفَ، وعنعن في الحديث من: الحرف/ الاسم عَنْ، واسْتَنْوَقَ من: ناقة، وبَيْكر من: البيكار، وسَرْنَمَ أو سَرْمَنَ من: سار في نومه أو منامه)، وبَسْمَلَ من: بسم الله الرحمن الرحيم، وعاعى وعَوْعَى وعَيْعى، بمعنى ضجّ أو أجلب، وهي مأخوذة من: عايْ؛ حكاية الصوت، ولا يجيز لنا قياس العربيّة أن نقول إنّها مأخوذة من الثلاثيّ ععا/ ععى، فليس في العربيّة أثل فعليّ ثلاثيّ يقع في فائه وعينه مثلان... ونحو هذا كثير في العربيّة، وكم كان القدماء أكثر حنكة في تعاملهم مع هذا الضرب من الأفعال وتخريجهم إيّاها على توهّم الأصالة! والغريب أن توهّم الأصالة وتوهّم الزيادة في الحروف كانا من المباحث التي عالجها المجمعيّون في أكثر من دورة، جرّاء البحث الذي قدّمه الشيخ عبد القادر المغربيّ( ينظر لإجمال الإحالات: مجموعة القرارات العلميّة، من الدورة الأولى إلى الدورة الثامنة والعشرين، القاهرة: 1963).

1-1-5

القُنبلة:

ومعناها الكلاسيكيّ هو الطائفة من الناس أو من الخيل، أمّا المتفجّرة ممّا يقذف فهي من المحدَث، نجيزها على أن يُنصّ على أنّ أصل القاف بالفتح لا بالضمّ ( ن. م. ص 23)، أي أنّ عليك، حفظا لسلامة اللغة، ألا تنسى مهما كانت الظروف أن تشير- وأنت تقول قنبلة بضمّ القاف- إلى أنّ القاف مفتوحة في فصيح الكلام!

1-1-6

حوالَي:

هذه الظرفيّة المكانيّة استعملها المعاصرون مع العدد، ولذا قالوا: حضر حوالي عشرين طالبا. وكان لا بدّ من أن تبعث من الرميم عظام الكسائيّ والسهيليّ وابن هشام وابن مضاء الأندلسيّ في الدورة الأربعين عام 1974، وتساهلوا في استعمال ظرف المكان مع العدد، ولكنّهم ما قبلوا إهانة الفاعل بجعل حوالَي فاعلا لكونه ظرفا غيرَ متصرّف، وعليه خيّرونا بين ما يرضاه الكسائيّ ومن جاء بعده، وما يأبَونه:
  الفاعل ضمير: الكسائي لا يقبل بالإضمار قبل الذِّكر.
  الفاعل محذوف على الإطلاق: والكسائي راضٍ وكذا من ذكرت- ونحن غير راضين لأنّنا لم نسمع عن فعل تامّ لا فاعل له، غير ما جاء في التخليط الوارد في بعض كتب النحو عن ما سمّوه " ما الكافّة عن الرفع" في مثل: قلّما، طالما...، إذ أغنت هذه الـ " ما"، برأيهم، عن ذكر فاعل للفعل-.
  الفاعل مستتر في الفعل.
ومن باب المساومة قبلوا أن يكون الظرف في محلّ رفع فاعل. وجرت عمليّة تصويت انتهت بقرار للأكثرية بالقبول، ولتذهب قواعد العربيّة- والتي صرّحوا بأنّهم يريدون لها تيسيرا لا تغييرا- إلى الجحيم.

1-1-7

لعب دورا:

وقالوا إنّ الصواب: أدّى مهمّة، وانشغل المجمعيّون بلَعِبَ اللازمة المتعدّية، وكان عليهم أن يجدوا سندا يرتكز عليه مارقو اللغة حتى يرعوي المقوّمون الجهلة، فانشغلوا في إعراب دورا المنصوبة، فخرّجوها على أنّها مفعول مطلق للعب ( يقصدون نائب مفعول مطلق وفق كتبهم هم التي اخترعوا فيها هذا المصطلح؛ نائب المفعول المطلق، الذي لا تعرفه أمّهات مصادر كتب النحو العربيّ)، وقالوا هي مفعول به للفعل لعب المضمّن دلالة الفعل أدّى ( ن. م. ص 195)، وجلّ ما فعلوه انشغالٌ بالنحو بدلا من التعامل مع الأسلوب، وكأنّ من كتب" لعب دورًا" كان مهموما قلِقا أرِقًا من المحلّ الإعرابيّ للمنصوب، أو كأنّه استعمل" دورا" مرفوعة أو مجرورة ولو مرّة... وكلّ ما في الأمر أنّ الجملة مترجمة، وتعطي الدلالة التي يريدها كاتبها كاملة، وليست دلالة " أدّى مهمّة" التي يريدها الملحِّنون المتفاصحون.

1-1-8

عقابيل تأويلات مجمعيّة:

لم تقف قضيّة البحث في الأسلوبيّة عند حدود المجامع، بل صارت من دراسات الأفراد من خبراء اللغة وأساتذتها، غيرةً على العربيّة أو إكمالا لجهود المجامع في ما فاتها، ولم يكن دافع هؤلاء قضيّة التخطئة والتصويب بالضرورة، فمنهم من تناول أسلوبا ما وهو يبحث في موضوعة العربيّة المعاصرة وعلاقتها بالموروث الفصيح أو بالشواهد الكلاسيكيّة، ومن هؤلاء الدكتور عباس السوسوة عميد كليّة الآداب في جامعة تعز، وذلك في كتابه: " العربيّة الفصحى المعاصرة وأصولها التراثيّة" القاهرة: دار غريب( 2002)، حيث مثّل فيه بأنّ أسلوبا نحو: " تلبيةً لدعوة سابقة يقوم الرئيس الفرنسيّ بزيارة مصر"، لا يعتمد على أصل تراثيّ، معقّبا على ذلك بأنّ المفعول لأجله لا يسبق العامل، وبأنّ هذا الأسلوب المعاصر ترجمة عن أسلوبيّة أجنبيّة(11)... وعليه أوضح رأيي في الأسلوب التالي:
حقنا للوقت:
لم يفت الكثيرين ممّن اقتفوا منهج لجنة الأساليب أن يدلوا برأيهم في مثل هذا الأسلوب الذي بدأت به دراستي، كما فعل الدكتور السوسوة، وكلّ ما في الأمر أنّني قدّمت " حقنا" المصدر المنصوب لأنّه مفعول لأجله/ له- أو على الحاليّة، وفي أسوإ/ أحسن الأحوال من باب نزع الخافض الذي عدّوه مسموعا غير قياسيّ- على العامل، فإن كان تقدير كلامي الحاليّة؛ أي " حاقنا" للوقت، فلا مكان للتخطئة، فالحال تسبق عاملها( أقول هذا رغم ما ذهب إليه بعض النحويّين من أنّ المصدر الذي هو عذر لوقوع الفعل/ المفعول لأجله لا يأتي حالا، وإن أردته حالا فلا مكان لإعرابه مفعولا لأجله... هو رأيٌ، ولي أن أقبل أو أردَّ) وإن كانت منصوبة جرّاء إسقاط الخافض، فالبدء بالمجرور لا يندرج في اللحن، وإن كانت مفعولا لأجله، مبيّنا علّة الفعل، فالموروث أنّه لا يسبق عامله، وهذا الموروث ليس إجماعا بين الجمهور، فالأخفش أصلا لا يشمل هذا المفعول لأجله إلا في المجرورات كاللام، وحين أسقطت اللام نصب، وعليه قال الأخفش:"... وأمّا قوله ﴿ ابتغاءَ مرضاة الله﴾... كأنّه قال لابتغاء مرضاة الله، فلمّا نزع اللامَ عمل الفعل"( معاني القرآن: 1: 360)(12)، والأخفش في مذهبه هذا يقفو ما ذهب إليه الخليل حين جعل نصب المفعول لأجله على نزع الخافض، قال:" وتقول: فعلتُ ذلكَ من أجلِ كذا، ومن جرّاءِ كذا، أي: من أجله، وإن شئتَ طرحتَ( أسقطتَ/ حذفت) " مِنْ" فقلتَ: فعلتُ ذلك أجلَ كذا، ولا فعلَ له"( العين: 6: 178) (13)... إضافة إلى تعدّد المذاهب في ما نسمّيه مفعولا لأجله( سكّ ابن هشام المصطلح)/ أو مفعولا من أجله( سكّ الزّجّاجيّ المصطلح)/ أو مفعولا له( سكّ سيبويه المصطلح)، حيث إن الكوفيّين يجعلونه مفعولا مطلقا، وكذا فعل الزجّاجُ في تفسير قوله عزّ وجلّ: ﴿ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذرَ الموت﴾، قال: " إنّما نصبت حذر الموت لأنّه مفعول لأجله والمعنى يفعلون ذلك لحذر الموت، وليس نصبه لسقوط اللام، وإنّما نصبه أنّه في تأويل مصدر( أي مفعول مطلق، إ. ع.) كأنّه قال: يحذرون حذرا ( جامي: الفوائد الضيائيّة 1: 213). (14)
إنّ " تقديسنا" لنحو البصريّين، وما نقله النحويّون الأندلسيّون/ المغاربة والمصريّون، لا يبطل بالضرورة آراء مستنيرة عند الكوفيّين أو غيرهم، ممّن أحسنوا التأويل، فهيمنة المفعول لأجله علينا في مثل هذه الأسلوبيات أمر غير قويم، فالحاليّة واردة، ونزع الخافض وارد، ولا مكان للتخطئة فيهما، ولو بقينا عند حدود المفعول لأجله، فثمّة مدرسة كاملة، ونحويّون كثرٌ ( كوفيّون وبصريّون، وفق التقسيمة الشائعة في الدراسات القواعديّة) لا يدرجونه في باب المفاعيل المعروفة، والأخفش ليس ممّن يُكمّم فمُه، أو يستهان برأيه، وكذا سيبويه وأبو عليّ الفارسيّ والحريريّ وغيرهم ممّن أدرجوا المبحث ونصب المفعول لأجله على سقوط الخافض أصلا (15) .

إن كانت صرامة النحو بقواعده وإسقاطاته تصول وتجول في قضايا الحركات المرتبطة بوظائف الكلمات في الجمل، فإنّه من غير المقبول أن تقتحم موضوعة الأسلوبيّة المشفوعة بالمنطق وبلاغة العربيّة، ومن الجمود أن تلقي بظلالها على بنية الجملة العربيّة القابلة للتقديم والتأخير وتغيير الموضعة... والتأويل.

2-1

على صعيد التعريب؛ أزمة السوابق واللواحق( الزيادات التصديريّة والكسعيّة)
لعلّ اللواصق التصديريّة والكسعيّة كانت من أصعب ما واجهه القيّمون على شأن ترجمة المصطلحات العلميّة إلى العربيّة، ولقد وضعت المجامع مقابلا لكلّ سابقة/ بادئة( prefix) أو لاحقة/ كاسعة( suffix)، مؤثرة استعمالها، ومشيرة إلى استحالة تبنّيها في كل المفردات، ومن بين زحمة هذه اللواصق اخترت بادئتين فقط لأتتبع رأي المجمع القاهريّ ومدى استجابة المعجمات إليه: البادئة hyperوترجمتها فَرْط، والبادئة hypo وترجمتها هَبْط.

2-1-1

معجم المصطلحات اللغويّة، لرمزي منير بعلبكي ( بيروت: دار العلم للملايين، 1990):
أورد ستّة عشر مصطلحا تتصدرها : hyper
 استعمل السابقة فَرْط مرّة واحدة فقال: hyperlexia: فرط القراءة؛ وهي قدرة المرء/ الطفل على القراءة الناطقة على نحو يفوق قدرة أقرانه.
 استعمل " الزائد" وما يشتقّ من أثله في أربعة مصطلحات، منها: التصحيح الزائد ( hypercorrection).
 استعمل السابقة فَوْ المختصرة من " فوق" في أربعة مصطلحات، منها الفوأنفيّة مقابلة لـ hypernasality، وهو من مصطلحات جرس الأصوات للنطق الذي تغلب عليه الصفة الأنفيّة.
 وفي سائر المصطلحات وجد لنفسه مقابلات خالية من البادئة، فقال في hyper-urbanism: التفاصح الحضريّ/ التقعّر اللغويّ/ الحذلقة.
أورد زهاء عشرين مصطلحا تبدأ ب hypo ولم يستعمل هَبْط أبدا/ قطّ مؤثرا استعمال دُو المأخوذة من" دون" مرّتين، فقال دوفونيم مقابل hypophon، ودوأنفيّة مقابل hyponasality، فيما آثر والده ( منير بعلبكي في المورد: إنكليزيّ عربيّ) استعمال تَحْ المأخوذة من " تحت" فقال: تحأنفيّة.

2-1-2

أمّا إميل يعقوب في قاموس المصطلحات اللغويّة والأدبيّة( بيروت: دار العلم للملايين، 1987)، فقد أورد ثمانية مصطلحات تبدأ بالسابقتين المذكورتين، ولم يستعمل الفرط أو الهبط.

2-1-3

في معجم المصطلحات العربيّة في اللغة والأدب لمجدي وهبة وكامل المهندس ( بيروت: مكتبة لبنان، 1984) وجدتُ
ستّة مصطلحات تبدأ ب hyper ولم أجد الفرط ولا ملحقاتها.

2-1-4

أمّا منير البعلبكي في المورد- وهو معجم دلاليّ إنجليزيّ عربيّ عامّ- فقد أورد عشرات المفردات البادئة بهاتين السابقتين، واستعمل جملة من المقابلات، فكتب مقابلا لـ hyper: فوق، إفراط، فَرْط، مفرط، زائد، ناشط، فو( من فوق)، فر( من فرط)، وفي بعض المصطلحات وجد في المقابل العربيّ ما يدلّ على الإفراط أو الزيادة، فاستعمل كلمات نحو: غلوّ، إغراق، مغرق، متعنّت، خارق، تكاثر، عسر، تضخّم، وذلك وفق السياق أو المصطلح المترجم، والبعلبكي، وإن استعمل الفرط ومشتقّاتها، تصرّف بحريّة أكسبت مصطلحاته غنى وصدقيّة. أمّا hypo، وإن أشار إلى أنّها تعني تحت أو أقلّ، فإنّه لم يأنف من نقلها بشكلها المترجم عنه؛ " هيبوـ"، إضافة إلى " تح" المأخوذة من تحت كما أشرنا سالفا.
لا تنحصر أزمة المصطلح في مسألة ترجمة السوابق واللواحق فحسب، فهي أكثر حدّة وإشكاليّة في كثرة المترادفات المقابلة للمصطلح الأجنبيّ الواحد، ولعلّ مردّ الأمر إلى أنّ قرارات المجمع ليست قولا فصلا، ولا نفوذ لها أو نافذيّة، إذا كنّا عاجزين عن التوحيد، وإن كان دأبنا الاجتهاد في التعريب... فلنترك الأمر لذوي الشأن من القراء والكتّاب، فالمستساغ هو الذي سيَشيع، وقد يستساغ أكثر من مصطلح... وتظلّ سائر المقترحات في الإضبارات أو ملفّات الحاسوب، أو في مجلات المجامع. أقول هذا رغم توصية المجمع القاهريّ " بترك أمر المصطلحات للمجامع العربيّة، على أن ينسّق هذا في إطار اتّحاد المجامع اللغويّة العلميّة العربيّة"( الدورة الخامسة والأربعون، 1979، ينظر: عدنان الخطيب، العيد الذهبي لمجمع اللغة العربية، ص 186. دمشق: دار الفكر، 1986). وهذه الدعوة الموجّهة أصلا إلى واضعي المعاجم، لا تتكئ على شيء من المصداقيّة، فالقرارات المجمعيّة في مجال المصطلحيّة والتعريب تعاني من الإقليميّة ومن عدم التنسيق، ومن عدم تشييع ما أقِرّ إلا بعد عقود... فالوقت مضيّع... وقرارات المجمع مضبّرة، وفي أحسن الحالات تتسكع في أروقة المجامع، أو تصدر في مجلاتها، ولا تصل إليها إلا يد الصفوة من المختصّين. ومن أدلّة بعثرة الوقت أيضا، أنّ مفردات حديثة- نسبيّا- نحو: العصرنة بمعنى التحديث أوجعل الشيء عصريّا، والدولنة بمعنى التدويل مع شحنات دلاليّة أوسع، وعلنَ الأمرَ بمعنى أعلنه، والرتوش بمعنى اللمسات الأخيرة، والأقصوصة أي القصّة القصيرة، كان المجمع قد أجازها جميعا( كتاب الألفاظ والأساليب 3: 222، 224، 231، 337، والقرارات المجمعيّة في الألفاظ والأساليب، 1989، ص 134)، والمشكلة أنّ معجم المجمع؛ المعجم الوسيط لم يورد هذه الكلمات، وهو وسيلة المجمع الأكثر أهميّة لسيرورة المفردات/ المصطلحات مقارنة بمجلة المجمع وكتب قراراته، أمّا أقصوصة فقد أوردها هذا المعجم جاعلا منها قصّة " صغيرة" بدلا من قصيرة، وشتان بين الصغر والقصر! والسبب في عدم إيراده لهذه المفردات المجازة يعود إلى أنّها تصدر بعد طبعته المنتشرة في الأسواق، وحتّى يكون مواكبا للمستجدّات المجمعيّة، على المجمع- صاحب القاموس- أن يُعنى بزيادة الملحقات عليه في فترات متقاربة. تأسيسا على هذا الواقع، سنظلّ نعاني أو نسعد من عمليّة الخلق أو عبثيّته، وسيظلّ الكثيرون من الباحثين في شتّى أنواع العلوم يذيّلون مصنَّفاتهم بمعيجمات يشرحون فيها مصطلحاتهم العربيّة واضعين مقابلها المصطلح الإنجليزيّ أو الفرنسيّ أو الألمانيّ، تماما كما فعل روّاد الترجمة في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر! فإن ظلّت حالتنا هذه الحالة، فلنا أن نسأل: هل تعدد المصطلحات نعمة أم نقمة؟ وتظلّ استساغة المتلقين/ات للبديل هي الفيصل.

3-1

على صعيد تيسير قواعد العربيّة وإملائها

3-1-1

في النحو والصرف

لا يقرّ المجمع القاهريّ وسائر المجامع شيئا يمسّ جوهر اللغة العربيّة، وإن رحّبت المجامع بقضيّة التيسير، وبخاصّة على الناشئة، وعليه اتّخذت جملة من القرارات في هذا المجال غايتها التخفيف والتخفّف، ولكنّنا لم نجدها في كتب تدريس النحو بالصورة التي أقرّها المجمع، ولكثرة المباحث أشير إلى عيّنة فقط:

ارتأى المجمع من باب التيسير أن يستغنى عن المألوف في إعراب المبنيّات والأسماء المقصورة والمنقوصة ( التي لا حركة عليها)، ففي إعراب: " جاء الفتى والقاضي" قالوا: اسمان مسند إليهما محلّهما الرفع"، بدلا من: الفتى: فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضمّة المقدّرة على الألف للتعذّر...( مجمع اللغة العربيّة في ثلاثين عاما،، -3- مجموعة القرارات العلميّة، القاهرة: 1963، ص 175)... وفي إعراب قُمْتُ: صيغة لماضي المتكلّم، وفي إعراب أقومُ: مضارعٌ للمتكلّم، وفي إعراب تقومين: مضارعٌ للمخاطبة، وأعربوا لا تقُمْ: صيغة نهيٍ للمخاطب( ص 177)... وقرّروا:" في حالة الاستثناء التامّ يكون المستثنى بإلاّ وخلا وعدا وحاشا وما خلا وما عدا وما حاشا(16) منصوبا دائما" ( ص 179)... فوجّهوا عنايتهم بحقّ إلى التركيب والأسلوب، ولذا انتقلوا إلى أساليب أخرى كالتعجّب، كما في: أجمِلْ بزيدٍ: أجملْ: صيغة تعجّب، والاسم بعدها( المتعجَّب منه) مجرور بحرف جرّ( قارن/ ي بالعبثيّة المعمول بها حتّى الآن في إعراب هذه الجملة: أجمِلْ: فعل ماضٍ جاء على صيغة الأمر مبنيّ على السكون الظاهر على آخره. بزيدٍ: الباء حرف جرّ زائد مبنيّ على الكسر. زيدٍ: اسم مجرور بالباء لفظًا، في محل رفع فاعل لأجمِل. وما علينا بعد هذه الدّقّة إلا أن ندخل في معركة إفهام الطلبة في الإعداديّات معنى الماضي الذي جاء على صيغة الأمر، ومعنى حرف الجر الزائد الذي يعمل لفظا لا محلاّ، ومعنى زيد المجرورة المرفوعة على الفاعليّة! ناهينا أنّ كل التفاصيل المذكورة سابقا في هذا النوع من الإعراب لا تذكر أسلوب التعجّب مطلقا!)... و: ما أحسنَ (زيدا)، ما أحسن: صيغة تعجّب، والاسم متعجَّبٌ منه منصوب( ص 179)... وتسحب القضّية على سائر الأساليب مع التركيز على ذكر الأسلوب لا على الإعراب التفصيليّ المرهق... وعلى صعيد الصرف قرّر المجمع عدم إرهاق الناشئة بالتعليلات والتغيّرات الصرفيّة والقلبيّة والإبداليّة والإعلاليّة، وطلب التركيز على التدريب المكثّف للفعل وتصريفه مسندا، ومشتقّاته، والاسم وتثنيته وجمعه، والاعتماد على قدرة الطلبة على الاستيعاب والمحاكاة والحمل على النظير( القياس)، ولذا لم يرَ حاجة إلى إغراق الطلبة بقواعد الإعلال ( ص 180)... وقررت الوزارة تأليف كتاب على هذا الأساس... وشكلت لجنة لتأليف الكتاب من " حضرات ( كذا) الأعضاء المحترمين الدكتور طه حسين، الأستاذ أحمد أمين، الأستاذ علي الجارم، وندب الأستاذ إبراهيم مصطفى عميد دار العلوم للانضمام إليهم"( ص 185)... وتعلّمت كغيري في هذه البلاد الدرس القواعديّ في المرحلتين الابتدائيّة والثانويّة في كتاب علي الجارم ومصطفى أمين؛ النحو الواضح، ولم أقف على شيء من هذا! ولا أعرف كتابا، حتى الآن، يعمل بهذا الأسلوب المعتمد على حسّ الطالب وعلوم الألسنيّة والعناية بالتراكيب والأساليب واليسر كما أقِرّ قبل عقود من الزمن!

أمّا تجويز المجمع القاهريّ إدخال" أل" على غير، وإضافة" حيث" إلى المفرد مجرورا، فأترك أمرهما، لأنّ المبيحين المجوِّزين ترفعوا عنهما في كتابتهم وحديثهم، ولأنّ أحدا لن يستعملهما إلا من الباب الخطإ الذي هو صواب دون أن يعلم... وإن كنت أتوقّع للمدى غير البعيد شيوعا للمجوَّزَيْن، وإدراجا لهما في كتب تدريس النحو، وأترك المبحثين، أيضا، لأنهما لا يندرجان في موضوعة التيسير على الطلبة.

3-1-2

في الإملاء

أصدرت المجامع قراراتها في مسألة الإملاء العربيّ، وركّزت على إملاء الهمزة والألف القائمة والليّنة، وجنحت كذلك إلى قضيّة الضبط بالشكل التامّ والوظيفيّ الإعرابيّ وفقا لمرحلة التدريس، ولها في هذا جهود محمودة، وإن كان المجمع القاهريّ قد جعل القطعة على الألف/ الهمزة الأولى مضمومةً( أُ) أو مفتوحةً( أَ)، وتحتها في حالة الكسر( إِ)، فإنّه أشار إلى أنّ الهمزة ترسم ألفا إذا دخل على الكلمة حرف، نحو:" فإن، وبأن، ولأن( بكسر اللام)، ولإن( بفتح اللام)، ولألاّ( بكسر اللام قبل الهمزة) وأإذا" ( مجمع اللغة العربية في ثلاثين عاما،1932- 1962- 3- مجموعة القرارات العلميّة، ص 189)، وكذا فعل المجمع العراقيّ مع تغيير طفيف، ولن أدخل في تفصيل الأمور، محيلا إلى كتابي في تيسير الإملاء(17)، ومشيرا إلى أنّ ما أقرّه المجمع لم يطبَّق في كتب التدريس أو في الكتابة مطلقا، وخاصّة ما يتعلّق بـ لئن/ لإن، ولئلاّ/ لألا. وتأسيسا على هذا، ولاختلاف آراء المجامع في التيسير ومواطنه، تعدّدت" المدارس" الإملائيّة المنظّرة في الإملاء القياسيّ، بحيث صار الرسم التوقيفيّ/ القرآنيّ- على صعوبته- أيسر من الرسم القياسيّ.

حواشٍ:

( لم أورد في المراجع بعض المصادر المذكورة في متن البحث، وبخاصّة إصدارات المجامع).

1- لمزيد من المعلومات حول فترة النهضة ورجالها ومؤسّساتها، يراجع:

 أ- زيدان جرجي، تاريخ آداب اللغة العربيّة- 3، المجلّد 15، مؤلّفات جرجي زيدان الكاملة، بيروت: دار الجيل (1982).
 ب- ، مشاهير الشرق، المجلّد 16، مؤلفات جرجي زيدان الكاملة، بيروت: دار الجيل (1982).
 ج- عمر الدسوقي، في الأدب العربي، ج 1: ص ص 25- 30، 81- 87، 90- 153. بيروت: دار الكتاب اللبناني، ط 7( 1966).
 د- الأب لويس شيخو، تاريخ الأدب العربيّ ()، ييروت: دار المشرق، ط 3، ( 1991).
 هـ- محمّد رشاد الحمزاويّ، أعمال مجمع اللغة العربيّة بالقاهرة، بيروت: دار الغرب الإسلاميّ ( 1988).
 و- رياض القاسم، اتّجاهات البحث اللغويّ الحديث في العالم العربيّ ( لبنان)، جزآن، بيروت: مؤسّسة نوفل( 1982).
 ز- محمد علي الزركان، الجهود اللغويّة في المصطلح العلميّ الحديث، منشورات اتّحاد الكتّاب العرب (1998).( وهذا الكتاب دراسة أكاديميّة شاملة جادّة- إ. ع.).

2- للوقوف على نشأة هذه المجامع وأعمالها، يُراجَع:

أ- محمّد علي الزركان، الجهود اللغويّة...( ز أعلاه).
ب- محمد حسن يوسف، الترجمة ومعاني الكلمات( 7)، 3- المجامع اللغويّة العربيّة، في موقع صيد الفوائد: www.saaid.net.
وعلى نشأة المجمع المصريّ:
ج- שלומית שרייבוים- שבטיאל, התחדשות הלשון הערבית בשליחות הרעיון הלאומי במצרים, האוניברסיטה העברית: מאגנס( 2005).

3- ينظر مثلا: كتاب الألفاظ والأساليب، الجزء الثاني والجزء الثالث، القاهرة ( 1985)، ( 2000).

4- تنظر المصادر المحال إليها في الحاشية الأولى.

5- تنظر المقالة الموضوعيّة المستفيضة التي كتبها الشيخ عبد القادر المغربي عضو المجمع في قضيّة تعريب الأساليب، وهي منشورة في مجلّة مجمع اللغة العربيّة الملكيّ، ج 1: 332- 349، القاهرة
(1935).

6- ابن جنّي، أبو الفتح عثمان، المنصف لكتاب التصريف: " هذا باب تقلب فيه الياء واوا ليُفرَقَ بين الاسم والصفة"، ص411، و" إذا كانت فُعلى اسما من الواو، أبدِلت الياء مكان الواو" ص 413، بيروت: دار الكتب العلميّة (1999).

7- الواحدي، أبو الحسن عليّ بن أحمد، شرح ديوان المتنبّي: ج 1: 38- 42، بيروت: دار صادر، نسخة عن طبعة مدينة " برلين المحروسة" سنة (1861).

8- اليازجي، ناصيف، العَرْف الطيّب في شرح ديوان أبي الطيّب، ج 1: 124- 127، بيروت: دار صادر، 1964.

9- المعرّي، أبو العلاء، معجز أحمد ( شرح ديوان أبي الطيّب)، ج 1: 101- 110، القاهرة: دار
المعارف ( 1992).

10- وينسب هذا البيت أو الأبيات الثلاثة إلى عبدالله بن معاوية الفزاريّ أيضا:
يديرونني عن سالم وأديرهم وجلدة بين العين والأنف سالمُ
ولو بان من ملكي لبتّ مسهَّدا ونبهانُ عمّا بي من الشجو نائمُ
أبا ثابثٍ ساهمت في الحزم أهلَهُ فرأيك محمودٌ وعهدُك دائمُ

11- يراجع العرض الذي كتبه الفضيل بن السعيد بلعروسي لكتاب الدكتور السوسوة في موقع:
www.aljazeera.net: المعرفة، تحت عنوان كُتُب، بتاريخ 17/ 05/ 2006.

12- الأخفش، سعيد بن مسعدة، معاني القرآن، تح. عبد الأمير محمّد أمين الورد، بيروت
( 1985).

13- الفراهيدي، الخليل بن أحمد، كتاب العين، تح. مهدي المخزومي وإبراهيم السامرّائيّ، بيروت
( 1988).

14- جامي، نور الدين عبد الرحمن، الفوائد الضيائيّة، شرح كافية ابن الحاجب. تح. أسامة طه
الرفاعي، إستانبول( د. ت.).
15- ينظر:

 سيبويه، أبو بشر عمرو، الكتاب، تح. عبد السلام هارون،1: 369، 3: 126، بيروت: دار الجيل(1991).
 الفارسيّ، أبو عليّ الحسن بن أحمد، كتاب الإيضاح، تح. كاظم بحر المرجان، ص 170، بيروت: عالم الكتب( 1996).
  الحريريّ، أبو محمد القاسم بن علي، شرح ملحة الإعراب، تح. فائز فارس، ص 106، إربد: دار الأمل(1991).

16- لست مع إقحام ما حاشا في هذا الباب، وذلك لكثرة الخلاف فيها من حيث الحرفيّة والاسميّة
والفعليّة المتصرّفة والجامدة، ومن حيث دلالاتها، ينظر ابن هشام، مغني اللبيب، مادة حاشا.

17- إلياس عطاالله، رسالة في تيسير الإملاء القياسيّ، دراسة ومعجم، بيروت: مكتبة لبنان
( 2005).


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى