الأحد ٢٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٤
بقلم عماد يحيى عبيد

الشهوةُ إلى الضوءِ

هُنا ...
بينَ الوراءِ والأمامِ يصيرُ ما لا يصيرُ.
يصيرُ أنْ يعطشَ الماءُ فيشربَ ملحَ الغريبِ.
أنْ ينحني تاجُ النّارِ تحتَ قنطرةِ الفراغِ.
يصيرُ أنْ يسرجَ الثأرُ خيولَ الرملِ ويغزو مضاربَ الفراشِ.
أنْ يخلعَ الفجرُ نعلهُ ويمشي خلفَ ظلِّ الضلالِ.
أنْ تخدشَ المرايا رصانةَ الملامحِ.
يصيرُ أنْ يفشي الرصاصُ كلَ أسرارِ الفؤادِ.
وترى الأعينُ وابلاً منْ رمادٍ،
ويعمَّ الغابةَ سلامٌ نازفٌ.

هُنا...
يركلونَ القدرَ بأقدامٍ مبتورةٍ، تكنسُهم زوابعُ التيهِ، يتدثرونَ بمعاطفِ الغيمِ، يبحثونَ في الترابِ عنْ فردوسٍ بريءٍ.
هُنا... الثعالبُ تشتري صحبةَ الليلِ، تبيعُ الكرومَ للخناجر، تولمُ للنهارِ مكراً ناضجاً.
هُنا... يزجلُ الطيرُ مواجعَ الحزانى، يجرحُ الدمعُ ُنوافذَ الأمهاتِ، يعلّقُ العبّادُ مدائحَهم على صواري الريحِ، يرسمُ الأطفالُ على وجوهِهم حسرةً لا تهجعُ.
هُنا... تنهشُ الفؤوسُ لحومَ الشجرِ، يجيءُ الخريفُ بلا شهوةٍ.
هُنا... تُطعمُ البلادُ أولادَها جوائزَ الجنانِ، وتسقيهم رغوةَ العمرِ المجففِ.
هُنا... يدافعُ الناجونَ عنْ أنفسِهم بالذخيرةِ الميتةِ، تحرسُهم شواهدُ القبورِ.

هُنا...
ينامُ الشعرُ نصفَ إغماضةٍ، تلبسُ الألوانُ ثيابَها العمياءَ، يغلقُ العازفُ ثقوبَ الناي.
هُنا... يمضي الحالمونَ إلى سريرِ الطينِ. تتشاجرُ أجسادُهم على مرأى الركامِ، رعشاتُهم تغسلُ ذاكرةَ الخطيئةِ، يعودونَ مخمورينَ بالرضا، أصابعُهم تزردُ أضاميمَ الهواءِ وسلالُهم يزربُ منها الزبدُ.
هُنا... السكينةُ تمضغُ عجزَها، الضجيجُ يدورُ حولَ نفسهِ، الزمانُ أضاعَ عكازَهُ، والمكانُ مسربلٌ بالذنوبِ.
هُنا ... يؤرّخُ الهُبالُ سيرةَ المصطفينَ.

هُنا...
نيرونَ مازالَ يرضعُ منْ ثدي روما،
وروما تمسحُ الهُبابَ عنْ وجهِها الصخري.
هُنا ... يعقدُ القرصانُ قرانَهُ على الكرةِ السائبةِ.
هُنا ... تكذبُ الرؤيةُ على الرائي، يخونُهُ حدسُ القرايا، تصدقُ حكايا السرايا، ينكسرُ الأفقُ العظيم، تقرأ اللوحةُ فنجانَها: دكنةٌ في الغدِ واحتضارٌ للصباحِ، مزحةُ البارودِ وألعابُ الحرائقِ، دسيسةُ الحبِّ وورطةُ الجمالِ، فجورُ الحنينِ وعنادُ الفرحِ.
هُنا... نردُ العرّافةِ يلهو بالأرضِ السمراءِ، يبطشُ بالخدرِ الماتعِ، يتقنُ لغةَ الخشخاشِ، يقلبُ أعمدةَ الحكمةِ، يسحبُ العتمةَ منْ جحرِها، يشلعُ بوابةَ الانتظارِ، يطلقُ صافرةَ الختامِ.
هُنا... في البلادِ السائبةِ،
تمضي الأفعالُ بلا فواعلٍ، تمسي الأوطانُ مياتماً بلا أسوارٍ.
هنا... يرفعُ الموتُ رايةَ النصرِ كلما فرَّ منَ الأرحامِ جنينٌ غافلٌ.

هُنا...
في البلادِ السائبةِ،
لابدَّ أنْ يأخذَ السأم حدَّهُ، ويعودَ الصوتُ إلى مجراهِ.
لابدَّ أنْ يتصالحَ الوردُ مع الشهداءِ، ويرعى الغزالُ عشبَ الأرصفة.
لا بدَّ أنْ يترجلَ فرسانُ الورقِ ويتركوا الحبرَ يبلغُ رشدَهُ.
لا بدَّ منْ لجمِ المناجلِ، فسيقانُ الحنطةِ تأنسُ لأكفِّ الحاصداتِ.
لا بدَّ لهذا الشرقِ منْ لطمةٍ ترديهِ شرقاً.
لا بدَّ منْ فطامِ أوراقَ التوتِ، آنَ أوانُ التعري.
لا بدَّ أنْ يقفزَ الجلنارُ منْ عليّةِ القمرِ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى