الأحد ١١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٩
بقلم أسامة كمال

الشيخان

انقسمت أنا ورفقتي من الأدباء بين شيخين: نجيب محفوظ ويوسف إدريس. الانقسام لم يكن انحيازاً لشيخ على حساب الآخر. بل كان مبعثه اختلاف طرق الكتابة للشيخين.. فكما أن لكل شيخ طريقة، فلكل مبدع أيضا طريقة. فنجيب محفوظ مثّل لنا السكون والنظام، وتواضع الحكماء القدامى في بحثهم عن معنى الحياة.

ويوسف إدريس مثل لنا الصخب والفوضى، ونزق الأطفال، ووميض نجوم السماء.... كلا منهما عالم وحده، بل امة لها مريديها ومحبيها.

من منا انحاز لنجيب محفوظ، قال: انه مثل الكاتب المصري القديم، تفرغ لإبداعاته تفرغ القديسين القدامى لعباداتهم، فأنجز مشروعه الروائي، بعيدا عن أي صخب أو ادعاء.. لم يكن يوما أسيرا لتيار أدبي بعينه، ولم تستول عليه جماليات أي مدرسة إبداعية. هو كطائر الفينيق، يخرج من العدم، ويتجدد دائما، ولا يكف عن اكتشاف الجديد، ومراودته، والتحليق في فضائه.

ودليل ذلك أنه أبدع روايات: تاريخية، وواقعية، وواقعية اجتماعية، وفلسفية، وواقعية سحرية.. واتجه في إبداعاته الأخيرة: أصداء السيرة الذاتية والأحلام إلى كتابة تنحو نحو الكتابة عبر النوعية، التي تطمح في إبداع نص أدبي، لا يتقيد بتجنيس معتاد، شعراً كان أم نثراً، بل يتداخل فيه الشعر مع النثر مع الفنون الإبداعية المختلفة
أما مريدي الشيخ الآخر – يوسف إدريس- فيقولون عنه: إنه هدير البحر، وصخب الأمواج، والفنان الذي لا تحده حدود، ولا تعوقه عوائق.. هو فنان بألف ولام العهد، يبدع على حافة الجنون والخطر، ويتوحد مع عالمه حد التماهى والاندماج. ودليلهم في ذلك مدى قدرته في التغلغل داخل نفوس أبطاله وعوالمهم، بل وأدق خلجاتهم،وكأن الحياة اختارته ليكون أداة الوصل بيننا وبينهم، هو يمنحهم حياة، وهم يتركون له أنفسهم تحت مجهره وسطوع موهبته القصصية المذهلة.

لكنني في هذا الانقسام لم انحز لشيخ فيهم على حساب الآخر، بل دافعت عن مشروعين أدبيين، لهما حضورهما البازغ في حياتنا الثقافية والأدبية، فالمشروعين متجاورين متلألئين، لا يمحو أحدهما الآخر، لأنهما نابعان من روحين عظيمتين، اخلصا للكتابة، فأخلصت لهم الكتابة وأعطتهم وهجها الأثر والأخاذ... لكن ما يدهشني ويقلقني، لماذا الصمت المؤلم حول يوسف إدريس، لقد كان في حياته ملء اسمع والبصر، بل وصلت درجات حضوره في إبداعنا العربي، إن جيله، والأجيال التي تلته، لم تلق أي ضوء في حضوره، فحضوره كان قويا ومبهرا، لدرجة أن الآخرين لم يحظوا بمسحة ضوء أمام لمعانه الباهر.. أعتقد أن ذلك يرجع لطبيعة العقلية العربية، التي تتعامل مع كل شيء بصيغة الأفضل والأعظم، وكأننا في سباق وهمي، لابد له من فائز، ومنتصر، وأول السباق هو فقط من يحظى بحق البقاء، وحق المجد... لذا سقط يوسف إدريس لمجرد حصول الشيخ الأخر (نجيب محفوظ) على جائزة نوبل.. فرفقا بنا أيها العقل العربي، فالأجمل أن تتجاور عقولنا وتتلاقح فيما بينها دون أن يمحو احدها الآخر... فقامة يوسف إدريس تطول قامة محفوظنا نجيب، لان الاثنين قدما مشروعين إبداعيين مكتملين، ناطحا يهما إبداعات إنسانية وعالمية


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى