الجمعة ١٩ آب (أغسطس) ٢٠٢٢
بقلم مكرم رشيد الطالباني

العودة

لو كان بمقدوري لعُدتُ طفلاً
وأمسكُ بيديَ
لكنتُ أخذتهُ في مشوارٍ جديدِ
لم أكنْ قد تعرّفتُ على الحروفِ
وكنتُ أعلمُ نفسي الحروفِ
وتتعرّفُ عليَّ العصافير
لكنتُ أُحَدّثُ أسرابَ السنونو
وألعَبَ مع غابات القصبِ
وأصادقُ أعشابَ وأزهارَ سفوحَ الجبالِ
والوديانِ
عازفاً على الناي
برفقةِ راعي أغنام القريةِ
لأحرقَ سجائرَ الهمومِ
لكنتُ أزور مكمن الكمأ
وأقَبِّلَ وجنةَ بنتَ الشمس
وألعبُ مع صغار العصافيرِ
تحتَ أشجار صفصاف القريةِ
وأغفوَ عندَ الظهيرةِ
وأركض ملءَ رغبتي بين حقول الأرزِ
لأكلّمَ أشجار القصبِ والشلبِ
مكحلاً ناظريَّ بمشهدِ البيادرِ
طارداً طيورَ الهموم
ناظراً إلى نواظرِ المحراثِ
حين يشقُ باطنَ الأرضِ
ويبذُرَ بذور المستقبلِ
لكنتُ أنهمرُ مع ثلوج السعادةِ
وأستحيلُ إلى سُحُبِ الأفراحِ
لأُمطِرَ حلاوةَ النُكَتِ
والبشاشة في أزقّةِ القريةِ
لأُزَيّنَ الأعيادِ
مُرتدياً رداء السعادةِ
وكنتُ أُغرِقُ قلقِ البِعادِ
في غبارِ القطيعِ عند العودة مساءً
وأترددُ على الكهفِ خلف القريةِ
وأتزحلقُ عند سفحِ تلةِ الجنبِ
وكنتُ أشربُ حفنةَ ماءٍ صافٍ من النبعِ
القابع عند أعالي الوادي
وكنتُ لأرويَ عطشَ خمسين عاماً من البعادِ
وكنتُ لا أبرحُ ضفةَ جدولِ القريةِ
لأتعرّى من ثيابي
وأُمَرِّغَ فيه رغَباتي
سالكاً الطريقَ إلى المدرسةِ
متحدثاً مع المواضيع والجُمَلِ والعلوم
الكامنة في الكتبِ المدرسيةِ
وما كنتُ أهدِرَ الوقتَ
كانت الأمطار والسحبُ والرعود
والبَرْدُ والزمهريرُ والريحُ
وخرير النهرِ وهسيس القصب
وتغريد الطيورِ ترافقُني
وما كنتُ أخاصمُ الطريقَ الذي يمرُّ
بغاباتِ القصبِ
أو أسفلَ السفحِ أو بين الجبالِ
كنتُ أعودُ للطفولةِ
وأمسِكُ بيدي لألعبَ الغُميضةَ
مع فتياتِ القرية
كنتُ أختار واحدةً منهنَّ فقط
وكنا نمسِكُ بأيدي عشقِ بعضنا البعض
وكنتُ أخطِفُ في خلوةِ العشقِ
قُبَلُ الرغبةِ من شفتيها
مانعاً الموتَ من التقرّبِ لحبيبتي الوحيدة
لأطردهُ شرّ طردةٍ
كي لا أشهد مشهد رحيل الحبيبة
التي كانت تلملم أغراضها بصمتِ
زارعةً أشواكَ الهموم والقلقِ في صدري
و كان بمقدوري لعدتُ طفلاً
لأمسكَ بيدي
لنغدوَ مع أطفال القريةِ
ضيوفاً على ألعابِ الغُميضةِ والقفز
وكنا في سنواتِ القحط والمآسي
ُنَنظِّمُ لعبة (عروس المطر)
وكنّا نزّينُ فيما بيننا مُهَرّجاً
كنا ندق على أبواب المنازلِ
زارعين أمل هطول الأمطارِ في أفئدتهم
وفی لیلة‌ الـ (به‌رات) كنا نجتاز الظلام
ونفتح لحاظ النور
لو كان بمقدوري لكنتُ أعودُ طفلاً وأمسك بيدي
لأقفَ على التلّة قِبالَة القرية
لأُكَحَلَّ عين الأفراح
بمشاهد نهر سيروان
وأقتلَ قلقَ ساعات الوحدةِ
وأرنو إلى البساتين وحقول الرز وقطيعَ الأغنام والخيولِ
وكنتُ آتيَ بالحُلُمِ للحُلُمِ
وكنتُ أدخل البساتين دون المساس بثمارها
وكنتُ أنشدُ ملء عقيرتي
أناشيدَ الحبيبة
لأمَزّقَ حبالَ المُعاناةِ والحسراتِ إرباً إرباً
وأبتاعَ قلائدَ مزركشة الألوانِ لفتياتِ القرية
ماسحاً دموع وجناتِ أطفال القريةِ من الفقراء والمُشرّدين
وكنتُ آتيَ بحصانٍ قصبيٍ وأمتطيَ صهوة الخيالِ
ليعدوَ في أزقة القرية والسهول وسفوح الجبالِ
لأوقِظَ أحجار وأشجار وحصواتِ تلكَ الأرجاء من سباتها السرمدي
لأُلَمْلِمَ سجادةَ الغُربَةِ
وكنتُ أدعو أطفالَ القريةِ
بتعابيرَ النجوى والقصدِ
جالباً لهم كتباً مزركشة الألوانِ
لأبنيَ لهم مدرسة عصريةً
فاتحاً أمامهم بوابةَ العِلمِ ونوافذ الأحلام

كنتُ أمسكُ بیدِ فتاةٍ ذاتَ عيونٍ عسليةٍ
كي أقوم بتركيبِ دواء ومراهم العلمِ من أجلها
وكنتُ أحثها على ركوبِ قطارِ العِلمِ
لأبعِدَها من أنياب الموتِ والجهلِ
لوكاَ بمقدوري لكنتُ أعودُ طفلاً
وأمسكُ بيديَ
منوجهاً إلى المَدينةِ
وكنتُ أقوم بجولة في حي باشا كوبري والمزرعة وجلَوَة
لأصقل رؤيةَ ناظريَّ بمشاهد (قسري باخ)
وبساتين البرتقال والليمون والرّمان
وأشجار النخيلِ
حاثاً حصانَ الفرح أن يعدوَ مسرعاً
عندَ ضفة الوندِ
وكنتُ أُقّطِعُ لجامَ الممنوعاتِ إرباً إرباً
واشدوَ حيراناً ومقام (أيها الوند)
ممسكاً بيد عائشة
وآتيَ بأطباء إخصائيين
ليجروا لقلبها العليلِ (فطرياً)
ليَزّفوا لها بشرى سارة لحياة سعيدةٍ
كي لاتغمَضَ ناظريها وترحل في عز الشباب
ولا ينحنيَ قامتها الهيفاء أمام رياح المنيةِ
لكي لا تَتجَدّدَ جراحَ فؤاديَ المهموم
لو كان بمقدوري لعدتُ طفلاً
وأمسكَ بيدي
وأبتاع ليالي الجمعةِ تذكرةً
كنتُ آخذه إلى السينما
ليشاهدَ فيلم أم الوطن
وكنتُ أبتاع له برغراً
مليئاً بطرشي وعَنْبَة (داي فاضل)
في فترة الإستراحة ما بين أحداث الفيلم
ليسد به جوعه
وفي نهاية الفيلم كنا نقومُ بجولةٍ
في سوق (تاريكه بازار) وحي (تيلخانة) و(قسري باخ)
لنزفَ بشرى عدم الخلودِ للنومِ إلى النومِ
طاردينَ طير الوسن من عيوننا
غارقَين في أحضان القُبَلِ حتى الفجرِ
ناسيىن أنفسنا والشمس وبزوغ يوم جديد
لو كان بمقدوري لكنتُ أعودُ طفلاً
وأمسكُ بيديَ
وكنتُ أنظّمُ قلادة المشاوير في ضفة الوند
وكنتُ أغوصُ غوصةً في دوامة (باوه كزي)
دون أن أطلَ برأسي ثانيةً
وكنتُ أجتازُ الجسر
دون أن ألتفتَ إلى الوراء
لو كانً بمقدوري لعدتُ طفلاً
وأُمسِكَ بيديَ
تاركاً مرحلَةِ الدراسةِ
وكنتُ أحرثُ حقولَ الحظ
وأرتديَ طاقيةَ الإخفاءِ
وكنتُ ألْعَنُ الحربَ
....
لو كانً بمقدوري لعدتُ طفلاً
وأُمسِكُ بيديَ
وأعودُ للقريةِ
لأبقى طوال السنين والأعوام
طفلاً في ضفة سيروان
قبالةَ قرى (جاله رش) و (قوله برز)
قرب (باوه نور) و(قره جم)
جنبَ (تازه دى) و(قلا تبة) و(سنكر)
و(جوار كلاو)!!!

ملاحظة: الأسماء الواردة في النص لمواقع وأماكن جغرافية فس موطن الشاعر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى