القصة في المجتمع العراقي: أداة تداولية - تواصلية
يعتبر الاستدلال بالقصص والأمثال في التخاطب الإنساني عامة وفي الخطابة خاصة ذو قيمة في الإقناع واستمالة النفس إلى ما ترغب فيه أو تنفر منه، وقيمة هذا النوع في المجتمع العراقي تتجلى في قوة حضوره في القرآن الكريم والحديث النبوي واقوال الائمة) عليهم السلام (وحكايات الحكماء وماشابه من هذه الموارد حيث يقوم المتكلم بإستحضار قصة ما ليجعل منها مقصد الإقناع والدعوة بالتي هي أحسن او ما هو خلاف لذلك، هذا إلى جانب الأدلة والحجج الأخرى التي تعتمد اعتمادا قويا على القوة الحجاجية والتأْثيرية لهذه النماذج من الأساليب، وذلك لأن العرب نفسها كان من جملة أساليبها في الخطاب والإقناع استعمال القصة والأمثال، ولهم في هذين الصنفين أدب رفيع في الفصاحة وقوة البيان والإقناع وجمال التأثير والإمتاع قل نظيرها في الآداب الأخرى .وان ما تتميز به القصة عن غيرها هو انها تخلق العديد من الروابط الاجتماعية والثقافية فيما بين الناس والاماكن والزمان في تجربة الحياة الطويلة. وبالاعتماد على هذه الروابط تؤدي القصة هدفا تواصليا تداوليا بين مستخدمي اللغة الواحدة في المجتمع ذي الثقافة الواحدة او المتداخلة. ويسود استخدام القصة والامثال في المجتمع لعراقي في كل موقف تقريبا حيث نجد ان المتكلم العراقي يدعم ابسط حدث لغوي بقصة او حكاية او اكثر. وتبدأ القصة دائما بلفظة "النا شاهد بهذه الحكاية" وتنتهي بلفظة "شاهدنا او الشاهد من الكلام" ويقوم المتلقي الذي له نفس الكفاءة اللغوية والاجتماعية للمتكلم بالجواب لما قاله المتكلم بعد انتهاء القصة بلفظة "كلك او كلكم شاهد". فإذا وظف الفرد العراقي (المتكلم) حكاية او قصة ما للاخر (المتلقي) سنجدها حتما تحتوي على عنصرا اجتماعيا ووجود هذا العنصر الاجتماعي يحتم وجود ما يسمى بالسياق الثقافي داخل القصة، السياق الذي يقوم بالتأثير على من يسرد ومن يستمع للقصة وبالتالي تكون القصة هي الاناء التداولي (اناء معنى المتكلم) بين افراد المجتمع الواحد وذلك من اجل الوصول الى معنى بلاغي ذي التأثير العميق. فهنا تطفو لنا عدة وظائف تداولية لاستخدام القصة داخل المجتمع العراقي وكلها مرتبطة بالحدث اللغوي او سياق الموقف فلا يبقى على المستمع سوى ان يبلغ معنى المتكلم من خلال ربط القصة بالحدث اللغوي عن طريقة نظرية الربط اللغوي وهي نظرية تداولية يقوم من خلالها المستمع بربط الفاظ المتكلم بالسياق لأجل تفسير الكلام والوصول الى معنى المتكلم. فقد يتم استخدام القصة تداوليا على عدة مستويات منها ان لها دورا اجتماعيا وتواصليا ومنها تستخدم للترفيه ونقل المعلومات وقد تكون ايضا تمثيلا للسلوك والنواميس المتعارف عليها في المجتمع العراقي وقد تمثل القصة ايضا التغيير الاجتماعي (سلبيا كان ام ايجابيا) ويمكنها ايضا ان تستخدم في التعليم ومشاركة الآراء.
فالقصة من الناحية اللغوية هي كل ما يحكى ويقص سواء كان من وحي الخيال ام مستلهم من الواقع ام قصصا حقيقة. فأما من ناحية الاصطلاح فالقصة تعطي وصفاً لبعض الجوانب من الحياة الإنسانية، والأحداث التاريخية والاجتماعية المختلفة وإظهار النواحي الفكرية والعقلية التي شهدتها البلاد في فترة من الفترات ، فتعيد لذاكرة الأبناء صورة من تاريخهم وتراثهم العريق بما عرفه من نبل وأصالة ، وتعيد إلى أذهانهم صورة آبائهم وأجدادهم ومواقفهم الحميدة وأعمالهم الخالدة ، التي يعتز بها كل محب لأرضه ووطنه وأهله وتاريخه. ولو لم تكن هذه القصص وغيرها تحتوي على مقومات البقاء لما استطاعت الصمود أمام تحديات العصور، ووقفت بكل شموخ لتؤدي دورها الاجتماعي والفكري الذي من أجلة أنشئت.
فمن المعروف ان المجتمع العراقي يتميز بالأواصر الاجتماعية والقبلية المتينة وهذا يعتبر محفزا للفرد للاستماع للحكاية الشعبية بشتى اهدافها ومن جهة اخرى يذكر جولدري 2008 ان البشر بطبيعتهم يرغبون الى ان يسردوا القصص او يستذكروها وخاصة كبار السن منهم وذلك من اجل تشكيل قنوات للتفاهم السريع. وان العناصر غير المحكية قد تعزز الطريقة التي توصّل بها القصة وتزيد من احتمالية التذكر واخذ العبر وهي الشيء الذي يحكي عنه شانك 1995 حيث اكد ان القصة هي بمثابة فرصة للمستمع ان يفهم ما يريده المتكلم وهي ايضا اداة سريعة لنقل المعنى الذي يرومه المتكلم من خلال محطة اجتماعية معينة يشترك فيها الطرفان من خلال الكفاءة اللغوية والاجتماعية لديهم. فهنالك اكثر القصص والحكايات الشعبية التي اخذت بالتداول داخل المجتمع العراقي كونها اثرت كثيرا في المجتمع واضفت له طابعا جديدا من ناحية استخدام اللغة في مواقف متنوعة، حتى ان الكثير منها صار يستخدم كمجاز او كمصطلح او كتلويح متعارف عليه بعدما كان من الصعب تفسيره وربطه بالسياق اللغوي كما ينبغي. فهنا تبرز وظيفة القصة من الناحية التداولية كونها ترمي الى تكوين جسور للتواصل بين المتكلم والمستمع لئلا يسود الصمت ويؤدي الى خلل في الطبيعة البشرية المبنية على التواصل.
فإن القصة هي محور يدخل في تركيبة الطريقة التي تعمل على ضوئها المجتمعات كونها امرا جوهريا في التواصل. وكذلك فأن القصة تعبر في بعض الاحيان عن هوية المتكلم وخاصة الهوية الاجتماعية كما يؤكد ماك كلوسكي 1990. ولان المجتمع العراقي تربطه الاواصر الاسرية النابعة من تجارب الانسانية والمعرفة العريقة العامة ولان افراد المجتمع يعولون كثيرا على المساق في سرد قصصهم فهم يرتكزون على خبرة المستمع والملكة التداولية والكفاء التواصلية في اللغة ليشركوه معهم وبالتالي يستلطف ذلك المستمع القصة او الحكاية كسبيل للتواصل والتفاعل بين افراد المجتمع الواحد كما يراه جيرسي 1992 ان القصة تساعد على اعطاء احساس على ان مشاركتها تزيد من العلاقات بين افراد المجتمع. فنرى ان الفرد العراقي عند مجالسته لآخر في مكان ما يقوم بالبحث عن اية حكاية هادفا من ورائها التفاعل والانشغال بالحديث ليس الا. ويندرج هذا ضمن مبدأ الترفيه حيث يقوم القاص هنا باستخدام القصة لغرض ملأ اوقات الفراغ عن طريق ترفيه المستمع والبحث عن الراحة والاسترخاء.
وقد تصل القصة داخل المجتمع العراقي الى افضل تجلياتها عندما تستخدم لنقل المفاهيم والمبادئ والكلام المبطن داخل المجتمع الواحد فهي بذلك تكون بمثابة وسيلة تواصل شخصية يستخدمها المتكلم لنقل معنى تداوليا هو فقط يريده وممكن ان يفهم او يفسر كيفما يريد ذلك المتكلم. وغالبا ما يقوم المتكلم بسرد القصة التي يتضح معناها للمستمع ولكن عند الانتهاء من سردها يقول المتكلم ليس لي قصد في سرد هذه القصة وهو على العكس من ذلك فان المتكلم في موقفٍ تهكميٍ ويريد من القصة ما يريده للمعنى في داخله. وفي حالة الربط والوصول الى تفسير صحيح وتطبيقها في السياق اللغوي هنا قد اصبح المتكلم ملوحا من خلال ذلك النوع من اللغة الى معنى يريد ان يعبر عنه للمستمع. وهنالك الكثير من القصص والمواقف الشخصية التي يتداولها افراد المجتمع العراقي والغرض منها ايصال معنى آخر للمجتمع وبما ان المجتمع يمتلك ذات الكفاءة اللغوية التداولية كونه ينتمي الى ذات المجتمع الذي يعيش فيه المتكلم، فأن المستمع سيقوم بربط الاحداث وبالتالي بربط القصة بموقف معين ليكمل المعنى المنشود. وتخدم هذه القصص والتجارب في تعويد المجتمع على كيفية السلوك حسب النواميس الطبيعية التي يتبناها المجتمع. فتصبح حينئذ القصة هي اداة تداولية تذكر ويتم البراءة من الشاهد فيها لأجل تقوية الهدف التداولي من ورائها.
وقد تحدد الثقافة نوع التواصل بين افراد المجتمع العراقي وتؤثر على الرسائل التي يحاول ان يرسلها المتكلم للمستمع بشكل تداولي عن طريق قصة او حكاية معينة. ويتبنى تابان في دراسة له 1991 فكرة ان الفائدة من تداول القصة بين افراد المجتمع هي من اجل تضمين درسٍ اخلاقيٍ تحمله تفاصيل القصة التي يحكيها المتكلم للمستمع. فنرى انتشار هذه الظاهرة في المجتمع العراقي حيث يقوم المتكلم بوعظ المستمع من خلال استخدام قصة معينة ويترك بعدها المجال للمستمع من اجل ربط القصة بالحدث اللغوي عن طريق نظرية الربط اللغوي التداولي، وبذلك يتم ربط القصة بمغزى المتكلم وان هذا بحد ذاته احد مجالات التدوالية البلاغية وهي طريقة مبتكرة للوصول الى ما يجول داخل المتكلم.
وخلاصة القول ان القصة على تنوع الوانها وموضوعاتها وعلى اختلاف متكلميها فهي اداة بلاغية يوظفها جل متكلمي اللغة العربية في سياقات المجتمع العراقي المختلفة لتخدم اغراضا تعليمية وترفيهية واجتماعية والتي من شأنها ان تؤثر بقوة على المتلقي وتغيّر من موقفه حسبما يريده المتكلم. فالقصة بالتالي هي وسيلة بلاغية للإقناع يلتجا لها المجتمع ليطوعها الى اسلوبٍ تداوليٍ-اجتماعيٍ مستندا الى المبادئ والمعايير اللغوية المستخدمة في تفسيرها عن طريق ربطها بالحدث اللغوي الذي تقال فيه.