الكتابة بين الفعل ورد الفعل- «أنف ليلى مراد» أنموذجا
مقدمة
يدرك المبدع حين يحمل قلمه، دون أن يكون قارئا للتنظيرات الأدبية على اختلافها، أنّه يكتب نصّا موجَّها لقارئ يستطيع أن يتجاوب ويتفاعل مع ما يُكتب؛ إذن هي محاور ثلاثة لا تكتمل عملية الإبداع بدونها: المؤلِّف، النصّ والمتلقِّي. وتبقى الأسئلة التي تهيج في ذهن المؤلِّف قبل عملية الكتابة: لماذا وكيف ومتى هي التساؤلات ذاتها التي تثور لدى الناقد، الذي تقع عليه مهمة الربط بين المنتوج وجمهور المتلقين، من ناحية، والبحث في دوافع الكتابة وحيثياتها، والكيفية التي صيغت بها النصوص، من ناحية ثانية، دون التوقف عند صياغتها التقليدية أو غير المألوفة فحسب، بل تعدّي ذلك إلى ما تحمله من دلالات وإشارات.
هي علاقة تأثير وتأثُّر بين النص والمتلقي، وفق وولفجانج إيزّر في كتابه "فعل القراءة"، الذي يرى أنّ أي نظرية أدبية مهما كانت توجهاتها لا يمكنها أن تتحاشى دور القارئ، الأمر الذي يؤكد عليه أمبرتو إيكو في كتابه "القارئ في الحكاية"، مضيفا أن القارئ يقول ما لم يقله النص، عبر ملء الفراغات فيه، والكشف عن أبعاده وخفاياه، وعلاماته وإشاراته. لا تكتمل هذه العملية دون عودة المتلقي/ الناقد إلى النص وقراءته مرة ثانية وثالثة ليتمكن من فهمه، تفسيره وتقييمه. ولا تتحقّق هذه العملية إذا كانت القراءة مجرد قراءة عابرة، بهدف التسلية وتزجية الوقت.
يذهب خداش في مجموعته هذه، منذ العتبات الأولى، باتجاه الكتابة غير التقليدية حين نقرأ تحت عنوان "تنويه" أنّ الكاتب (زياد خداش) نشر هذه القصص في حياته السابقة في جريدة فلسطين اليافاوية (1911-1967) منذ عشرينيات القرن العشرين وحتى الخمسينيات منه، وهو يعيد نشرها في حياته الحالية في جريدة الأيام الفلسطينية التي تصدر في رام الله عام 2022.
هذا النوع من الكتابة، وهذا الطرح بالتحديد، يفجأ المتلقي ويخلق لديه حالة من الصدمة والدهشة عبر اختراق المنطق وتشويهه والإيهام بالواقع، فيُقبل على القراءة راضيا بهذا الواقع التخييلي، وبالتالي ينتقل المتلقي/ الناقد إلى مرحلة الخلق التي تتعدى مجرد عملية الاستقبال، أو التلقي.
فهل قالت نصوص "أنف ليلى مراد" كل ما يجب أن تقول؟ عن أي قارئ يبحث خداش؟ وهل يمكن أن نعدّ مثل هذا العمل من النوع الغرائبي أو العجائبي؟ وكيف على الناقد أن يتعامل مع هذا الأسلوب؟ وهل عليه أن يبحث عن النظرية التي تتلاءم مع مثل هذا النص؟
التلقي واتساع النص
إنّ التزام الناقد بالنظريات الأدبية، أثناء عملية التحليل والتأويل، التزاما متزمتا كمن يسعى إلى وأد النص، ووأد عملية النقد والتحليل قبل ولادتهما. كما أنّ من يعمل على محو التنظيرات الأدبية والتنكر لها، كليا، وعدم الاعتماد على ما تُزوِّده من آليات تسعفه في محاورة النص حوارا منهجيا وخلّاقا فهو أشبه بمن ينزل أرض المعركة دون سلاح. فالنظريات الأدبية تمدّ الناقد برؤًى منهجية، لكنها مهما ارتقت وتطورت فلا تغني عن مجهود الناقد الخلاق، وعن دور الذوق الذي يتطور، هو الآخر، ويتنامى من خلال التجربة والممارسة.
لكل كاتب مبدع لغته وأسلوبه وطريقة عرضه، ولكل نص ما يشترك فيه مع غيره وما يختلف، حتى لو كانت النصوص من إبداع نفس المؤلِّف، مما يفرض على المتلقي/ الناقد عدم الاكتفاء بتعقب الكاتب فحسب، بل تعقُّب النص، أيضا، لتبيان خصوصياته البنيوية والفكرية، فيكون المتلقي كمن يحفر في الأعماق ليكتشف خفايا الكنز، إذما كان النص غنيا فعلا.
ولكل عمل معنى لا يمكن التوصل إليه إذا اكتفينا بالتخمين، إذ إن البحث في التساؤلات المطروحة أعلاه لن يحقق مبتغاه إلا من خلال النص نفسه وربطه بالزمان والمكان وحيثياتهما، من ناحية، ومن خلال البحث في دور المؤلِّف في تحريك النص ودوافع كتابته، وفي التقنيّات الموظَّفة في بناء النص، من ناحية ثانية.
تقوم نظريات الاستقبال والتلقي بتخويل القارئ بالقيام بالدور الأهم في عملية التأويل والبحث في جماليات النص ومعانيه وخفاياه. تتوقف عملية خلق المعنى على قدرة المتلقي الذهنية وسعة ثقافته واطلاعه على كم من الإبداع في مجالات أدبية وتنظيرية وفلسفية، ولكنّها لم تتحدث بما فيه الكفاية عن المؤلِّف وعن كونه متلقّيا هو الآخر، وعن دور التلقي في تحديد مسار كتابته، ومدى عمقها واتساعها، إذ كلما اتسعت رقعة معارف المؤلِّف (المتلقي الأول) زاد ذلك الأمرُ عمليةَ التحليل صعوبةً ولذة، في آن معا، بحيث تُلقى على عاتق المتلقّي المؤوِّل للنص (المتلقي الثاني) مسؤولية البحث في أعماق هذه الثقافة وفي مصادرها.
من يقرأ مجموعة "أنف ليلى مراد" يرى مدى اتساع ثقافة المؤلِّف، بحيث يتبين للقارئ أنه اطّلع على مصادر متعددة درسَتْ تاريخَ فلسطين الثقافي في مجالاته المتنوعة، وأنه تابعَ الصحفَ والمجلات العربيةَ التي صدرت منذ أكثر من قرن من الزمن، واطّلع على ما دار من لقاءات أدبية وفكرية وسياسية وفنية، وجمع معلومات مثيرة وغنية. فإن كانت مصادر التلقي عند الأدباء عامة، هي الكتب والمراجع، على اختلاف أنواعها، فإنّ للكاتب الفلسطيني مصادرَ أخرى لم تدونها الكتب وهي الذاكرة التي يعمل زياد خداش وبعضُ الأدباء الفلسطينيين على توريثها من جيل لجيل.
تقع على المتلقي مهمة الإلمام بثقافة المؤلِّف ومصادر معلوماته والتحلي بمهارات تسعفه في تحديد هويته الأدبية ولغته وأسلوبه. ولن يتمكن من تحقيق هذه المَهمَّة إلا إذا كان موسوعيّ الثقافة، كما يقول الكثير من الباحثين الذين تناولوا دور القارئ النموذجيّ.
يشعر القارئ وكأنّ خداش كان يعيش فعلا في تلك الفترة الزمنية وأنه رافق شخصيا هؤلاء الأدباء والفنانين ورجال الفكر والسياسة، وأنه حاورهم واطلع على أسرارهم الصغيرة والكبيرة، لتبدو سيرتهم حية ونابضة. فكشف عن همومهم وهواجسهم، وعن حب الناس لهم واستقبالهم في بعض البيوت، وما كان يدور هناك من حوارات ومن نقاشات. حتى ليتوه القارئ بين ما هو حقيقي وما هو من وحي الخيال.
محفّزات المؤلِّف
لم تُخلق أي كتابة من فراغ بل إنها تنبع مما اكتسبه المؤلِّف من تجاربه ومن تجارب الآخرين عبر القراءات المتعددة والمتنوعة، وقد تراكمت معلومات وأحداث في ذهن خداش، فحرّكت فيه غيرته وهواجسه وأحاسيسه. فعمد إلى نقلها للقراء بهدف المشاركة. هي دعوة إلى الاطلاع على فلسطين النابضة بالحياة، وإن لم يصرّح بذلك علانية. فاختار محطات مضيئة وصاخبة ومثيرة من تاريخ هذه البلاد "الجميلة"، رغم الصعاب والعثرات، كي يراها الغريب قبل القريب، ويتعرّف على تاريخ مُشرق مفعم بالحياة. فتوقف عند أسماء لامعة من أبناء هذه البلاد، وعند أعلام زاروا فلسطين والتقوا بأهلها، مثل أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش وأسمهان وغيرهم من الفنانين ورجال الفكر، الذين حظوا بمكانة هامة في قلوب الناس، في فلسطين وفي العالم العربي.
يفتتح الكاتب المجموعة بقصة "حبيب السمك" يسرد لنا فيها الراوي خبر لقاء في فندق القدس بين الأستاذ أكرم هنية رئيس تحرير جريدة "الأيام" التي تأسست عام 1996، والأستاذ عيسى العيسى رئيس تحرير جريدة فلسطين التي تأسست عام 1911، وذلك بناء على طلب العيسى، بهدف التعرف على التجربة الإعلامية الفلسطينية المعاصرة، والطلب من هنية إعادة نشر مقالات الكاتب زياد خداش التي كتبها في حياته السابقة في جريدة فلسطين التي تحتفل بذكرى ميلادها الذي تجاوز المئة عام.
تحدث المنظرون عن "أفق التوقعات" ومدى تماثل النص مع توقعات القارئ. من الواضح أن هذا الطرح غير الواقعي لا يتماثل مع "أفق التوقعات" التقليدي، وبالتالي فإن هناك لقاء قد عقد وقرارات قد اتخذت، بعيدا عن المنطق ما يثير تساؤل المتلقي حول غاية الكاتب من هذه العملية، خاصة وأن الكاتب يدخل شخصيات أخرى من الماضي لتنضم إلى عالم القصة، ليبين للمتلقين أن فلسطين كانت عامرة بأهلها ومثقفيها الكبار، مثل معلم اللغة العربية، الأديب نخلة زريق "عضو جمعية الإخاء العربي" المولود في بيروت سنة 1861 والمتوفى في القدس سنة 1921؟
لم يكتف المؤلِّف بإبراز هذه الأسماء وتزويد القارئ بمعلومات هامة حول الحياة الثقافية والفكرية ودورها في إنعاش الحياة في فلسطين، فاختار الوسائل القادرة، برأيه، على تحفيز المتلقي. فعمد إلى خلق أحداث غير قابلة للتحقيق والتنفيذ إلا فيما يشبه أحلام اليقظة، وذلك من خلال الجمع بين شخصيات تعيش في أزمنة متباعدة لا يمكنها أن تلتقي في حيّز واقعي، حتى لتبدو في علاقتها المباشرة بالقارئ غاية في السذاجة. ولعل أكثر ما يمكن أن نقوله في مثل هذا النوع من الكتابة هو تمكّن النصوص من إثارة الدهشة بسبب هذا الخلط الغريب، المثير والمستهجن وغير الممكن، الذي يطرح بعفوية وكأنّ هذه الأحداث، وفق منطقها ووفق معطياتها، هي الواقع بذاته. وبالتالي يصبح من الممكن إنجاز ما لم يتمكن المقهور من إنجازه على أرض الواقع؛ فقدت الأرض وضاع من عليها بعد أن عمل كثيرون، من الداخل والخارج، على التنكر لتاريخ شعب حيّ أبدع مثلما أبدع غيره، وقدم للحضارة كما قدم غيره،
ما تتغيا هذه المقاربة قوله هو أنّ خداش في مجموعته يجافي أساليب الكتابة المألوفة، ولا يتقيد بأصول كتابة القصة العربية الفلسطينية القصيرة التي بحثت في تفاصيل الفضاء الفلسطيني، بكل مركباته، بهدف ترسيخه وتثبيته والتصدي لمحاولة محو معالمه وتشويهه. لقد ذهب نحو الدفاع عن محاولات مصادرة الفكر، مؤمنا أنه الدرع التي تحمي البشر والشجر والحجر والأرض وما عليها. فإن كان دافع الكتابة رد فعل على ما آلت إليه الأحوال فقد تحولت على يد خداش إلى فعل مدعّم بأساليب غير تقليدية تحط في باب التحديث، بعيدا عن الخطابة واللغة المقولبة والأساليب المقننة. يحاول خداش أن يخترق ما كان من قبل، مؤمنا بضرورة تحديث اللغة وأساليب السرد عبر أيديولوجية مؤثثة بفكر يتماشى مع إنسان القرن الواحد والعشرين. وبالتالي تصبح الكتابة دعوة إلى التحديث الذي ينادي به عز الدين حمودة في كتابه "الخروج من التيه". وهو موضوع طويل وشائك يهمنا منه التعامل مع النص العربي وفق ما يميزه، وعدم التزمت في تنفيذ قواعد النقد الغربي، دون التنكر لما قدمه الغرب.
يقوم خداش ببناء قصته، دون مقدمات، ودون التمهيد لشخوص قصصه، فيعرضها، كما هي، بصورة مباشرة فتبدو صادمة بقدر ما هي بسيطة، وحية بقدر ما هي بعيدة وغائبة. إذ يأخذ من أساليب إعداد التقارير الصحفية تفاصيلها المختارة بدقة يعرضها بلغة تجافي الشاعرية المألوفة. ولذلك سنجد من لا يقبل مثل هذا التحديث، وله الحق في ذلك، لكني، كقارئ يمارس القراءة اليومية، وجدت في أسلوبه ما يثير الكثير من التفكير في تلك "الكتابة المباشرة" والمستفزة في آن معا.
تمكنت قصصه، برأيي، من خلق عالم فلسطيني قابل للتجذر في ذاكرة القارئ، وفي مدّه بالثقة بذاته وبتراثه وثقافته وفنه، لتقوده إلى التفكير في مفارقات الواقع ودوافع هذه المفارقات، وتحثّه على متابعة درب أولئك الأعلام وإعادة النبض إلى ما توقف. خداش استُفزّ فكتب ليستفزَّ ويحرك الساكن.
الوقوف عند حدود الغرائبية والعجائبية
إن كل كتابة فنية هي محصلة عملية التخييل (fiction)، حتى وإن متحت مواضيعها من الواقع، ثم إن هناك تفاوتا كبيرا جدا بين عمل وآخر في درجة توظيف التخييل، وقد حقق منسوبا عاليا جدا في الرصيد الأدبي العربي القديم، في ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، وحي بن يقظان، ورسالة الغفران، والتوابع والزوابع. إن اللقاء بالراحلين أو بالموتى قد طرح بأساليب شتى في الأدب العربي، كما في الأدب الغربي. ففي رسالة الغفران يأخذ فيها الكاتبُ، أبو العلاء المعري، ابنَ القارح في رحلة إلى الجنة والنار/ الفردوس والجحيم، ويحاور أدباء، في الموقعين، في أمور فلسفية وأدبية، كما ويحاور رِضوان حارسَ الجنة. أما رسالة التوابع والزوابع لابن شُهيد فهي رحلة خيالية، يقوم بها ابن شهيد وتابعه (الجني)، إلى وادي الجن حيث يلتقي فيها توابع الشعراء والأدباء ويتحاور معهم في أمور الأدب.
لا تدعي هذه المقاربة أن زياد خداش يسير في هذه المجموعة في درب الكتابة العجائبية أو الغرائبية. وهما نمطان من الكتابة لقيا اهتماما لدى بعض المنظرين، وربما أشهرهم تزفيتان تودوروف في كتابه "مدخل إلى عالم العجائبية". تجدر الإشارة إلى أنهما نمطان متقاربان جدا لدرجة أن بعض الباحثين لم يشيروا إلى ما يميز بينهما. وربما لم يوفَّق البعض في إيجاد الفوارق بسبب تقاربهما في الأسلوب وفي المقصد من توظيف مثل هذا النمط من الكتابة. هناك من يرى أن الفرق يتعلق بمدى تفعيل التخييل، فكل ما هو مجاف للواقع ومدهش ومغاير للمنطق هو غرائبي، وإذا ما غاص العمل في الإغراب عبر توظيف الأساطير والميثولوجيا والخرافة يصبح العمل عجائبيا، وهذا ما سنأخذ به هنا، ورغم أني أرى أن ما هو عجائبي هو في الحقيقة غرائبي، ولن أدخل أكثر لأن الحذر هنا واجب نظرا لوعورة الموضوع وسعة المبحث، وهو ما لا تستطيع هذه المقالة معالجته بعمق.
لم يقم خداش في رحلة إلى الآخرة، ولا بزيارة إلى الجنة أو الجحيم، ولم يقابل أدباء أو شعراء، أو يحاور الجن والشياطين، ولم يقم بما قام به دانتي في "الكوميديا الإلهية"، تلك الرحلة الخيالية بين الجنة والمطهر والجحيم، ولم يشطح خياله كما فعل جوزيه ساراماغو في روايته "العمى" وكما فعل رفاقه من أدباء الواقعية السحرية التي لاقت رواجا في أمريكا اللاتينية، لكنه قام بعمل تخييلي فلسطيني حين أتاح لنفسه، أن يعيش حياتين لا حياة واحدة، وأن يجمع أحيانا بين أشخاص عاشوا في زمنين متباعدين. فهل كان خداش في عمله مقلدا لمن سبقوه؟ وهل نسخ أعمالهم؟ وهل خطرت بباله تلك الأعمال حين فكر بكتابة مجموعته؟ ليس ذلك أمرا ضروريا، لكن هذا الرصيدَ الخياليَّ المكتسبَ متواجدٌ في زاوية من ذاكرة خداش كما في ذاكرة الكثير من المبدعين. وهذا ما نرمي إليه عند الحديث عن ذخيرة المؤلف وسعة التلقي.
لم يخلق خداش عالما غرائبيا، لكنه قام بتوظيف ما هو مدهش وصادم، كما أشرنا أعلاه، أما في قصته "طفلة في علبة شوكولاتة" (ص23) فقد دخل في تخوم العجائبية: "انزوت سلمى بالعلبة متحمسة في زاوية الخيمة، بينما شرع الآخرون في الثرثرة، فتحت سلمى العلبة بحماسة، التقطت حبة نزعت غلافها، فإذا بفتاة صغيرة جدا على شكل حبة شوكولاتة تصرخ: لا تأكليني يا سلمى، فأنا مجرد بنت صغيرة خرجت من البيت؛ لتشتري شايا لأمها". يتابع الراوي قصة هذه الطفلة، فإذا بنا أمام قصة عجيبة غريبة، فالطفلة هذه التي تسكن في يافا في حي المنشية بالتحديد، قد أرسلتها أمها لتشتري علبة شاي، وحين خرجت من البيت تحدث معها أمور مدهشة وغريبة جدا، أهم ما فيها أنها رغبت في المشي فرأت غيمة تشبه حبة الشوكولاتة فمدت لها يدها، وحدث ما لا يصدق إذ إن شيئا ما رفعها ووضعها فوق الغيمة وبدأت أصوات من الأرض تصرخ وتستغيث لإعادتها إلى الأرض. لكنها بقيت فوق الغيمة تسبح في الفضاء وقد نسيت اسمها وأهلها ومكان سكناها. ولكنها الآن وقد انتابها شعور جديد ومريح عرفت أنها ابنة سبع سنوات وأنها تركب ظهر غيمة بسعادة غامرة.
تتوفر في هذه القصة القصيرة كل شروط الكتابة العجائبية، لكن هذا الإغراق في الخيال إلى هذه الدرجة لم يتكرر في قصة ثانية. وهي قصة تفرض على المتلقي أن يبحث فيما تحمله من إشارات ودلالات. ينفتح باب التأويل على مصراعيه دون الوصول إلى نتيجة واحدة ثابتة. فهل الفلسطيني الذي هُجِّر من أرضه ومن بيته ومن وطنه يهرب من واقعه نحو الأحلام علّه يحظى ببعض السعادة؟ ربما. وهل الأطفال الفلسطينيون هم حبة الشوكولاتة الطيبة في هذه الحياة؟ ربما؟ وهل بات الواقع الفلسطيني مأساويا إلى درجة الضياع؟ ربما أيضا. وهل هذه قصة للأطفال؟ هذا جائز جدا، فهي تليق جدا بهذا الجانر الأدبي نظرا لما تتميز به قصص الطفال من خيال جامح.
إنها تحمل من الغرابة ما يثير كل هذه التساؤلات وأكثر. تبدأ القصة بولادة طفلة في خيمة في مخيم الجلزون بجوار رام الله، وقد جاء الجار برفقة زوجته ليقدما التهاني للعائلة بمناسبة ولادة الطفلة "هجرة"، يحملان علبة شوكولاتة أخذتها الطفلة سلمى وجلست في زاوية من الخيمة، ثم فجأة ودون تمهيد تحدث كل هذه الأمور الغريبة.
إن الكتابة المغرقة في الخيال وفي العجائبية والغرائبية تستوحي مواضيعها هي أيضا من الواقع، بحيث يمكننا القول إن كل أنواع الكتابة، مهما تمادت في الخيال، فإنها لا تنقطع عن الواقع، ولا تنفصل عنه نهائيا. ولا مراء في أن هذه "الواقعية" هي التي جعلت المنظرين يسمون بعض الإبداع المغرق في التخييل "الواقعية السحرية". ثم إن كل شي في الحياة في سيرورة وفي صيرورة، فلا شيء يثبت على حاله. وبالتالي فإن غرائبية اليوم ليست هي ذاتُها غرائبيةَ الأمس. وغرائبية شعوب أمريكا اللاتينية ليست غرائبية الشعوب العربية، وليس الواقع هو ذاته، بل هو في سيرورة وغير ثابت. فإن كان بساط الريح، يوما ما، قمة الغرائبية والعجائبية فهو اليوم أبسط بكثير من الواقع المعيش.
لا نستطيع القول إن خداش يعمد إلى الكتابة الغرائبية أو العجائبية وفق مواصفاتهما، فلم تنشغل كتابته في الميثولوجي والأسطوري والخرافي. وإن أردنا التدقيق أكثر، اعتمادا على ما ذكر أعلاه في التفريق بين هذين النمطين، فإن هذه الكتابة تتوقف عند حدود الغرائبية وأحيانا نادرة عند حدود العجائبية،
يدرك خداش بحسه المرهف ، وبفعل تجربته الغنية في الكتابة والتأليف، أن قصص المجموعة تتشابه في الموضوع وفي القصدية والدلالة، فحاول التعويض عبر الاقتراب من قص القص، أو ما يسمى "الميتاقص"، وأسطرة الشخصيات، كما في النص التالي من قصة "اسمها زينب، اسمه سامي الأصفر": "لا أعرف الشاعر محمد مهدي الجواهري، لا أستطيع القراءة له، أنا شخص أمّي، لا أقرأ ولا أكتب، لكني أحب زينب، كما لم يحب أحدٌ أحداً، أنفاس حياتي متوقفة على عيشي معها في بيت واحد، ربما تستغربون من علو لغة ما أكتب الآن، وتناقض هذا العلوّ مع أمّيّتي، نعم هذه ليست لغتي، إنها لغة الأستاذ زياد خداش الصحافي والكاتب في جريدة فلسطين اليافاوية، رأيته مرة يجلس في مقهى (اللمداني) في الطابق الأول من عمارة البلدية، أتذكر ذلك اليوم تماما، كان مشمسا، وأتذكر التاريخ: 3.1.1945، دلني عليه أحد زملائي المتعلمين في شركة السكب التي أعمل فيها، وقفت أمام الأستاذ خداش خجلا: أستاذي أنا سامي الأصفر عامل في شركة السكب، أحتاجك في أمر جلل". (أنف ليلى مراد، ص71)
دافع إيديولوجي توثيقي
كل عمل فني له مقصد معين يرمي المؤلف إلى إيصاله إلى جمهور المتلقين، فقد قامت الرواية التاريخية بدور هام جدا، في مرحلة معينة، حين عمد بعض الروائيين إلى تعليم الشعوب تاريخَهم وحضارَتهم. من خلال الرواية، كما فعل رائد الرواية التاريخية العربية جورجي زيدان عبر كتابة مجموعة كبيرة من الروايات التي تناولت تاريخَ العرب والمسلمين خلال مئات السنين. ورغم أهمية ما قام به في حينه إلا أن هاجس الفكرة المركزية الذي ألح على الروائيّ، والدافع إلى الكتابة التعليمية عند زيدان أديا إلى تكرار الأسلوب، وإن تبدلت الشخصيات وزمكانية الحدث المركزي، فلم نر تنوعا في الأساليب وفي التقنيّات. أما خداش فإنه يقوم بإحياء الماضي الفلسطيني القريب بطريقة مغايرة كليا عن أسلوب زيدان، وليس هذا من باب المقارنة، إذ شتان ما بين هذا وذاك.
ما يقوم به خداش يتعدى ردّ الفعل إلى الفعل. لا نأتي بهذه المقولة عفوا، بل لأنه ينطلق في مشروعه مدفوعا بمهمّة الدفاع عن الذات، في وجه رواية الآخر والتحول إلى الهجوم عبر زرع الثقة. تقوم هذه المجموعة القصصية بإحياء أسماءٍ كان لها دور فاعل في إغناء ثقافة أهل َهذه البلاد، فكريا وفنيا وسياسيا واجتماعيا، قام الكاتب بعرضها بأسلوب عمدته التخييل والتكثيف والترميز الشفاف بهدف خلخلة ما يحاول الآخر إشاعته. هذا العمل يحفّز المتلقي إلى العودة إلى المصادر والبحث عن هذه الأسماء وعن دورها في إحياء الحركة الأدبية والفنية والفكرية في فلسطين ووضعِها على خارطة الحضارة العربية والشرقية. وحثِّ المتلقي للبحث عن قرًى اختفت من فوق الأرض وبقيت في ذاكرة أبطال هذه المجموعة القصصية.
يقوم خداش بعملية إحياءٍ وبعثٍ من جديد لما كان يوما واقعا لا خيالا. فإن كانت عملية البعث هي الخيال فإن الحقائق المطمورة هي وحدها، دون غيرها، الواقع الذي يمكن إحياؤه وبعثه من جديد في وعي الناس وفي وجدانهم، فتحوّلت الأحداث والشخصيات إلى رموز، بحيث إنّ كل شخصية عاشت في الماضي قد يكون لها مثيل في الحاضر، وكل حدث من الماضي قد يكون له شبيه في الحاضر. لم تكن فلسطين خرابا خاوية بل كانت تستقطب الفنانين ورجال الفكر والسياسة، وتقيم الاحتفالات وتستقبل كبار نجوم العالم العربي تعرض أفلامهم ومسرحياتهم، وكان فيها شعب يحب الحياة ويحب العلم والفن ويقدّر دوره. ومنهم من عمل في مجالات فكرية متعددة بحيث كانت ثقافتهم جزءا لا يتجزأ من ثقافة العالم العربي يساهمون فيها كمساهمة الآخرين. ورغم أهمية دافع الكتابة، ورغم أهمية التوثيق المدعم بالخيال إلا أن بنية القصص تشابهت في جلها. أما التبدل الأساسي فكان في الشخصيات التي تحمل كل منها حكاية مثيرة جديرة بأن تتجذر في الذاكرة.
يبحث الكاتب عن كل ما سلب، لكنه في هذه المجموعة لم يتحدث عن الوطن بصورته المألوفة وعن التهجير، وعن الأرض وعن مواجهة الطفل بندقيةَ جندي محتل، أو عن عجوز يقف في وجه دبابة، بل ذهب باتجاه معالم الوطن الفكرية يذود عنها، مثلما يذود المقاتل عن تراب وطنه. لم يكن الوطن يوما شجرا وحجرا فحسب، بل هو كل هذه المركبات تجتمع معا وتختمر بفعل الثقافة والفن والأدب والمعرفة، إذ ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، وليس الوطن إلا بما عليه ومن عليه، مرهونا برصيد فكري من الماضي والحاضر.
إننا، عملا بتعدد رؤى المتلقين، نميل إلى الاعتقاد أن خداش الماضي هو نفس خداش الحاضر، ولو قيض لعيسى العيسى أن يبعث من جديد لكان هو ذاته اليوم كما بالأمس البعيد، وكأن ما كان من هموم تشغل بال المثقفين بداية القرن العشرين ما زالت تشغل بال المثقفين بداية القرن الواحد والعشرين. ما زال القلق ذاته، وما زال الهم ذاته.
وحتى لا نضع الكاتب في حدود الإبداع المؤطر فإننا نرى أن الكاتب يتيح لأفكاره أن تحلق بعيدا فتمزج بين الواقع والخيال مع ميل إلى جموح الخيال أبعد من المعتاد. وللتوضيح نذكر أن "الواقعية" بكل تفرعاتها قد سيطرت على مجال الكتابة في الغرب وفي الشرق فترة طويلة من الزمن، وكانت تعنى بتوصيف حال الأمم وما ينتابها بشكل مفصل بحيث يبدو العمل الفني مرآة للواقع وللحقيقة. أما اليوم فإن الكاتب، وإن متح المواضيع من الواقع إلا أنه يبتعد عن التوصيف التقليدي ويجافي أصول الواقعية التقليدية التي تقترب من التوثيق والحفاظ على ربطه ربطا وثيقا بالمكان والزمان. وقد انتبه خداش إلى ذلك فعمد إلى تحاشي ذلك بخلق نصوص عمدتها الجمع بين شخصيات وأزمنة وأمكنة لا يمكنها أن تجتمع معا، ولا يمكنها أن تكوّن حدثا يعكس الحقيقة كما هي على أرض الواقع.
خداش مثل كثيرين من الأدباء الفلسطينيين في حالة غضب وألم مما آلت إليه أحوال الشعب الفلسطيني خاصة، والعربي عامة، وهو مثل غيره يكتب لا من أجل التعبير عن الألم فحسب، بل من أجل التغيير، فهو يرمي إلى تحقيق هدفين في آن معا: معرفة ما كان، وتغيير الواقع الحالي، أما اتباعه هذا الأسلوب التخييلي فإنما لتحقيق الصدمة لدى القارئ، كائنا من كان. إن واقع الحال يؤدي إلى شعور بالغضب والاحتقان، وبالتالي الدعوة إلى التغيير. وهنا بالذات تبرز أيديولوجيا الكاتب ورؤيته الفكرية التنويرية والتثويرية.
خلاصة
يسعى خداش في هذه المجموعة إلى تحديث أسلوب كتابة القصة العربية وكسر "أفق التوقعات" فتمرد على الزمن حين أتاح لبعض الشخصيات أن تجتمع معا رغم الفارق الزمني البعيد، وبالتالي فإن المكان، كما الشخصيات تبقى على حالها مما يتناقض مع منطق الحياة ومنطق القص التقليدي. فنجح في بناء هوية أدبية خاصة تحمل ختمه وحده، دون غيره.
لم تسع هذه الدراسة إلى تبيان مفهوم العجائبية والغرائبية أو مدى تأثر الكاتب بهذا النوع من الكتابة بقدر اهتمام المقالة بكشف تمرد خداش على المألوف في أسلوب كتابة القصة وشكلها ومضمونها التقليدي، وسعيه إلى التمرد على الواقع وخلق بديل أفضل. لأن همه المركزي ينصب في بعث ما حاول الآخر طمسه ووأده. فسعى إلى التركيز على الفكر مؤمنا أنه هو الكفيل بالحفاظ على البشر والشجر والحجر وهو الضامن للبقاء والاستمرار والتطور.
يكشف خداش من خلال هذه المجموعة عن رصيد معرفي تراثي ثقافي تم غمره فأزاح عنه الغبار ونقّاه من شوائبه وألبسه ثوبا أنيقا يعيد إليه مكانته، وتعيد إلى الفلسطيني ثقته بماضيه القريب.
وبالرغم من الإشادة بالتحديث والتجديد في قصص خداش فقد انتابني، أحيانا، شعور أنني تهت في تفاصيل الأحداث بسبب طغيان الفكرة التي يرمي إليها الكاتب أكثر من عملية تنسيقها وصياغتها والتدقيق في طرحها الزمني، فبدت بعض القصص، وهي فعلا قليلة، غير مكتملة المعالم. بل إن بعض القصص بدت كأنها تقرير صحفي مباشر يسعى إلى نقل معلومة ما مفتقرا إلى الفنية التي ميزت معظم قصص المجموعة.
يرفض خداش ما آلت إليه الأحوال، هنا وفي العالم العربي عامة، فكانت كتابته دعوة إلى التثوير والتنوير واختراق الواقع وتبديله، وزرع الثقة بديلا للإحباط، والتزود بمعلومات هامة وغنية ذخيرةً حيّةً للحوار والنقاش. فإذا كانت الكتابة تبدأ كرد فعل، إلا أنها تتحول إلى فعل تغيير لا في الشكل فقط بل في الواقع.
في قصص هذه المجموعة قدر من الواقع يعادل نفس منسوب التخييل، فقد استحضر الكاتب قصصا عمدتها شخصيات لها وجودها في عالم الفكر والفن الفلسطيني، وبالرغم من أن معظم القصص تستمد أحداثها من الواقع لدرجة تجعلها قريبة من التوثيق إلا أنها تمكنت من اختراق عواطف المتلقي ووجدانه، فكان ما أسماه الكاتب "المفقودات" جزءا هاما من معمار مجموع القصص ومن رسالتها التي كشفت ضياع أوراق خاصة أو ضياع أغراض عزيزة على القلب، كما ضاع أصحابها وكما ضاعت فلسطين.
يخرج المتلقي بعد قراءة المجموعة وقد اطلع على معلومات هامة من تاريخ الشعب الفلسطيني، وعلى بعض مراكز الإشعاع الثقافي مثل انتشار دور السينما والمسرح والمقاهي الثقافية، وعلى أسماء الفاعلين والناشطين فيها وعلى اللقاءات مع أهم الشخصيات من العالم العربي الواسع التي زارت فلسطين والتقت بأهلها. ما يعني أن فلسطين كانت جزءا لا يتجزأ من العالم العربي غير مفصولة عنه جغرافيا وفكريا.
أعاد زياد خداش بعض معالم المكان دون الدخول في التفاصيل الخارجية، لأن همه الرئيسي لم يكن توثيقه، بل إعادة بهائه وتوهّجه، فالمكان بناسه وأهله وما عليه من فكر ومن نشاط، فبرز دور المدن الرئيسية مثل يافا وحيفا والقدس وعكا والناصرة. وبالتالي تصبح الكتابة لدى خداش ليست مجرد حالة دفاع أو رد فعل بقدر ما هي الفعل بذاته.