«عودة جفرا» صوت التمرّد رغم المعاناة
مقدمة
من يقرأ شعر الطبعوني في دواوينه الصادرة حتى اليوم يجد قدرا لافتا من الدعوة إلى التمرد، وكنت قد أشرت في دراسة سابقة إلى نبرتي الألم والأمل في دواوينه السابقة. يتكرر ذلك في ديوانه الصادر حديثا "عودة جفرا" (2022)، لكن الأمل هنا ينحو أكثر إلى اتجاه التمرد والميل نحو التصدي لهذا الواقع الموجع مهما طال، سياسيا كان أو اجتماعيا وفكريا. كما يستطيع القارئ المتأني للديوان أن يحصي عشرات المفردات والتعابير الحزينة، إلى جانب عشرات من المفردات وتعابير التحدي.
إن الحزن ليس نقيض التمرد بقدر ما يكون الفرح نقيضا، لكنه يبدو صعب المنال. وبالرغم من حالة الحزن والألم التي تطاولت كليل النابغة، إلا أنها ولّدت لدى الطبعوني حالة من الغضب والعصيان، وأشعلت جذوة الأمل بغد أفضل، فجاء العنوان "عودة جفرا" نظرا لما يحمله من معان ومن دلالات. وقد يكون التحدي للواقع الصعب الذي طال أمده، هو المبتغى الأهم.
بات الحديث عن العنوان وعن "العتبات"، بشكل عام، كما يسميها جيرار جينيت، محط اهتمام الكثير من الدراسات الأدبية الحديثة، وهي تأخذ حيزا لا بأس به منها، نظرا لما لها من أهمية. وبما أني لم أضع من ضمن أهداف هذه المقالة الموجزة تحليل العنوان ودوره وأهميته في هذا الديوان بالذات، فإني ألفت النظر إلى دراستين هامتين تناولتا هذا الديوان: دراسة للباحث الناقد إبراهيم طه بعنوان "الجفراوية، وجهة الشعر عند مفلح الطبعوني" المنشورة في موقع الاتحاد الحيفاوية (30.9.2022)، ودراسة للناقدة الباحثة علا عويضة "شاعر يعيش على خيوط الأمل" المنشورة، أيضا، في موقع الاتحاد الحيفاوية (30.10.2022)، كما أدعو إلى العودة إلى بعض الأبحاث الهامة حول العنوان ودوره، لكن هذه الإحالات لا تعني التحرر الكلي من "جفرا" و"عودتها"، فقد وجدت نفسي مقودا نحو معالجة دلالة العنوان والدافع إلى اختياره، لأني رأيت أن جفرا ليست مجرد جزء من العنوان، بل إنها كل ما جاء في الديوان.
إذن لماذا جفرا؟ ومن هي جفرا الشاعر مفلح الطبعوني؟ وبالتالي ما هي المواضيع التي تؤرقه؟ وكيف يطرح أفكاره؟ وهل يلتزم بمن سبقه، أم يعمل على البحث عما هو جديد؟ هذا ما ستحاول هذه المقالة الإجابة عنه.
هل الأفكار مطروحة على قارعة الطريق؟
إنّ جفرا، كما هو معلوم، حكاية فلسطينية تتحدث عن قصة حب من طرف واحد، ويقال إنها دارت في قرية الكويكات قضاء عكا. وجفرا أيضا نمط من أنماط الغناء الشعبي الفلسطيني. ولكني بتّ، ربما مثل غيري، كلما قرأت كلمة "جفرا" خطرت ببالي الفتاة الفلسطينية بكل مميزاتها، شكلا وجمالا ورقة وأنوثة وحزنا ووجعا وغربة وتحديا، أو خطرت فلسطين كلها بكل ما تحمله من تداعيات ومن إشارات ودلالات.
انطلاقا من رؤية العديد من المنظرين والدارسين، وعلى رأسهم جوليا كريستيفا التي ابتكرت مصطلح التناص، أو تداخل النصوص، كما يحلو للبعض تفسيره، فإن توظيف "جفرا" عند الطبعوني وعند غيره كان بدافع إغناء النص وتأثيثه برصيد ذي قيمة في الذاكرة الفلسطينية. فإن غنى ثقافة المؤلِّف ونوعية هذه الثقافة لا بد أن تنعكسا في المواضيع التي تشغله. ما يعني أن الطبعوني قرأ حكاية "جفرا" وما قيل فيها وعنها في أكثر من مصدر. كما أنّه قرأ مؤلفات فلسطينية وعربية تتناول مآسي الفلسطيني، فكان لا بدّ أن تتراكم في وجدانه وفي ذاكرته حكايات عدة مؤثِّرة وجدت طريقها نحو مؤلفاته، وهو الشاعر المؤدلج الشديد الحساسية إزاء ما يحدث مع شعبه ومع شعوب أخرى ذاقت الأمرين من ظلم القوي للضعيف.
قال بعض العرب قديما: إن الأفكار مطروحة على قارعة الطريق تنتظر من يلمُّها. ما يعني أن الإنسان مشغول منذ خلق البشرية بقضاياه اليومية، مثل العدل والظلم والحب والكراهية وما إلى ذلك، ولذا لا بد أن تتكرّر هذه المواضيع في الأدب عامة، دون أن تقتصر على أدب أمة دون غيرها. لكن السؤال هو كيف يلمّ الأديب هذه الأفكار وكيف يعيد صياغتها؟
إن المؤلَّفات الأدبية تكوّن مع ما سبقها وما عاصرها مبنى فسيفسائيّا من نصوص قديمة ومعاصرة، وكل ما نقرأه لا بد أن يقيم حوارا مع نصوص أخرى، لأن عقل الإنسان يقوم بتجميع قصص وحكايات وأقاويل وروايات وأفكار من الماضي والحاضر، فتقبع في الذاكرة حتى تجد لها طريقا للخروج بأسلوب يستهوي المؤلف.
إن الأفكار ليست مطروحة على قارعة الطريق حتى يأتي أديب فلسطيني ويلمها، إنها بالنسبة للفلسطيني عالم من مآس تحيط به وتلتفّ حوله من جميع الجهات، وترافقه في كل الأماكن وفي كل الأزمنة، تدخل إليه من شباك بيته إن لم تجد بابا تدخل منه. وأما تداخل النصوص ببعضها وحواراتها وإحالاتها إلى أخرى فهذا شأن عام، لكن الفلسطيني المهجَّر الذي فقد بيته وأرضه وجيرته فإن ذاكرته الخاصة، كما الجمعية، تحفل برصيد هائل وشاسع من التجارب التي تنهال من ذاكرته كلما حمل القلم وهمّ بأن يكتب أدبا. إن الأفكار لدى الأديب الفلسطيني ليست على قارعة الطريق، فحسب، بل هي محصلة تجارب ذكرتها كتب التاريخ وكتب الأدب ووثّقتها المراجع، وهي لدى الفلسطيني، أيضا، محصلة حكايات البيوت والدواوين الشعبية ولقاءات الصغار بالكبار الذين عاشوا وعايشوا أصعب فترات المواجهة والفقد والضياع، فبات ما قيل وما كتب وما رأته العين هو كل كيانه يغرف منه متى شاء.
جفرا الطبعوني ليست إحدى تلك الأفكار فحسب، بل هي حكايته وحكاية شعبه وناسه وبيئته، هي التي رأت وجربت وأُبعدت وغُدرت، حتى كانت العودة التي سعت من أجلها سنين طويلة. والعودة ليست مجرد كلمة بل إنها ترتبط ارتباطا وثيقا بالتهجير والفراق والبعاد، إذ لا عودة إلا بعد فراق، والفراق يعني الانقطاع عن البيئة وعمن نحب، وعن كل ما اعتاد الإنسان عليه في حياته.
هل جفرا من لحم ودم؟
جفرا الطبعوني معذبة ومتمردة، في نفس الوقت، وحالمة بغد يرفل فيه الشباب والصبايا بثوب الكبرياء الفلسطيني: عادت جفرا/ من قلب الجُبِّ/ عادت تحمل أوجاع الحبِّ/ تذرِف مع أحزان الفلِّ/ دمعا يروي أرض الغلِّ/ جفرا تحلُم بالغيمِ/ تنهل من نبع الخِصبِ". جفرا الطبعوني خانها أهلها كما خان الإخوة أخاهم يوسف وألقوه في الجب، ولكنها مثل يوسف الذي ظل، رغم ألمه، ورغم الخيانة، ورغم الظلم والغبن، مخلصا لأخوته وأهله، يعمل على إنقاذهم مما ألمّ بهم من جوع، فزرع الغل وحصده، وهكذا هي جفرا، سارت في درب الآلام وظلت تزرع أملا وحبا.
تعرضت جفرا في الحكاية الشعبية للضرب من زوجها منذ الليلة الأولى من زواجهما كي يثبت الرجل العربيُّ رجولتَه، لكنها لم تستسلم للواقع المرّ، فهربت وتزوجت من آخر. ثارت جفرا على الظلم وعلى "القيم الشرقية" البالية وأعتقت ذاتها بذاتها من عبودية الرجل. قد يدعي من يدعي أن الناقد يذهب أبعد مما يرمي إليه الشاعر. وقد يتساءل بعضهم: هل يجوز لك أنت القارئ أن ترى ما تشاء؟ ألا توجد ثوابت وأصول للرؤية الشعرية؟ أو الرؤية الأدبية؟ وهل فعلا هذا ما رمى إليه الشاعر؟ وهل كانت هذه القصة في ذهنه حين كتب قصيدتَه التي افتتح بها ديوانه وأعطاها عنوان "عودة جفرا"؟
لا تهمني الإجابة "نعم" كانت أم "لا"، فأنا القارئ وأنا الذي تسلمت زمام مقارعة النص ومحاورته، بناء على ما يقوله النص وبناء على ما قرأته من أشعار الطبعوني السابقة. لم يعد الديوان ملك الشاعر بعد أن قام بتسليمه للمطبعة، بل بات ملك القارئ، لكن منعا للفوضى نؤكد أنّ عملية معالجة النص الأدبي يجب ان تلتزم بما يقوله، وبما يلمح إليه النص ذاته. كما تقع على عاتق القارئ المتمرس مهمة ملء الفراغات، والبحث عن جماليات النص، وعن قصوره أيضا، فعملية التأويل عملية مضنية، لكنّ تعدّد القراءات التي يقوم بها القارئ الناقد، وتفعيل الآليات التي اكتسبها عبر الممارسة السابقة والاستفادة من قراءات الآخرين يتيح له كلُّ ذلك فكّ الغموض وكشف الدلالات والإشارات.
على القارئ المتمرس أن يوظف ثقافته وتجربته قبل إصدار أي قرار. فمن يقرأ شعر الطبعوني، في دواوينه السابقة، سيجد أنه، كما ذكرنا أعلاه، يرفض الثوابت الاجتماعية، ويرفض الأصول المتحجِّرة، ويبحث عن مجتمع ثائر ضد الاحتلال وضد العادات والتقاليد، لذلك فإنّ جفرا الشاعر هي خلاصة بنات أفكاره، تجسّدت بصور مختلفة لا في القصيدة التي تحمل نفس العنوان فحسب، بل في كل ما كتب، وكما أن جفرا ثارت على زوجها وعلى المجتمع، واختارت زواجا آخر وطريقا آخر، فإن جفرا الشاعر اختارت طريقا اجتماعيا وفكريا وسياسيا آخر بعيدا عن المألوف.
عادت جفرا بعد رحلة سيزيفية رأت فيه الأهوال من القريب قبل البعيد، خدعها أهلها وناسها، وباعوها بعد أن ألقوها في الجب، وظلت رغم الغربة تحلم بالعودة حتى كان لها ما أرادت. لم تعد كما كانت قبل التيه والضياع، ولن تكون بعد اليوم ضعيفة ولن تُسلِّم زمام أمورها إلا لمن يعرف الطريق ويعرف كيف يكون الخلاص. عادت جفرا قوية وراسخة على مبادئ ثابتة صاغتها اعتمادا على تجربة صعبة، وعلى مسيرة طويلة شائكة. لم تكن "عودة جفرا" مفروشة بالزهور والورود. لم تكن كذلك ولم تتحقق إلا "على جسر من التعب" بعد لأي وكد، وبعد نضال طويل، وبعد تغيير ما كان.
تمكن الشاعر من نقلها من موقعها المألوف إلى مكان آخر، لتتحول، أحيانا، إلى شخصية أو شخصيات من لحم ودم نلتقي بها في أماكن وفي أزمنة متعددة، تذبح هنا وتصلب هناك، وتقصف من اليمين ومن اليسار. جفرا وإن حملت هذا الاسم، كما حمله غيرها، إلا أنها باتت وفق مواصفاتها أشبه بأسطورة، أحيانا، تحوم هنا وتحط هناك، تعارك في الشرق وتناضل في الغرب، تتلقّى الضربات الواحدة تلو الأخرى من أخ ساقط ومن آخر خائن. تُضرب في الظهر كما في الصدر، لكنها تتابع التحليق. فهل هي طائر أسطوري إغريقي؟ أم أنها اعتادت أن تبعث من جديد كلما احترقت وصارت رمادا؟
جفرا لا تنهض لتتمتع بملذات الحياة، ولا لتنعم بفراش وثير، لكنها تعود في كل مرة لتقف على رجليها وتتابع المسير. حياة جفرا رحلة من العذاب المرّ، دون أن يعرف اليأس طريقه إلى القلب. جفرا المعذّبة الصامدة تحمل كل مواصفات الوطن، أحيانا، تحمل في قلبها تاريخا وتخطّط لبناء مستقبل أفضل، وترسم خارطة البيت والأرض والحجر والشجر. جفرا عاشقة ومعشوقة في آن معا، تعشق من يذود عن حمى الوطن، ومن يرسم بقلم من رصاص صورة لأم تحمل طفلا بذراعها اليسرى وتحمل بيدها اليمنى حجرا، ويعشقها كثيرون وينتظرون عودتها كما ينتظر الأهل عودة المقاتل من أرض المعركة بعد طول غياب.
من الإحساس إلى القول
نؤمن كما يؤمن كثيرون غيرنا أنّ الشاعر شاعر من خلال ما يقول، لا من خلال ما يحس، وأنه يقول بعد أن يحس، وبالتالي فإن المتلقي يتعامل مع القول الشعري الذي يتمخّض عن إحساس الشاعر. إذ إنه يلتقط مشهدا معينا أو حدثا معينا في زمن محدد، ثم تولد الفكرة في قالب معين، وفي صياغة لغوية معينة تتلاءم مع الفكرة. والحس وليد التجارب الخاصة والعامة.
أخذ الشاعر مفلح الطبعوني على عاتقه، منذ كلمته الأولى، أن يعمل على مقارعة السياسة الإسرائيلية، وحمّلها مسؤولية المآسي التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني منذ أكثر من قرن، ورأى دون تأتأة أنّ أماني شعبه لن تتحقّق ولن ترى النور دون أن يتحرّر الفكر من قيود السلفية. ووجد أنّ هذه الأفكار الظلامية تحُول دون لحاقه بركب الحضارة. عاين ما يحدث على الأرض، فوجد أنّ الأيادي ذاتها هي التي تحرك في العلن وفي الخفاء تلك الخيوط، فآمن أن الظلم واحد وأنّ الشرّ واحد، وأنّ دعاتِه هم أعداء الإنسانية منذ بدء البشرية وحتى اليوم.
رسم الشاعر خطوط الطول والعرض، ووضع حدودا واضحة لمسيرته ولرؤيته الفكرية، دون أن يحيد عنهما قيد أنملة. واضح، صريح وشفاف؛ يعلن مواقفه دون مهادنة، يدعم حق الشعوب المقهورة في استرداد حقها، أمميّ حتى الثمالة، بسيط حد المباشرة، شفاف حد المكاشفة الحادة، وضعيف مثل بركان لا يلجم عواطفه حين تلامس شغاف قلبه امرأة تخرج صباحا للبحث عن لقمة خبز تسدّ رمق طفل ينتظر عودتها.
يلجأ الشاعر إلى توظيف المفارقات على أنواعها، لتساهم في خلق حالات من التناقض بين النور والظلمة، والخير والشرّ، والظالم والمظلوم، حتى تتكشّف الأمور على حقيقتها في شكلها الساخر. والسخرية، على أشكالها، وسيلةٌ يلجأ إليها الكثير من الشعراء الفلسطينيين للتعبير عن همومهم وآلامهم من ناحية، وللنيل من الآخر من ناحية أخرى. لسخرية الطبعوني نكهة خاصة، مؤلمة تخز في الخاصرة أحيانا، وتبعث على البسمة أحيانا أخرى، وشامتة حين تنال من الخصم.
لم يشهد الطبعوني وأبناء جيله من الشعراء حالات انتصار كبرى تأخذهم نحو النشوة، ولم يروا سوى الهزيمة تجرّ الهزيمة، والخسارةَ تتلو أختها، فوجّه سهام غضبه نحو الذات قبل أن يوجهها نحو الآخر، وظلّ، رغم غضبه ورغم هياجه، مؤمنا بأن الحق لا يضيع ما دام هناك مؤمنون بصدق القضية. وهو لا يجامل ولا يهادن، يعرّي بعض من يعتلي المنصات بلبوس الواعظ وهم يبثّون سموم أفكارهم باسم العزة والشرف.
يعاين الطبعوني أصغر الأحداث ويتابعها مصيخا السمع لأبسط تنهيدة تصدر عن طفل مكلوم، ويتابع بعيون نسر عجوزا يصوّب عكازه نحو فوهة بندقية، ويجد الخلاص في صبية تندفع متحدية جنازير دبابة دون خوف أو وجل.
عرف عن الأدب الفلسطيني ولعه بإعادة إحياء المكان الذي يتعرض لعملية تشويه في الصورة والجوهر، فذهب الشعراء والروائيون وكتاب القصة الفلسطينيون نحو القرية والحقل والسهل والجبل يعيدون بناء المكان، يعمرونه ويعيدون تأثيثه بذكريات راسخة رسوخ ترابها، وذهب الطبعوني نحو الناصرة وأزقتها وحواريها وأهلها مستعيدا صورا راسخة في وجدان أهلها. وللناصرة مكانة خاصة عند الشاعر، يعود إليها اليوم يستذكر محطات هامة من تاريخها حين سطّر نساؤها ورجالها مواقف عزٍّ وشرف، عاصر بعضَ شخصياتها الهامة وقياداتها الحرّة التي ضحّت من أجل بقاء الناصرة وأهلِها عاصمةً تبثّ الحب والخير والإيمان بالمستقبل.
يرى الطبعوني، مثلَ غيره من الأدباء، ما تتعرض له الهوية العربية من تشويه، وهو العالم أنّ الهوية ليست مجرد وريقة صغيرة بل هي إيمان راسخ بحب المكان وأهله وناسه، الذين يعملون على ترسيخ أواصر المحبة بين أبنائه بعيدا عن الطائفية البغيضة. فالهوية إيمان بماض مشرّف؛ بنسائه ورجاله وبناته وأبنائه الذين أعطوا وضحّوا وناضلوا كي تبقى اللغة ابنة المكان وابنة الزمان، فلا يتردّد في الحديث، إما بشكل مباشر أو بالتلميح، إلى سيّدات لم يعتلين المنابر ولكنّهن حافظن بنضالهن على شرف الانتماء وشرف الهوية. يثور الطبعوني وينفجر غضبا حين يرى ما تتعرض له المرأة من ظلم من مجتمعها الغارق في وحل التخلف، ويرقّ مثل وريقة ناعمة حين يرى طفلا يحمل وردة في عيد العمال.
الشاعر مولع بالترميز لدرجة قد ترهق القارئ فتحول دون إدراك بعض التراكيب، فيلجأ إلى فتح كوّة بديلة يلج المتلقي من خلالها حتى يتفاعل مع النص، باحثا عن متلق يدرك معنى النور ويؤمن أنّ النار قد تحرق اليابس من الفكر فقط.
خلاصة
يتابع مفلح الطبعوني في ديوانه الجديد ما قد بدأه في دواوينه السابقة، لم تتغيّر هواجسه ولم تتبدّل. لقد تصدّى في شعره للتمييز القوميّ على جميع مستوياته: مصادرةِ الأرض، تزييفِ التاريخ واللغة والثقافة، والطردِ والتهجير. أما ظلم ذوي القربى فيتجلّى في صوره البشعة بكل ما يتعلق بالمحرمات الثلاثة: الدين، الجنس والسياسة. هذا ما قلناه في إنتاجه السابق وهو ما نقوله في كل ما كتب. هذه هي بوصلة الطبعوني ويقيني أنها لن تغير مسارها.
إن العنوان "عودة جفرا" ليست العتبة بقدر ما هي القفلة، فقد بنى الشاعر ديوانه كقصيدة واحدة تحمل فكرة واحدة ووحيدة، هي "عودة جفرا". بدأ من الخاتمة ليعود إلى الخلف يقص علينا تفاصيل عودة جفرا، عبر طريقها الطويل. والعودة ليست سوى محصّلة الهجرة، فلا تكون إلا إثر بعاد وفراق وشوق وحنين. هنا تقع على القارئ مهمة البحث عن مفهوم العودة وعن مسبباتها وحيثياتها وعن جفرا ومواصفاتها ودلالات العودة.
لا يسعى الطبعوني وراء المألوف، وهو يرى أن الالتزام بما كان من قبل من شأنه أن يقيِّد فكر المبدع، وهو ليس فريدا أو متفردا في ذلك، لأن هذا ديدن الكثير من المبدعين على مر العصور. لم يلتزم الشاعر أبدا بأصول الشعر الكلاسيكي أو النيوكلاسيكي، ولم ينشغل أبدا بالصدر والعجز وبكل ما يتعلق بعمود الشعر من أسس، مؤمنا أنّها أشبه بالقيود الاجتماعية التي تكبِّل مجتمعَنا وتسحبُه نحو الماضي، فنراه يكتب الشعر الحرّ غيرَ الملتزم بالوزن والقافية، أو يكتب ما يسمى ب "شعر التفعيلة". وكي يعوض، في شعره المنثور عن الموسيقى التي اعتادت عليها الأذن العربية فإنه يذهب، أحيانا، باتجاه الموسيقى الداخلية للألفاظ، أو ما يسمى بالجرس الحرفيّ، وخلق صور شعرية مبتكَرة تشغل القارئ عن قضايا الشكل.
لم يلتزم الطبعوني بصورة جفرا، كما عرفناها في حكاياتنا الشعبية ولا في أغانينا، ولا في الصور الشعرية المعروفة. ودون أن نقلل من أية جفرا، سواء تلك أو هذه، إلا أنّ جميعهم أعطوها ما تستحق من عناية. جفرا ليست سيدة عشقها الطبعوني ولا صبية سرقت لب عاشق، بل هي أكبر من أن تكون ذات ملمح ما محدد بخطوط طول أو عرض. هي كلٌّ واسع من مركبات ومن حيوات. ولكنها، دون أن نحدد لها شكلا، ملكت قلب الشاعر وشغلته وألهمته بكثير من الأفكار والصور. تمنى أن تعود فعادت، لأن لها حق العودة.