السبت ١ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم أماني ريحان ميرود

المقاعد الشّاغرة

فتحت عيني ونظرت في ساعتي فإذا بِها الثّالثة صباحا. فتسلّلت من فراشي برفق وفتحت بلهفة حاسوبي لأقرأ للمرّة الثّالثة والثّلاثين الامتحان الذي أعددته لتلاميذي. شعرت فجأة بيدين صغيرتين تحضناني وتُحاولان عبثا إعادتي لفراشي الدّافئ. فإذا بها ابنتي تنظر لي باستغراب:

- ماما ماذا تفعلين في هذه السّاعة وفي هذا البرد خارج فراشك؟

نظرة عينيها الصّغيرتين أعادتني إلى طفولتي عندما كنت أتعجّب لرؤية والدي يفعل الأمر ذاته، حينها كان يقول لي ليُطفئ لهيب حيرتي في أمره:

 المُعلّم يبقى تلميذا مهما تقدّم به السّنّ ومهما تقادم في ممارسة مهنته.

أذكر أنّ إجابته زادت من فضولي ولم تبد لي منطقيّة حينها. وها أنا الآن أستوعب كلامه بعد مرور ثلاث وعشرين سنة وأكرّره بدوري لابنتي، التي اتّخذت مجلسا بجانبي وبقيت ترقبني إلى أن استسلمت للنّوم مجدّدا.

أعدتها إلى سريرها وعُدت لأتفقّد الامتحان مرّة أخرى وأتساءل إذا ما كان الكلّ سينجح. بقيت على تلك الحال إلى أن رأيت جميع من في المنزل يستيقظون الواحد تلو الآخر، أعددت طاولة الفطور وأخذت لنفسي قهوتي المُرّة التي تعوّدت على احتسائها أمام شاشة الحاسوب لتحلّيها أعداد تلاميذي أو رسائلهم الإلكترونيّة التي أتلقّاها أو بعض كلماتهم المكتوبة والمُعلّقة أمامي. لا أحد يجرؤ على قطع حبل أفكاري أو مُخاطبتي قبل أن أُنهي قهوتي. خرجنا من البيت مررنا بمدرسة ابنتي ثمّ معهدي. دخلت مُستبشرة فاليوم مشمس والسّماء ضاحكة. دخلت القسم وبقيت أنتظر تلاميذي على أحرّ من الجمر. اعتدت ترك الباب مفتوحا ليدخلوا مباشرة لا أتركهم ينتظرون في الصّفّ إلى أن يدقّ الجرس، فقبل أن يدقّ نسترق أحلى لحظات ما قبل الدّرس. أسألهم عن أحوالهم عن أسبوعهم الذي مضى كيف كان وكيف هو أسبوعهم الحاليّ، وعن جديدهم، أُحاول دائما مشاركتهم أخبارهم السّارّة ومواساتهم إذا ما كانت غير سارّة، ولِما لا قد نبدأ يومنا بأحلى فكاهات وأطرف القصص لنُلطّف من جوّ الامتحانات الذي يُخيّم على عقول التّلاميذ ويشغلهم.

دقّ الجرس فجأة ولم يكن في القسم سوى ثلاثة تلاميذ، ولأوّل مرّة أراهم يُواسونني، فقد لاحظوا صدمتي لفراغ قسمي يوم الامتحان، فلم أتعوّد على غياب تلاميذي خاصّة في يوم كهذا وبهذا القدر.

بقيتُ أنظر إلى المقاعد الفارغة أمامي في دهشة، ثم قلت في نفسي ربّما هناك أشغال أو حادث ما على الطّريق فتعطّلوا عن القدوم في الوقت. أسرعت لرؤية المدير وطلبت منه أن يترك الباب مفتوحا عشر دقائق إضافيّة فقد كنت على يقين بأنه مُجرّد تأخير وأنّ تلاميذي لا يمكنهم التّغيّب على الامتحان. لاحظ توتّري وصدمتي فطمأنني قائلا:

ـ سأترك الباب مفتوحا ثلاث عشرة دقيقة.

عُدت إلى قسمي وأنا مُحبطة من مواجهة المقاعد الشّاغرة. مرّت الدقائق والكلّ ساكت مُحبط مثلي أو أكثر وبرد الجمر في الأثناء، لكنّ المقاعد بقيت على حالها. ذهبت مجدّدا لرؤية المدير لأطلب منه الاتصال بأولياء تلاميذي للاستفسار عن أسباب الغياب، ثمّ تراجعت وأخبرته أني أفضّل الاتصال بهم بنفسي فلا طاقة لي للانتظار في قاعة قسمي بحضرة المقاعد الشّاغرة.

اتّصلت بالعائلة الأولى فرنّ الهاتف دون أن يجيب أحد، اتّصلت بالعائلة الثّانية دون إجابة، فاتّصلت بالثالثة. وأخيرا ردّت والدة تلميذ، سألتها عن أحوالها في عجل على غير عادتي ثم عن سبب غياب ابنها فقالت لي: - لست أدري ماذا أُجيب؟ ألم تُشاهدِ التلفاز بالأمس!؟

قلتُ:

 لا، ولكن ما علاقة هذا بغياب ابنك؟!!!

قالت لي:

ـ ألقي نظرة على مواقع التّواصل الاجتماعي أو شاهدي التّلفاز وستفهمين ما يحدث.

جالت بفكري الكثير من الأفكار، هل ضرب زلزال ما بالأمس؟ أيّ كارثة حلّت بنا؟ مالذي حصل؟! فوالدي لم يُرسل لي رسالة كلّ صباح ليرجو لي يوما سعيدا، ألِهذا لم يكن يومي مُوفّقا؟! لا أذكر كيف أغلقت السّمّاعة واتّصلت بأبي فلم يردّ هو بدوره. فسارعت" للفايسبوك " فإذا به مقلوب رأسا على عقب، والكلّ يرثي وقته وحياته وعِلمه وعَمله. لم أفهم شيئا. فقرأت بعض التّعليقات لأفهم ما يحدث. فوجدت ضُحى التُونسيّة حديث الكلّ. الفتاة التّونسيّة التي ظهرت على قناة تتبجّح بِكَسبها السّهل لأموال طائلة بفضل التّفاهة التي تُسوّقها على التيك توك. وقد صرحّت أنها لم تُنهِ تعليمها الأساسي وأن معدّلها لم يتجاوز الثّلاثة. ففهمت حينها سبب شغور مقاعدي. تهافتت على ذهني الكثير من الأسئلة التي شلّت تفكيري لوهلة: كيف يُروّجون للتّفاهة والتّهريج في القناة التونسيّة؟ وما مقصدهم من اختيار بثّ هذه التّفاهة في موعد الامتحانات؟ هل نجحوا حقا في تشويش فكر التّلاميذ وصرفهم عن مقاعد الدّراسة؟ كيف سيستطيع الأولياء إقناع أبنائهم بأهمّية العلم في رُقيّ المجتمع وهم يرون المتعلّمين تُستباح كرامتهم وتُنتهك كلّ يوم في ظلّ نظام يُشجّع على التّفاهة ويقمع المتعلّمين ويُجوّعهم ويحرمهم حقّهم في التّوظيف بعد سنوات طوال من الحرمان والتّضحية في سبيل العلم؟! لماذا تسعى القنوات التّونسية لضرب القيم والعلم والتّرويج للتّفاهة؟ كيف جعل الإعلام من ضُحى رمزا للنجّاح وقُدوة للأجيال الصّاعدة؟ ما هو شعور الدّكاترة الذين أفنوا حياتهم في الدّراسة دون الحصول على فرصة عمل؟! كيف اغترّ تلاميذي بهذا النّجاح الزّائف؟ ألم أُؤدّي رسالتي كما كان يجب أن تكون؟! لقد كنت أعتقد أنّي أُؤدّيها على أحسن مِمّا يمكن أن تكون، إلى أن ظهرت ضُحى على الشّاشة وقلبت كلّ موازيني.

بقيت ُعلى تلك الحال فترة ثمّ تداركت ُ أمري ودرّست تلاميذي الحاضرين وشاركتهم استغرابي من تأثّر زملائهم بالتّفاهات التي تُبثّ وعن سذاجتهم واقتناعهم بها.

انتهت حصّتي وعدتُ إلى بيتي مكسورة الخاطر والجناحين مهزومة النّفس والكبرياء. وأغلقت مكتبي وبقيت أمام شاشة الحاسوب أنظر إلى أسماء تلاميذي كأنها جثث ملقاة على صفحتي لا روح فيها إلى أن بدأت الرّسائل الإلكترونيّة تتهاطل... كانت رسائل اعتذار من تلاميذي الغائبين عن الامتحان. وبدأت الرّوح تعود لجثثي الهامدة، بل رأيت أسماءهم ترقص وتشرب نخب الانتصار على التّفاهة والسّذاجة. يبدوا أن تلاميذي الثّلاث نجحوا في اقناع زملائهم في العودة للصّف، لقد تفوّقوا على مدرّستهم وهذا فخر وشرف لي.


مشاركة منتدى

  • الاعلام التونسي الخاص يعمل ضمن اجندات خفية تهدف لضرب مبادئ المجتمع و ترويج لتفهات داخل المجتمع و ضرب الجيل القادم في ضل بث برامج ترفيهية ذات محتوى متدني يعمل لجيهات خاصة .
    شكرا لك أماني على تطرقك لهذا الموضوع الحساس ،في ضل سكوت البعض ، الذي هزّ الجميع ،فما مصير هذا الجيل الذي محيت هويته ؟؟و الى متي سيضل اعلام يروج لمثل هذه التفاهات !!!و ما مصير خّريجي الشهائد العليا و دوكتورا في تونس !!!
    اعلام العار يهدف لضرب الدولة بجيل القادم نائم على وضع .....

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى