الخميس ١٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٥
بقلم أمل إسماعيل

المنعطف.. فيلم بنَفَس روائي

عندما تصبح العزلة هي القضية، وعندما تتحول فلسطين إلى أيقونة عودة لـ(رفقي عساف) مخرج فيلم "المنعطف"، تبدو ملامح "النكبة" واضحة تماما في عيني "راضي" (أشرف برهوم) بطل فيلم المنعطف، الذي يتقاطع مع نكبة "ليلى" (فاتنة ليلى) بطلة الفيلم التي تفلت من مغتصبيها بمساعدة من إضاءة خاطفة لسيارة "الميني فان" التي يعيش فيها راضي في كراج سيارات مهمل، ثم تتحول هذه الإضاءة إلى مساعدة لليلى لتتمكن من الوصول إلى أهلها في الشام، ووصول "رامي" (مازن معضم) إلى وجهته، ورجل الأمن (أشرف طلفاح) إلى مركزه.

المرأة محرّك الحياة

دخول ليلى المفاجئ لحياة راضي يقلبها رأسا على عقب، ويرمي مباشرة إلى نظرة المخرج – وجهة الإنتاج – إلى "تمكين المرأة" – كما عبّر المخرج شخصيا في حواره مع الجمهور – ليقدم لنا ليلى عربية مختلفة قادرة على التعامل مع حالة الذعر، والتمسك بالحياة، فتراها هي المبادرة إلى تغيير مسار عزلة راضي، وتمد يد العون للغرباء – رغم تعرضها هي شخصيا لخطر الغريب – فتعرض على رامي، ثم على رجل الأمن توصيلهما بسيارة راضي، وتدير دفّة الحوار دون خجل ولا تردد. وتتجلى هذه الرؤية في قمة معانيها في مشهد إصلاح السيارة المعطلة عندما تفتح ليلى محرك السيارة وتصلح الخلل بنفسها في ظل عجز راضي عن ذلك لقلة خبرته بالسيارات.

راضي.. غير راضٍ!

عزلته هي تعبير قاسٍ عن سخطه على الحياة وعلى الناس، واعتماده على ملامحه ونظراته العميقة في إيصال حوار داخلي عميق يعتمل في صدره كان أبرز ما ميّز شخصية راضي الغامضة التي أخذت تتفتح رويدا رويدا لتكشف لك عقدة الفقد والوجع والجرح الروحي – فقد الأب في سن 12 وحرصه على الاحتفاظ بلاصق الجروح على إصبعه وتغييره منذ ذلك الحين رغم اختفاء الجرح الخارجي – إلى أن جاءت ليلى لتمسح أحزانه وتمنحه – دون قصد – ولادة أخرى من رحم حب لا مشروط، وابتسامة غير متكلفة ولا مصطنعة، وتزيل لاصق الجروح في إشارة رمزية إلى أن روح المرأة ووجودها في حياة الرجل كفيل بذلك، وتتجلى الفكرة في المشهد الأخير عندما تحتضن ليلى راضي مودعة إياه، وتاركة أثر ذلك الحنين في قلبه، ليحس بتلك السكتة القلبية التي تتصاعد عندما تبلغ ليلى حاجز الحدود، وينقلك المشهد مباشرة إلى غرفة المستشفى لترى راضي ممددا على السرير يفصله عن ليلى ستار/ حاجز.

كلنا ممثلون!

وعلى طريقة الفيلم المصري (يا عزيزي كلنا لصوص)، تأتي جملة راضي – قليل الكلام – في حواره مع رامي قائلا: "كل الناس بتعرف تمثّل"، ليعكس له رؤيته بأننا بتنا في زمن زيف وتضليل، وبات الانعزال هو الحل، والحرية المقيدة هي رديف الحرية الحرة التي يراها راضي أقل وطأة على النفس من عيشة خانقة بين بشر في غاب لا يرحم، لكن عفوية الرحلة ورفاقه فيها تلمس جوانب روحه المعتمة، وتضيئها، مثلما كان يحاول أن يفعل وحيدا في عتم الليل مستعينا بالمصباح الكهربائي في أول مشاهد الفيلم.

معا على طريق تحرير الأرض والإنسان

يقول راضي "فش حدا بتأخر عن إشي" في حوار مختصر ودقيق مع رامي أيضا، ويثير فضوله عندما تقع يد رامي على رواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني التي يعبر عنها راضي بأنها "الكتاب الذي يمثّله شخصيا"، وهي إشارة رمزية واضحة جدا لحالة راضي المشتت الذي لا يرسم له مكانا على الخريطة إلا بالقول أنه "من هُون" – في رده على سؤال رجل الأمن عن المكان الذي جاء منه – ليؤكد رؤية المخرج وكاتب العمل بأنه ابن الأرض، وأنه ليس في حاجة لرسم الحدود ليحدد البقعة التي جاء منها تحديدا، مثلما دأب الناس على سؤالك عن أصلك وفصلك في تعارفهم الأول عادة – لكن راضي لا يموت اختناقا في الخزان بل تأتي "المرأة" – في صورة ليلى – لتنتشله من ذلك الموت البطيء الذي كان يحاصره.

يؤكد المخرج في في توليفة أبطاله – راضي من فلسطين، ورامي من لبنان (الجنوب تحديدا)، وليلى من مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين، ورجل الأمن – بأن خط العودة إلى القدس لا بد أن يمر بهم جميعا، وأنهم مهما اختلفوا – كما حَكت ليلى عن مشاكل شباب المخيم ومشاجراتهم – لا بد أن يستيقظوا في اليوم التالي على مصالحة جماعية متناسين كل خلافاتهم، ليأتي الرمز الكلّي هنا في صورة الرحلة التي يقودها راضي الذي يرمز إلى فلسطين، ليقدم لنا المخرج رؤيته النهاية بأن فلسطين هي أصل الرحلة، وأننا إذا ابتعدنا عنها وعزلناها وأهملناها فلن نصل إلى بغيتنا.. قضيتنا.. الحرية وتحرير الأرض والإنسان.

إشارات فلمية بنكهة روائية

في ظل كون المخرج كاتب السيناريو، نلاحظ تلك النكهة الخاصة لبعض المشاهد التي جاءت في لقطات عابرة، لتوضح لنا حالة من التماهي والاستلاب مع النص الأكثر عمقا للفيلم، فنجد إشارة واضحة إلى عدم التدخل في حياة راضي، عندما يبادر إلى وضع حقيبة ليلى فوق السيارة – رغم أن مساحة السيارة داخليا كافية جدا لوضع تلك الحقيبة الصغيرة. نجد أيضا خروج ليلى من بيتها في مخيم اليرموك بشعر مفرود يتطاير مع النسيم مخالفا عن تجديلها شعرها لضفيرة واحدة في منتصف الرحلة، ثم لتعاود بعد ذلك رفعه كاملا في نهايتها في إشارة إلى تحولها من حالة إلى حالة. وأيضا نلحظ الإشارة المباشرة إلى تخلي راضي عن الرحلة وإنزاله للركاب ثلاث مرات ثم العودة لأخذهم بعد تردد لاستكمال المشوار معا في إشارة إلى الحروب التي مرت بها فلسطين بدءا بنكبة عام 48 ثم 67 ثم 73، والانتهاء بحالة التقسيم والحصار التي تعيشها فلسطين حاليا، وهي الحال التي يعيشها راضي أيضا.

دخول رجل الأمن في قلب الحدث، وتدخله المباشر مستلما دفة الحوار من (المرأة) تعبير صريح عن دور السلطة في حياة الناس، وقدرته على التحكم بـ"مسار" الرحلة، التي كانت عفوية وطبيعية، ثم تحولت إلى رحلة قسرية انتهت بأن تقدم ليلى إفادتها في مركز الشرطة، وتهديد رجل الأمن مباشرة لرامي – إن لم تبلغ ليلى عن حادثة الخطف ومحاولة الاغتصاب – بأنه: "راح يصير إشي مش منيح".

نلحظ أيضا ظهور سرير المستشفى الأبيض وحده في شارع جبلي يكاد يخلو من العابرين، وعثور راضي على سلسلة تنتهي بساعة فضية قالت ليلى إنها تشبه ساعة ورثتها أمها عن جدتها، وأنها معها في حقيبتها أعلى السيارة. يحتفظ راضي بالساعة سعيدا، وتعود الساعة للظهور في آخر مشهد في الفيلم وراضي ممدد على سريره في المستشفى بعد إعلان وفاة ليلى في حادث السيارة، تاركا للمشاهد ربط الأحداث ببعضها، واكتشاف أن تلك الساعة هي ساعة ليلى ذاتها، وأن السرير هو مشهد خاطف أشبه بحلم، وأن راضي هو الذي رسم سيناريو آخر لسير الأحداث وصلت فيه ليلى بأمان إلى حدود الشام دون أن تتعرض لأذى، ووصل فيه رامي إلى مبتغاه، وعاد فيه رجل الأمن إلى مركزه.

البحر والأب الذي لن يعود

يحتفظ الفيلم برمز البحر وصوته وهديره الذي يختلط بذاكرة راضي، وموسيقى متقنة تم تنفيذها في عدة دول من قبل عدة عازفين لتنقل المشاهد إلى عالم محلق بأجنحة الذاكرة ليستحضر كل مشاهد ذاكرته الخاصة عن المكان والزمان. البحر رمز العمق والحرية والخلود، يتجلى في مشهد ذلك الطفل الذي يدلك ظهر والده وهو ممد على سرير خيالي مستقر على شاطئ البحر، إنه مشهد أمعن راضي في تذكره عدة مرات وعلى مراحل متباعدة، ليرسم لنا الشوق والاحتياج والفقد، ويرجع لنا صورة اللاجئين العابرين للبحر في رحلات مرعبة مريرة، ورغم أن الفيلم أنتج وأخرج قبل كوارث الهجرة والنزوح التي يعاني منها اللاجئون السوريون وغرق العديد منهم في البحر إلا أنه يثبت حضوره فيلما يقرأ الواقع، ويتجدد معه.

أسامينا

اختيار المؤلف والمخرج لاسم راضي بطلا للفيلم، وليلى للبطلة، واسم المنعطف عنوانا للفيلم كلها لا تخلوا من إسقاطات أرادها دلالات واضحة على العزلة والاستسلام لراضي، وعلى الحلم الجميل والرغبة في الوصول إلى "ليلى"، و"رامي" الباحث عن فرصة للانطلاق والخروج، و"المنعطف" الذي لا بد أن يسلكه المرء في لحظة ما من حياته ليمضي قدما تجاه قضيته فيكونها أو لا يكونها، لذلك يبدو جليا أن لا حاجة أيضا لذكر اسم محدد لرجل الأمن لأن اسمه لا يعكسه بقدر ما تعكسه وظيفته ومكانته في المجتمع.

في انتظار رواية "المنعطف"

إنه ليس فيلم "أكشن" ولا فيلما دراميا ينتقل بك من حكاية إلى أخرى تصاعديا بسرد قصصي تقليدي، بل هو فيلم موجع يتعامل مع أحاسيس المشاهد ويغرس سهامه في الروح مباشرة بعيدا عن الحبكة التقليدية تاركا تلك الرسالة في الأعماق مع هدير الموج على شكل نوارس بيضاء ورؤية ضبابية – تشبه إلى حد كبير تصوير الكاميرا المهزوز المتعمد أحيانا أثناء الرحلة لإضفاء عدم الاستقرار والحركة القلقة والمشاهد التي جاءت من أعلى الجبل أحيانا، وأحيانا أخرى من تحت قدميّ راضي المتمدد مستسلما في سيارته – ليتساءل المشاهد عن حاله هو، وعن حال وطنه، وعن غربته الداخلية، وأي طريق يبحث عنه في الحياة، ومن هم رفقاؤه في الطريق؟!

فيلم "المنعطف" الذي عمل عليه المخرج ست سنوات ونصف ليخرج إلى النور ويعرض في مهرجان دبي السينمائي في دورته لعام 2015 هو أشبه برواية يمكن للمشاهد أن ينتظرها في نص مشبع برائحة أبطالها، وقابل للإضافة صفحات وصفحات، في ظل قضية وطن وغربة ولجوء، وأطماع وحروب وثورات لا يبدو الأفق المستقبلي متسعا لتبديد دخانها، ولملمة شظاياها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى