الأحد ٢٥ شباط (فبراير) ٢٠٢٤
بقلم آمنة بريري

النبع العجيب

فتحت سميّة باب بيتها وخرجت. كانت الساعة تقارب الرابعة عصرا والطقس بارد في ذلك اليوم الشتويّ الغائم. وكانت نفسها أيضا كالسماء غائمة وكئيبة.

تساءلت بمرارة:

ـ ترى ما مبلغ طاقة النفس على تحمّل الحزن والكآبة؟ وماذا يحصل إذا ما وقع تجاوز تلك الطاقة؟هل يقع الانفجار؟

كان هناك وحشة كبيرة تملأ نفسها. اليوم تسلّمت إنذارا من مدرسة ولدها الأصغر تنبؤها فيه بسوء سلوكه وإهماله لدروسه. وهي لم تعد قادرة على تقويم هذا الابن الذي يزداد مراسه صعوبة يوما بعد يوم. وزوجها العامل بالخارج لا يخسر عليها سوى كلمات المواساة والتشجيع. تقول له نحن نحتاج وجودك معنا، عائلتك لا يمكن أن تنصلح حالها في غيابك. فيعدها أنّه سيعود عندما يجمع ما يكفي لأن يعيشوا الحياة التي يحلم بها الجميع. لكن ماذا لو كان الثمن ضياع أحد الأبناء؟ وهل يمكنها وحدها أن تبقي أولادها على برّ الأمان إلى أن يحلّ ركب الزوج الغائب؟

المصيبة أنّ عائلتها لا تقيم في نفس المدينة. لقد تزوّجت رجلا من غير بلدتها. وهي غريبة في هذه البلدة لا قريب ولا حبيب.

في البداية لم تحسّ سوءا في الأمر ،لكن اليوم وبعد هجرته وحلول كلّ المسؤوليّات والمشاكل على كاهلها، فإنّها تشعر أنّها وحيدة في هذا الكون.

وسارت بخطوات سريعة وفي داخلها كلام لا يكاد يمرّ يوم دون أن تردّده: كم أنا نادمة، نادمة على أنّي تزوّجت من خارج بلدتي. آه لو عاد التاريخ إلى الوراء لكنت .......

ثمّ ترجع تصبّر نفسها بأنّ ذاك هو القدر والمكتوب .وما كُتب على الجبين لا بدّ أن تراه العين.

وتواصل السير دون وجهة محدّدة. هي فقط تريد أن تبتعد عن بيتها بعض الوقت علّ أعصابها ترتاح وتستعيد شيئا من هدوئها.

كانت البلدة مليئة بالحركيّة والنشاط في ذلك الوقت من النهار، والحوانيت والمغازات تحفل بالناس. تأمّلت واجهات الدكاكين بعين شاردة. في العادة كانت تروّح عن نفسها بالتفرّج على الأزياء و المفروشات المعروضة، لكن اليوم لا شيء يرفّه عنها.

سارت على غير هدى. الناس يحيطون بها من جانب، لكنّها تحسّ وحدة شديدة فكأنّها في صحراء خالية أو في كوكب بعيد.

أحسّت بضيق من أنفاسها، فكأنّها قد علقت في مضيق والطرق من حولها مسدودة كلّها. ولم تدر أين تتوجّه.

واصلت السير إلى غير وجهة، تاركة قدميها تقودانها إلى أيّ مكان. انعطفت إلى طريق قريب من محلّ الخيّاطة التي خاطت بعض أزيائها ،فلاحظت وجود محلّ جديد لبيع الأزياء الجاهزة. ربّما يكون قد فُتح منذ ما يقلّ عن الشهر ،فقبل ذلك بقليل كانت عند خيّاطتها تتسلّم ثوبا خاطته لها ،ولم تلاحظ وقتها وجود هذا المحلّ.

ففكّرت في الدخول إليه بغير هدف سوى التسرية عن نفسها.

كان محلاّ صغير الحجم بديكور بسيط. ولم تعرض فيه إلاّ بعض الأزياء القليلة. وكانت البائعة جالسة على كرسيّ في آخر المحلّ ترقبها في هدوء.كانت إمرأة في نحو الخمسين من العمر. مظهرها بسيط، ونظراتها لطيفة.

وأخذت سميّة تجول داخل المحلّ متفحّصة البضاعة المعروضة.

بعد لحظات ،نهضت البائعة من مكانها. واقتربت منها قائلة:

ـ هل أساعدك في اختيار شيء؟

فأجابت هي بهدوء:

ـ شكرا لك. أردت إلقاء نظرة فقط.

فقالت البائعة بلطف شديد:

ـ مرحبا بك. تفضّلي، فالمحلّ كلّه تحت أمرك.

واصلت تنقّلها في أرجاء المحلّ ، فتبعتها البائعة. وأخذت دون طلب منها تعطيها لمحة عن كلّ ثوب وتخبرها بثمنه.

ـ هذا قميص من الصوف، لنا فيه أربعة ألوان: الأسود والبني والبيج والأحمر. أغلب المقاسات موجودة، فهو سلعة جديدة لم نعرضها إلاّ منذ يومين. وهذا نوع أخر من القمصان، إنّه سلعة مستوردة. اُنظري ما أنعم نسيجه.

فيه لونان فقط، الأسود والبنّي. إنّه أنيق جدا .يمكنك إذا شئت أن تجرّبيه لتري ذلك. وهذه أثواب من القطن. إنّ تفصيلها رائع، فهي تخفي كل عيوب الجسم وتظهرك أنيقة جدّا. أظنّ هذا سيبدو رائعا عليك كثيرا، فلونه مناسب كثيرا لبشرتك.

كانت سميّة تشعر بالاستغراب، فلم تقابل سابقا بائعة تعرض كل البضاعة الموجودة في المغازة بهذا التفصيل الدقيق. ثم إنّها في العادة تضيق بمحاصرة البائع لها وتفضّل أن يتركها تتفحّص السلعة المعروضة على مهلها ودون تدخل منه.

لكن هذه البائعة لا يبدو عليها أنّها ستتركها وشأنها. هاهي تواصل عرض سلعتها بصوتها الهادئ.

ـ هذه معاطف من الكشمير الرفيع، سعرها مناسب وهي أنيقة جدّا. فيها لونان الأسود والبنّي، لكن سنحضر ألوانا أخرى في الأسبوع المقبل إن شاء الله .هنا سراويل من الجينز. إنّ تصميمها بسيط لكنّها تبدو رائعة عند ارتدائها وثمنها مناسب جدّا. وقد خصّصنا تخفيضا هامّا لمن يشتري اثنين منها.

أحسّت سميّة بشعور عجيب .لقد كان صوت البائعة هادئا ولطيفا، فأحسّت بما يشبه الخدر في رأسها. وطغى عليها شعور عارم بالهدوء فكأنّها تستمع إلى أغنية رقيقة تغنّيها أمّ لابنتها قبل النوم.

نظرت إلى البائعة كانت تواصل مهمّتها دون توقّف. وخمّنت سميّة أنّها جديدة في ميدان التجارة وأنّها لا تعرض عليها بضاعتها بهذا الشكل لترغّبها في الشراء لكن فقط لأنّها متحمّسة لهذا العمل الجديد.

كان مظهر تلك البائعة بسيطا، ووجهها محاط بحجاب أسود أضفى عليها احتشاما ووقارا. ولم يكن بينها وبين أمّها شبه، لكنّها أحسّت أنّها تذكّرها بها.

لم يكن بقي من سلعة المحلّ لم تعرضه عليها البائعة إلاّ الملابس المخصّصة للأطفال.وكانتا قد بلغتا المكان الذي عرضت فيه، فسألتها:

ـ هل تريدين التفرّج على ملابس الأطفال؟

فأجابت:

ـ لا بأس. ربّما أجد ما يناسب أطفالي.

نظرت إليها البائعة في ابتسام،ثمّ انطلقت في مهمّتها:

ـ هذه القمصان للذكور من سنّ ستّ سنوات إلى سنّ اثنتي عشرة سنة. وهناك أيضا سراويل من الجينز لنفس السنّ .وهنا فساتين للبنات. انظري ما أجمل ألوانها .هناك الأحمر والأبيض والورديّ. هل لديك بنيّة؟

كانت تبتسم وهي تطرح عليها هذا السؤال، ورأت سميّة في عينيها نظرة مودّة ارتاحت لها كثيرا، فأجابت مبتسمة:

ـ عندي ابنتان.

فعقّبت البائعة في ابتسامتها اللّطيفة:

ـ لا بدّ أنّهما جميلتان مثل أمّهما.

فابتسمت سميّة، ولم تجب .وسألتها البائعة:

ـ ما سنّهما ؟

ـ الكبرى في الثامنة، والثانية صغيرة. شهران وتبلغ الثامنة.

ـ ما شاء الله. أظنّك مستمتعة بتربيتهما،فتربية البنات ليست صعبة.

ارتسمت على وجهها ابتسامة حائرة، فقالت البائعة:

ـ لا تقولي غير ذلك. فأنت تبدين لي امرأة سعيدة ومرتاحة في حياتها.

لم تملك غير مواصلة الابتسام، ثمّ قالت:

ـ الحمد لله. في الحقيقة لم تتعبني تربية ابنتيّ، لكن لي ولدان أكبر منهما، وقد أرهقاني قليلا.

ـ أعرف تربية الأولاد. لقد ربّيت ثلاثة ذكور.ا لأمر شاقّ كثيرا ،لكن عندما يكبرون وتجدين أنّهم أولاد صالحون سيغمر الفرح قلبك وتنسين كلّ أتعابك.

ـ إنّ ما أخشاه أن لا ينشآ صالحين، فقد غُلبت في تربيتهما.

فقالت البائعة في لطف:

ـ دعي عنك هذه الوساوس. إذا كانت نيّتك صادقة فسوف تنجحين في مقصدك. تعاوني مع زوجك في إرشادهما إلى السبيل القويم، وسيوفّق الله جهودكما بإذنه تعالى.

فردّت بوجوم:

ـ تلك هي المصيبة. زوجي ليس معي ليعينني على

تربيتهما.

ووجدت نفسها دون أن تشعر تحدّث البائعة بأمرها كلّه. وكانت تلك المرأة تسمعها بهدوء واهتمام، أمّا هي فقد أحسّت بارتياح، فكأنّها تشكو حالها لأمّها أو أختها.

عندما أنهت حديثها قالت البائعة في نبرة حارّة:

ـ آه يا بنيّتي، من يظنّ أنّك تحملين هذه الهموم؟ عندما رأيتك تدخلين المحلّ ظننتك طالبة تتسلّى بالتفرّج على الثياب، والآن تبيّنت أنّك امرأة ناضجة تتولّى مسؤوليّة كبيرة.

شعرت ببعض المرح لهذا القول.وداخلها شيء من السرور. وقالت:

ـ صدّقيني أتمنّى لو أنّني ما زلت طالبة خالية من كلّ المشاغل والمسؤوليّات بدلا من هذه الهموم التي أحملها على رأسي وتكاد تفقدني عقلي.

فردّت البائعة بنبرة جدّية:

ـ كلاّ يا بنيّتي، لا تكوني جاحدة الله قد أنعم عليك بنعم كثيرة فلا تنكري فضله عليك. وإن كنت تواجهين بعض الصعوبات فتلك سنّة الحياة التي تبيّن معدن الإنسان.

ثمّ أضافت وهي ترمقها بنظرة عطوف:

ـ توكّلي على الخالق، وكوني شجاعة في تحمّل مسؤوليّاتك، ولن تري إلاّ خيرا بإذن الله.

أحسّت بمزيد من الارتياح،و زايلها ما كان يغشى قلبها من كدر وضيق .واستشعرت خفّة وانطلاقا.

عندما كانت تغادر ذاك المحلّ الصغير، خفق قلبها بامتنان كبير نحو تلك المخلوقة الطيّبة التي التقت بها هناك.و حدّثت نفسها أنّ أرواح بعض الناس تشبه نبعا عجيبا، تتجدّد الحياة عند الاغتراف من معينه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى