النبوغ الثقافي في وسط متخلف

أحيانا يسير النبوغ الثقافي عند أفراد في بلد ما سيرا يفوق سير التطور والنمو في حقول أخرى مثل الاقتصاد والتعليم والرعاية الصحية الخ في ذلك البلد....فمثلا دولة كمصر بزغ فيها نجم العقاد و طه حسين و أعلام أخرى في الأدب والثقافة وهي دولة نامية غير متطورة، مما يعطي الدليل الأكيد على أن النبوغ الثقافي ليست له علاقة آلية تلقائية بالتطور أو التقدم الإجتماعي في المجتمع الذي يبرز فيه سواء كان التطور إياه ماديا أو غير مادي، و الأمر لا يقتصر على الأمة العربية وحدها بهذا الخصوص، فهناك دول أخرى برز فيها نوابغ وهي دول فقيرة رازحة تحت وطأة التخلف، فطاغور الشاعر الكبير مثلا ظهر في الهند في فترة كانت الهند فيها عبارة عن مجمتع يحيط به التخلف من كل جهة ويعبث به، كما ظهر وول سوينكا في المسرح وشينا أشيبي في الرواية وهما من نيجيريا، ونغوغي وهو روائي من كينيا و القائمة تجل عن الحصر لأسماء نوابغ ثقافية عاشت أو تعيش في مجتمعات تعاني من آفة الفقر وتبعات التخلف، وعانت في وقت من الأوقات من ويلات الاستعمار.

إن النبوغ الثقافي قد ينمو و يتطور بمعزل عن الشروط الاجتماعية العامة التي ربما تكون شروطا قاهرة وقاسية لا تساعد الفرد على تثقيف نفسه وصقل موهبته ليصير في المستقبل نابغة، والأمثلة على هذا الواقع كثيرة ومعروفة لدرجة أنها لا تحتاج منا إلى ضرب الأمثال عنها.

ولا بأس أن ألفت الانتباه قائلا بأن صاحب النبوغ الثقافي أو النبوغ بشكل عام ليس من الضروري أن يكون صاحب شهرة أو صيت أو يكون في حاجة لهما، لأنه في المقام الأول هو شخص يعيش في وحدته بالأساس ،ولربما يموت فيها، ولذا ينبغي له أن يحصن نفسه.

ويحررها من كل وهم يساوره في ما يخصه في مسألة العلاقات الاجتماعية، وتبعا لذلك فلا يضيره أن تم الاعتراف به وبنبوغه أم لم يتم، إذ يكفيه أنه يعرف قدر نفسه ويدرك مدى نبوغه شريطة أن لا يكون ذلك نابعا منه عن تنطع أو ادعاء زائف.

لذا أهيب بكل شخص يلمس في نفسه نبوغا ما أن لا ينتظر الاعتراف به من طرف وسط متخلف، إذ أن مثل هذا الوسط بطبيعته السقيمة وغير السوية لا يعترف بالنبغاء ولا ينزلهم المنزلة التي تليق بقدرهم.