الجمعة ٢٠ تموز (يوليو) ٢٠١٢
بقلم نازك ضمرة

النضج والحرية

هل نعرف النضج ونحدده، أو نبدأ بتعريف الحرية وحدودها؟

الحرية كما يفهمها الناس عادة، وحسب المفهوم القانوني، إنك انت حر لفعل أي شيء او أي قول لا يضر الآخرين، ولا يسبب ضيقاً للرأي العام، فبانتحارك مثلاً لا تضر إلا نفسك من ناحية سطحية، لكن المجتمع والدين والرأي العام والقوانين تحرم الانتحار وتحاول الحيلولة دون وقوعه، والحرية التي توليها القوانين والأنظمة والأديان والأخلاق الأهمية هي التي تظهر آثارها للمجتمع وللناس خيراً او شراً، أي إنها الحرية المكشوفة، لكن الحرية الحقيقية أوسع من هذا بكثير، وأعتقد أن حرية الآنسان في أن يفعل أشياء كثيرة دون أن يكشفه أحد هي أضعاف حجم الحرية المقننة والمكشوفة. ومعظم الناس يدرك معنى قولي، فالإنسان مجموعة من الغرائز والصفات والقدرات والمواهب والانحرافات والمتضادات، ولا يتصور إنسان أو مسئول عن النظام أن يقعد للناس متفرغاً يراجع تصرفاتهم السرية والمخفية، ولهذا نتكلم عن الضمير الحي، والأديان كلها تعمل على توعية الرادع الداخلي الضابط لسلوك الفرد، وتلك هي المهمة الأساسية في الأديان، ولزيادة التوضيح حول الحرية غير المكشوفة، كم من امرأة تذوقت الحب والجنس خفية قبل الزواج او بعده؟ وكم من رجل اختلف إلى امرأة ولم يتم اكتشاف صنيعه؟ وكم من مرة سرق إنسان ولم يكشفه أحد؟ وكم من مرة صادق رجل رجلاً آخر لعلاقات غير طبيعية، وبقي الأمر خاصاً بينهما، وبالمثل بين امرأتين، وكم من مرة مارس الشاب او الشابة العادة السرية دون أن يلمس احد او يعرف انه باشرها؟ وكم من قتيل ضاع دمه هدراً دون أن يكتشف احد قاتله؟ وكم من طفل يظن انه ابن زوج امه وهو غير ذلك؟ وكم امرأة حملت وتظن أن حملها كان من زوجها؟ وكم من مرة شاهد رجل او امرأة فيلماً جنسياً، ولم يظهر مثل هذا السلوك لأحد ما؟ وكم من وعد او كذبة اساءت أو مرت ولم يكتشفها أنسان او قانون او مساءلة؟ هذه الكمات والاحتمالات هي مجال حرية الفرد التي لا يتم اكتشافها، والقانون والأنظمة والتراث لا تكشفها، لكن الأديان تحاول تربية أتباعها لضبط مثل تلك السلوكيات المتحررة تعبيراً عن رغبات الإنسان وحاجته، وذلك عن طريق المحرم والممنوع والمرغوب والمسكوت عنه.

هذه الأسئلة هي نماذج بسيطة ومختصرة وأمثلة على ما نتمكن فعله بحرية دون أن نضر أنفسنا، ونعد كل ذلك حرية نتمتع بها ويختلف عمق الرضا والقناعة والتشفي من فرد إلى فرد، وقد نضرّ او لا نضرّ احداً، لكن سلوكياتنا تبقى غير مكشوفة، وليس للنظام او القانون سلطان عليها، فما الذي يجنبنا الوقوع في المساءلة والمحاكمة والملاحقة؟ إنه سلوك نابع إما عن نضج أو نتيجة إحكام في الدهاء والتمثيل والإخفاء والتحولات. فالإنسان الناضج يحافظ على كرامته واحترام نفسه، ولهذا يحرص على عدم الإساءة للغير او لنفسه بكل وسيلة ممكنة، وإن اضطر للتمرد السري، فسيحاول أن يتقن فعلته، بحيث لا تضرّ أحداً ولا حتى تضره هو نفسه، حتى لا يقع في محظورات الأسئلة والتحقيقات من مسئولي النظام او من الأسرة او من يحيطون به من الأهل والأقارب.

لكن السؤال الذي يبقى بلا إجابة متى يتم النضج؟ وكيف تكون صفات الناضج؟ هل العمر هو العنصر الأهم في النضج الذي يحفظ الإنسان من الوقوع في شرك الانكشاف والفضيحة اوالمحاكمة؟ أم هي مؤهلات خاصة يتحلى به الفرد بحكم الوراثة او الدربة او الثقافة او الشجاعة او الجبن الذي يولد الحرص ويجعله يتخذ كل إمكانيات الاحتياط حتى لا ينكشف سلوكه المخالف للمألوف. ولا يتوقف النضج على التملص من الملاحقة القانونية بل إن الحرية المخفية التي نتحدث عنها هي الحرية الفردية والتي لا تسبب ضرراً واضحاً ولا تنكشف. لا شك أن العمر هو عامل مهم، ولكنه يبقى عنصراً بسيطاً غير حاسم في التأكد من النضج الذي يجنب الإنسان الوقوع في الخطأ او الخطيئة او الوقوع تحت المساءلة، فالنضج في جو الحرية هو الوعي الشخصي المتراكم مع الزمن او بالمعرفة والكامن لدى الإنسان، بحيث يمكنه التحرر من كل القيود المفروضة على سلوكياته، بصفة فردية، في أوقات معينة وظروف خاصة به، وتختلف تلك الصفات والمواهب من فرد إلى فرد، ويختلف الأسلوب الذكوري نوعا ما عن اسلوب الأنثي في تجنب الوقوع في شرك المساءلة واللوم والتقريع والنفي والهجر والمماحكة والاتهام والاحتقار، وهذه المظاهر هي التي يخشاها الإنسان حين يمارس نشاطات خفية بحرية محاولاً أن لا تضره ولا تضر غيره، لكن تلك التصرفات ممجوجة او محرمة او مضرة للمجتمع وأخلاقياته حسب المعايير المتوارثة في البلد والقبيلة والعائلة والقرية والشعب والقوانين.
فالنضج إذن وبناء على كل ما مر هو مؤهلات كامنة واعية متحفزة دائماً للحفاظ على حياة الإنسان وراحته حين يتمكن من ممارسات غير مقبولة ادبياً وتراثياً ودينيا واجتماعيا وقانونياً، كالزنا واللواط والسرقة والكذب والتعري والغش والإيقاع بالغير، ويصل الأمر إلى حد القتل العمد بطريقة متقنة لا يتم اكتشافها، فماهي المؤهلات التي تجعل الشخص قادراً على إخفاء فعلته غير عنصر النضج العمري؟ انها نسبة من الذكاء ونسبة من التدرب ونسبة من موهبة ونسبة من ممارسات سابقة بشكل مبسط اثناء الطفولة والمراهقة وبالتالي بعد سن النضج. فكلما مارس الإنسان تلك التصرفات وأفلح في إخفاء فعلته، سيدفعه ذلك للمزيد من التطرف والتصرف لإشباع نفسه او نهمه او غروره، ويكتسب خبرة إضافية ومرونة وقدرة على تكرار ما أراد. ومع هذا ما زال للأنسان حرية التمتع بأفكاره وتصرفاته وبجسمه وحاضره بحيث يعطيه ذلك المزيد من الرضا والقناعة بأنه يحيا حسب هواه، وقد يترك ذلك شيئاً من إحساس بسعادة في نفسه، او عكس ذلك حسب شعور بعض الناس.

وهنا يطفر سؤال: من هو الفاعل ومن هو المفعول به الحقيقي في أي حدث مخفي؟ أكان ذلك صدفة ام عشوائياً؟ أخطأ كان ام بتدبير من العقل؟ هل كان ذلك التحرر في الفعل المكتوم قدراً إلهياً ام بتخطيط نفذته حواس إنسان؟ هل قدرة الغريزة تفوق قدرة العقل على الضبط الواعي؟ هل أراد الله ذلك التصرف ليظهر لنا أن ضعف الإنسان هي في قوة إرادته أو قدراته المختزنة فيه؟ ولكل هذه الأسئلة تكون مهمة الطبيب النفساني صعبة في اكتشاف التعقيدات في شخصية الإنسان، وبالتالي صعوبة الحكم عليه او علاجه، لأن المنطق والعلم يقول، إن عرفنا الداء الحقيقي، فمن السهل وصف الدواء، إن استطعنا إيجاده او خلقه، او قد نسهل مهمة القاضي والمحقق في تطبيق القوانين الرادعة، لإبقاء المجتمع هادئاً، وإلا فكثير من المحكومين يكونون مظلومين لعدم قدرة طبيب النفس او المحقق او القاضي معرفة الفاعل الحقيقي للخطأ او الاعتداء او الإضرار المدعى للغير، ولهذا سنبقى نجهل أي الفريقين هو الفاعل أوالمفعول به، وأيهما كان مستمتعاً أكثر حين وقوع الفعل الحر؟ وهل كان التلذذ أثناء التنفيذ معادلاً موضوعياً لتبعية الوقوع في الخطأ غير المقبول مجتمعياً لكنه مطلب فردي خاص وربما بإصرار؟ وايهما كان المحرض على الحدث الذي أوقع واحداً من الطرفين تحت طائلة المسئولية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى