الاثنين ١٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٤
بقلم سعيد أراق

امرأة مختلفة...أنا هديتك من السماء

بدا له الطريق ممتعا وطويلا وهو يسلكه على إيقاع سيمفونية "الخريف" لشوبان. بعض قطرات المطر تغازل الزجاج الأمامي للسيارة، تصطدم به محدثة صوت ارتطام خافت. الطريق طويل والليل مَهِيب، مُجَلَّلٌ بسحرِ أشباحٍ لا تُرَى لكنها كامنة هناك كُمُونَ موتٍ وحياة، غيابٍ وحضور، احتمالٍ ويقين، نورٍ وظلام، إشراقٍ وأفول. العتمة حجاب، والحجاب دُجْنَةُ العين ومأزق الروح. حيثما سادت العتمة يتعطل البصر وتَلْتَبِسُ البصيرة. أما الطريق فهو السبيل الذي تجد نفسك دائما فيه: إما قاطعا إياه، أو سائرا فيه، أو منفصلا عنه أو ملتحما به، أو معرضا عنه، أو ممتزجا به امتزاجَ تماهٍ حتى تصير إياه، ويصير أنتَ فيك، وتصير أنتَ فيه، فتصبح حينئذ أنت الطريق، وحينها تعشقك كل الطرق، وتستهويك لذة الارتحال والأسفار.

السفر مَمْشَى الكائن باتجاه نفسه؛ السفر مسار الإنسان نحو حقيقته الأولى، نحو أَنَاهُ المُعَتَّقَةُ بِنَسْغِ السنين. السفر الحقيقي لا ينشأ في الزمان والمكان بل ينشأ في دهاليز الروح، في تضاريس الوجدان، في مَهَامِهِ الكائن الخفي الذي يسكن دواخل الإنسان. من لم تلامس روحَهُ رعشةُ السفر لم يَذُقْ أبدا لذة الارتحال. من لم يَسِرْ بعيدا عن نفسه باتجاه نفسه لم يدرك حقيقة السير ولا كُنْهَ الْمَسيِر. من لم يحسن الحلول في ذاته لن يجد نفسه في أيِّ ذاتٍ سواه. من يخشى الظلام لا تنبجس في حياته وإدراكه كُوَّةُ نُور. الكون مظلم سَادِرٌ في عتمة وجودية ثقيلة وغامضة، وما فيه من نور ليس سوى نقط مضيئة بعيدة ومتباعدة في شكل أقمار وشموس ونجوم. من أفلح في اكتشاف نقط الضوء والنور في حياته ودواخله هانت عليه كل الحروب ضد قوى الغدر والموت والظلام. كل ما تراه يراك، كل ما تنعكس فيه صورتك ينعكس فيكَ أَثَرُهْ، كل ما تُحَدِّقُ فيه يُحَدِّقُ فيك، كل ما تقيم فيه يسكنك أو يستضيفك أو يَتَفَيَّأُ موقعَه في ذاكرتك حتى إن تنكَّرتَ أو نسيت. العالم امتداد ممتلىء بكثافته الوجودية التي أَبَدًا لا تموت ولا تشيخ، والإنسان ممتلىء بِخَوَائِهِ الذي يَحِنُّ أَبَدِيًا لامتلاءٍ مستحيل. من لا يستطيع أن يشعر بالامتلاء يظل دوما عرضة للعيش في شكل فقاعة بدون روح.

تتدافع هذه التأملات في ذهنه على إيقاع سيمفونية شوبان التي تنبعث خافتة من مُسَجِّلِ السيارة. قطرات المطر ممعنة في ترتيل إيقاعها الرَّتِيب وهي تصطدم بزجاج السيارة الأمامي. يتنعم بالاستماع إلى سيمفونية شوبان وموسيقى المطر. تأملاته الحالمة تتدفق في شكل أفكار مُرْسَلَةٍ على عَوَاهِنِهَا، بدون ارتباط ببعضها، لكنها منتظمة وفق نسق خفي ودفين. في رحلاته الطويلة ترافقه دوما سيمفونية "الخريف" لشوبان، تلتحم به ويلتحم بترانيمها. لا يمل أبدا من تكرار الاستماع إليها. لا يهمه أن تكون موسيقى خريفية في نظر ووجدان شوبان، بل ما يهمه هو ما يتدفق منها باتجاه روحه، ما تُحْدِثُهُ فيه من حالةِ تأملٍ وَاسْتِبْطَانْ. يحب الموسيقى الهادئة التي لا وجود فيها للكلمات أو أصوات البشر. الوجوهُ في اللوحات والأصواتُ في الموسيقى تفسد لذة الفن، تحرمه من تَعَالِيهْ، تَرُدُّهُ إلى سفالة وقبح الكائن، تثقله بما ليس من جنسه، بما ليس إياه.

لا يتقاسم حبَّه لموسيقى شوبان مع أحد. باستثناء ليلى لا أحد يعرف مدى عشقه لسيمفونية "الخريف" تحديدا، ولا أحد يعلم لماذا يعشق هذه القطعة الموسيقية أكثر مما يعشق أي موسيقى أخرى. المرأة الوحيدة التي تعلم عنه ما لا يعلمه عن نفسه هي ليلى. في علاقاته يقيس أحيانا مدى انسجامه مع الأشخاص في حياته بتفضيلاتهم الموسيقية، يستغرب كيف يحب بعض الأشخاص صوتَ مُغَنٍّ أو مغنية معينين. نفورُه من الأشخاص يبدأ أحيانا من تفضيلاتهم الموسيقية، وقربُه من بعض الأشخاص يبدأ أيضا من هناك، خاصة في علاقاته مع النساء. التفضيلات الموسيقية تكشف ما لا تكشفه الكلمات والحركات؛ كل ما يصدر عن الناس مَاكِرٌ وَمَشْبُوهْ، أما التفضيلات الموسقية فلا تكذب أبدا لأنها تخبره بما يخفيه القناع.
لا يطمئن لأي امرأة في أي علاقة إلا إذا شعر برغبة شديدة في دعوتها إلى الاستماع معه لسيمفونية شوبان بأعين مغمضة وأَيْدٍ متعانقة، وممارسة حركات الطايشي معا في مكان تَحُفُّ به الأشجار. إن لم يشعر بتلك الرغبة إزاء امرأة يعلم أن صوتا غامضا فيه يدعوه للإبقاء على مسافة كافية عنها تجنبه الخيبة الناتجة عن الثقة العمياء. قد يبدو هذا الأمر جنونيا، لكنه يعتبر أن مقياس الاطمئنان في أي علاقة مع أي امرأة هو أن ترغب نفسه بشدة في أن يتقاسم معها ما يحب. إن لم يفعل ذلك فهو لا يحب تلك المرأة حبا حقيقيا. هذا ما يقوله له حدسه، وحدسه لا يخيب أبدا...إنه سلاحه الخفي، نوره النابع من خبرة الاستبطان...

الطريق يتمادى متعرجا عبر منعطفات جبال الأطلس. السيارات التي تتقاطع مع سيارته في الطريق قليلة جدا، والأضواء التي تتراءى له من بعيد عبر أشجار الأرز تبدو مجرد الْتِمَاعَاتٍ نائية وباهتة. عادة، لا يحب القيادة ليلا، يفضل دوما تأمل الامتدادات الطبيعية على جانبي الطريق في وَضَحِ النهار. لكن حين يهزه الشوق إلى ليلى لا يوقفه الليل ولا تَحُولُ بينه وبينها المسافات. الشوق حالة انفعالية منفلتة تماما من سلطة العقل. الشوق الذي يتحول إلى لهفة تُرْعِشُ الروحَ وَتَخْتَلِجُ هَدِيرًا في الوجدان شعورٌ عجيب، حالةٌ استثنائية، فَوْرَةُ نَبْضٍ يُحَرِّكُ فيهِ جُمُودَ الْمَكَامِنْ.

الحياة تجربة وجودية جنونية، جدلية الحياة والموت، المسار والمصير، النور والظلام، الكائن والممكن، الجنة والنار، الإنسان والشيطان، كل هذه الأمور أنظمةُ تَقْيِيدٍ للإنسان، قواعدُ وجوديةٌ تُنْهِكُ الروح، تُحْدِثُ فيها الشَّرْخ، لكنها لا تَحُدُّ أبدا من جُمُوحِ الإنسان. الجنون ليس أن تفقد عقلك بل أن ترقى في عيش حياتك إلى أقصى حالات الإحساس بالأشياء، أن تشعر بالأشياء والمشاعر والأفكار كما لا يشعر بها أحد غيرك، أن تجرب تلك الحالة الاستثنائية القصوى التي تُرْعِشُ روحَك حين يُغَالِبُكَ النوم أو تَتَمَلَّكُكَ سعادةٌ غامِرة أو حين تَلْتَمِعُ في ذهنك فكرة عجيبة أو حين تحب أو حين تشتاق أو حين تستمتع بلحظات التَّنَعُّمِ الروحي الذي لا يستوفي مثله إنسان.

يعشق تلك الحالات الاستثنائية العجيبة التي تتذوقها روحه حين تصل به درجة الشعور والانفعال إلى أقصى حالاتها التي لم يصل إليها أبدا من قبل؛ الوصول إلى اللحظات الاستثنائية في قوة وكثافة وعمق الإحساس يمنحه الشعور بأنه قد اكْتَنَهَ الحياةَ وَأَوْغَلَ إلى عمق ما يَعْتَمِلُ فيها من مُمْكِنَاتِ التجربة الوجودية العجيبة. يكره الحالات الوجودية والانفعالية العادية والسطحية والرتيبة. يكره لعبة الوقوف عند سطح الأشياء، يكره تمثيل مشاعر الإعجاب أو الكره أو الاحتقار أو اللهفة أو السعادة أو النسيان؛ حينما ينتابه الإعجاب يعيش الإعجاب بعمق واندفاع. وحين يكره يكره بشراسة وعنفوان. وحين يحتقر شخصا يصل إلى أقوى وأعتى مشاعر الاحتقار. وحين تجتاحه اللهفة يفقد عقله واتزانه، يُجَنّ. وحين يقرر النسيان يفقد الذاكرة تماما. وحين يحب يمنح كل ما في جعبة قلبه من عشقٍ وَوَلَه. وحين يغادر لا شيء يرجعه مهما كانت نوازل الزمان. لا يعرف كيف يكون محايدا في ما يعيشه أو يشعر به أو يؤمن به. إنه متطرف في كل شيء، حتى في نظرته إلى الأشياء البسيطة في العالم والناس.

ليلى ليست ككل النساء اللواتي عرفهن أو تَوَهَّمَ معرفتهن. ليلى حالة خاصة، امرأة أربعينية ممتلئة بحب الحياة، بسيطة إلى أقصى حدود البساطة رغم ثقافتها الفرنسية. هو عادة لا يطارد النساء، ويَحْذَرُ منهن أشد الحذر، لا يثق فيهن أبدا. وحتى إن تحدث معهن فغالبا ما يكون حديثه مجردا من نية التقرب منهن أو الدخول معهن في علاقة. يكره أن تستعبده غريزته أو عاطفته فَتَشُدَّانِهِ إلى أي امرأة. وحتى إن حدث ذلك، يحتفظ دائما بقدرته على النَّأْيِ بنفسه بعيدا كأن لا غريزة له ولا قلب ولا عاطفة ولا انتماء. وإذا حدث وتوطدت علاقته بامرأة معينة لا تتعدد لقاءاته بها إلا إن كان قلبه قد فتح أبوابه لها، لكنه لا يجد نفسه أبدا في اللقاءات السطحية التي لا عمق فيها ولا جنون ولا فورة انفعال. ليس باستطاعة أي امرأة أن تؤثر فيه أو تنال شيئا منه إلا إن كان لها موقع في قلبه، وأشد ما يكره هو أن تحاول امرأة أن تتلاعب بعواطفه أو تثير غريزته أو غيرته، حينها يكون قرار الرحيل الأبدي عنها قد أخذ مكانه في عقله وقلبه، ولا سبيل للتراجع عنه مهما حصل. يكره السفالة الأنثوية، يكره المرأة التي تحول جسدها إلى أداة سمسرة غريزية وتحول عواطف الرجل إلى أداة تلاعب واستنزاف. قد يساير هذه المرأة لمعرفة المدى الذي قد تصل إليه أو الحد الذي تتوقف عنده، لكنها مسايرة فضول واستكشاف، أما قرار التخلي عنها فيكون قد أخذ موقعه في رأسه ولا إمكانية للتراجع عنه. يؤمن في داخله أن الرجل والمرأة عالمين مختلفين ومتناقضين ومتباعدين جوهريا في الطبيعة والتكوين والعقل والوجدان، وأن الطبيعي في العلاقة بينهما هو سوء الفهم والتلاعب والصدام واستحالة الانسجام وحتمية الفراق. يؤمن أن حصول الانسجام بين المرأة والرجل قد يحصل أحيانا على سبيل الاستثناء، لكنه لا يحصل إلا بوصفه حالة فريدة غير قابلة لأن تكون قاعدة في كل العلاقات بين الرجال والنساء. ولذلك نادرا ما يشغل نفسه حقا بالبحث عن علاقة طويلة الأمد مع أي امرأة، وحالما يشعر أن العلاقة لا مستقبل لها يغادر، يؤوب إلى نفسه، يعيش حياته بالطريقة التي يحبها، يغير المكان أو المدينة، يشرع في الانشغال بتعلم لغة جديدة أو مهارة جديدة أو يشتري حزمة من الكتب ويغرق نفسه في قراءتها تعويضا عن الزمن الذي أهدره في علاقة سخيفة، ثم يجتاز الجسور بدون ندم وبدون تحسر وبدون كره أو عتاب. قد يتوقف أحيانا ليفهم العلاقة التي جمعته بامرأة معينة، قد يتلكأ قليلا قبل المغادرة النهائية والوداع الأخير ليفهم بعض الأمور، يحلل كل شيء، يربط الأمور ببعضها، يستنتج الخلاصات، يدمجها في تصوره الشخصي للطبيعة الإنسانية، يندهش أو يتعجب أو يحتار أو يتعلم، لكنه لا يتوقف أبدا كثيرا هناك، يغادر، يَنْأَى، يُوغِلُ في مداورة الليالي والأيام. أمامه دائما أمور كثيرة تنتظره وينتظرها. الحياة محطات...

يحادث نفسه بصوت داخلي: قيمة العلاقات الإنسانية عادة ليست في ذاتها، بل في ما يمكن أن توفره لك من فهم عميق لنفسك وللناس الذين تتعامل معهم. وقيمتك الحقيقية ليس أن تكره أو أن تحقد أو تظل مشدودا إلى شيء لا يلائم طبيعتك، بل قيمتك هي أن تمضي في دروب الحياة بقلب عَتِيدٍ لا تثقله الأحقاد.

يتوقف في محطة البنزين. يطلب فنجان قهوة دافئة، يخرج مذكرته التي لا تفارقه، ويكتب: الليل في الطرق الجبلية دائما موحش وغامض، مُثْقَلٌ بالسواد كأنه كائنٌ مُتَلَفِّعٌ بثوبِ الْحِدَادْ. لكل إنسانٍ لَيْلُهُ، أما أنا فلا يستهويني إلا النور والضياء. الطريق إلى ليلى قصير مهما طال، والقرب متاح دوما مهما طال البعاد. القهوة مجرد ماء بنكهة فيها مرارة، لكن الناس جعلوا منها ضربا من المعجزات. حقا، ما أسخف البشر وما أروع ليلى!..أشد ما يستهويني في الناس ليس المال ولا الجمال ولا أي شيء مما يعظمه أو يحتقره الناس، بل ما يستهويني هو الطبيعة الإنسانية نفسها، أعشق التعرف على ألغازها وأسراراها وحكمتها وحماقتها وسفالتها وتعاليها وأقنعتها ومكرها وخبثها وطيبتها وسذاجتها، لا أرى الناس أبدا كما هم بل أراهم كما تتجلى فيهم الطبيعة الإنسانية، السر الأفخم، اللغز المحير، المدى المنفتح على كل المستحيلات والممكنات. تفتنني تلك الحالة الاستثنائية القصوى من الدهشة التي تنتابني حين أرى في الناس أشكال التجلي العقلاني وغير العقلاني للطبيعة الإنسانية وبؤسها وروعتها، وإيمانها وجحودها، وحكمتها وحماقتها...تلك الدهشة تستهويني، تُدْخِلُنِي في حالة عميقة وحماسية من التأمل والتحليل والتفكيك والتأويل. أستغرب كيف تصدر عن بعض الناس أمور لم تكن تتوقعها أو أمور تَوَقَّعْتَها منهم لكنها حصلت بطريقة تبدو لهم عادية وتبدو لك ممعنة في الغرابة. تدهشني العادات التي يستمدها الناس من ثقافتهم وتربيتهم، ويعيشون بها، ويتصرفون وفق منطقها، وأنا أشاهد وألاحظ باندهاش لا حدود له. حقا أحب هذا النوع من الاندهاش العارم الذي لا يوصف أمام غرابة الدنيا وجهالة الناس، لكن الاحتفاظ بالاندهاش في داخلي دون أن أظهره يحتاج مني قوة أسطورية تُجْهِدُنِي وتأخذ الكثير من طاقتي. أنا لا أربط الاندهاش بالفلسفة بل أربطه بفن الحياة، بطاقة الذهول الذي يُبْقِي الروح مشدودة لشيء أكثر عمقا من سطحية الواقع وسخافة الرؤية الأفقية الضَّحْلَةِ والسَّقيمة ذات الصلة بالعادة والاعتياد. الطريق إلى ليلى مرصوف دائما بالتأملات والأفكار، أعشق هذه المرأة، تزودني بما أحب، تزودني بالإلهام والأفكار، تبذر في دواخلي الدهشة فأشعر أنني لا أعيش الحياة بل أحياها، أكتشفُ سِرَّهَا اللاَّبِدَ في مَخَابِئِهَا التي لا تُرَى، في عمقها الخَبِيء، في سِرِّهَا الأروع والأفخم.

أعاد قراءة ما كتب. أرسل نظراته بعيدا، حاول اختراق ظلام الليل الذي يغطي الجانب المقابل من الطريق، لكن أضواء محطة البنزين الباهتة لم توفر له إمكانيةَ تَفَحُّصِ هَامَاتِ الأشجار والأشياء التي يحجبها الليل. رن الهاتف. الساعة التاسعة ليلا. صوت ليلى يتدفق من الهاتف. تسأله متى يصل. ما زال أمامه ساعة أو أكثر قليلا. تمنت له الوصول بخير، لكنه شعر من نبرة صوتها أنها غاضبة قليلا حين علمت أنه توقف ليشرب قهوة في المقهى بدل أن يسارع بالوصول إليها.

النساء يغضبن بسبب وبدون سبب، والرجال أيضا أحيانا. الناس غاضبون من أنفسهم ومن الآخرين ومن الحياة ومن الدنيا ومن كل شيء، لكنهم يُفرغون الغضب في بعضهم البعض، ولا يعلمون أن غضبهم نابع جوهريا من مَكْرِ الحياة وتراجيديا الوجود الإنساني. الغضب حالة مُزْرِيَةٌ من ردود الأفعال النابعة من غربة روحية. كلنا مغتربون روحيا، كلنا جَسَدِيُونْ: نعيش بالجسد ومن أجل الجسد، ونتصور أن الموت نفسه نهاية لأنه فناء للجسد حين يتحول إلى جثة، أما الروح فلا نعرف عنها شيئا، ولا نعيش بها أو من أجلها. كل غرائزنا الدنيوية جسدية، تلك حقيقتنا وسجننا الأبدي أيضا. ما من شيء تقيم فيه أو ترتبط به إلا وهو سجن لك وزنزانة، ما من فكرة تتمكن منك إلا أضحت لك قيدا وصرتَ لها أداة وعبدا، العقل نفسه عِقَال، طاقةُ تَحَكُّمٍ وأداةُ استعبَادٍ مستنير. لا تتحرر من شيء إلا لتقع في قيد غيره، لا تتخفف من شيء إلا لينوء كاهلك بثقلٍ سواه. ما من نفق تخرج منه إلا لتدخل في نفق مغاير أو شبيه، ما من سجن وجودي تنعتق منه إلا يستقبلك سجن وجودي بترتيبٍ ظاهرُه جديد وحقيقتُه أَزَلٌ يَتَرَصَّدُ الناس منذ عهود. لذلك حينما يسمع الناسَ يتحدثون عن الحرية يشفق عليهم، لكنه يفهم حاجتهم جميعا للعيش في الأوهام.

تتدافع كل هذه التأملات في ذهنه، تتدفق مثل تيارٍ سَيَّالْ، تترابط فيما بينها أحيانا، وتتحول إلى نوع من الأفكار الفوضية المتناثرة أحيانا أخرى. محطة البنزين الصغيرة المترامية على الطريق الجبلي موحشة وكئيبة، ورغم ذلك يبدو منظرها مُجَلَّلًا بجمالية أَخَّاذَةٍ آسِرَةٍ وغامضة. يعاود القيادة ليصل إلى مدينة "عين سلطان" حيث تسكن ليلى. يستعيد ذكرى أول لقاء حدث بينهما. كان يقرأ كتاب "الموت" للفيلسوف الفرنسي فلاديمير جانكليفيتش وهو متكئ على جذع شجرة بجانب البحيرة الصغيرة التي توجد في عين سلطان. كانت تلك المرة الأولى التي يأتي فيها إلى هذا المكان الذي يؤمه الزوار من المدن القريبة. مرت ليلى بمحاذاته، تطلعت بجرأة كريهة إلى الكتاب الذي في يديه وقالت له بالفرنسية: هل تقرأ كتاب جانكليفيتش؟ إذن أنت فعلا شديد الصبر والمثابرة.

نظر إليها باندهاش واستغراب وقال لها: لماذا؟

أجابت: كتاب "الموت" لـ: جانكليفيتش يتضمن الكثير من التفاصيل والأفكار التي تتطلب تفاعلا قرائيا من نوع خاص..إنه كتاب طويل جدا، لكنني أرى أن الحديث عن الموت لا يتطلب كتابا بكل هذا الطول...الموت مجرد حادثة مأساوية بالتأكيد، لكنها أيضا مُحَرِّرَة...إنه مجرد نهاية ولا يحتاج لفلسفة مُتَعَالِمَةٍ تستغرق صفحات كثيرة جدا في كتاب...

شعر فورا بانجذاب شديد إلى هذه المرأة المثقفة التي تتحدث الفرنسية بطلاقة، وتعرف جانكليفيتش، وتتحدث عن كتاب لا يقرأه إلا القليلون، وتملك القدرة على إصدار حكم عليه بطريقة صادمة ومثيرة. يعشق الحوارات الفكرية العميقة، تُلْهِمُه، تَشْحَذُ عقله وذهنه. نشأ بينهما حوار طويل قادهما من الحديث عن الكتاب إلى الحديث عن نفسيهما. لم يخبرها الكثير عن نفسه لأنها كانت تستحوذ على الكلام طول الوقت بتلقائية عجيبة وعذوبة لذيذة مشتهاة. كانت واثقة من نفسها، ثرثارة ومثقفة وعذبة الروح. استغرب كلامها عن الموت، وتساءل في دخيلته: هل الموت فعلا مجرد حادثة مأساوية ومُحَرِّرَةٍ في الوقت نفسه؟ هل الموت مجرد نهاية؟ أخبرته أنها فقدت أمها منذ مدة قصيرة، فأدرك معنى الكلام الذي قالته عن الموت؛ تُوهِمُ نفسها أن الموت مجرد نهاية لتستطيع تحمل قسوة الفقد الذي يُفْجِعُ قلبها كما يُوِهُم فقراء المؤمنين أنفسَهم أن الحياة مجرد اختبار لكي يقنعوا أنفسهم بأن السعادة ليست أبدا دنيوية وأن نعيم الدنيا فتنة وزهرتها خداعة وشيطانية. يعلم أن الكثير من أفكار الناس لا تنبع دائما من تفكير عقلي عميق ونَبِيه بل من أثر مآسي الحياة في نفوسهم. كل شيء يفعله الإنسان ليس سوى تعويض عن سعادة تنقصه واكتمال لا يُسْعِفُهْ. عجيب كيف أن الناس يخادعون أنفسهم وعقولهم بأفكار وأقوال وأفعال من طبيعة تعويضية. الله يسمي الموت مصيبة، وليلى تعتبره مجرد نهاية، وسقراط يعتبره شفاءً من مرض الحياة، وجانكليفيتش يعتبره مهزلة وعائقا مأساويا يَحُولُ دون اكتمال الإنسان. كل يغني على ليلاه، لكن الموت مثل الروح لا أحد يعرف حقيقته ولا يتعرف عليه الإنسان إلا حين يكون في كربة الاحتضار.

لم يكاشف ليلى بهذه الأفكار لأنه مقتنع بأن الناس عادة يَتَبَنَّوْنَ الأفكار التي تلائمهم وتمنح معنى أو تبريرا أو تنفيسا لما يعتمل في دواخلهم الخَرِبَةِ وأرواحهم التي تمضي هائمة في كل اتجاه. يحتاج الناس لهذا النوع من الأفكار لكي تنطلي عليهم لذة الوهم الذي يخفف عنهم ثقل المآسي التي لا يستطيعون عليها صبرا. استمر في الاستماع إليها لأنه شعر أنها كانت في حاجة لمن يمنحها سمعه واهتمامه، كانت في حاجة للهروب من شبح الموت الذي أخذ منها أمها. أخبرته أنها كانت تقيم في فاس ثم عادت إلى عين سلطان بعد طلاقها من زوجها وموت أمها. جددت منزل العائلة وقررت أن تقيم فيه. عين سلطان مدينة أطلسية صغيرة لها سحر خاص، فيها منازل تشبه المنازل التي توجد في المدن الثلجية الصغيرة في أوربا. مدينة هادئة، كئيبة كآبة رومانسية، محاطة بالجبال والأشجار، متلفعة بالصمت والأسرار. مثل هذه المدن لا يعيش فيها إلا أناس بسطاء وطيبون أو من تسكن قلبه مأساة أو من يملأ قلبه حزن دفين من وحشة الحياة وظلم البشر. تبدو عين سلطان منفى رومانسيا للأرواح الهائمة. ولذلك شعر أن عودة ليلى إلى هذه المدينة ليس مجرد عودة حنينية لمسقط الرأس ومنزل الطفولة بل بحثا عن ملاذ تجد فيه نفسها، يخلصها من منفى الوجدان والروح، يمنحها الإحساس بأن هناك صيغةً أخرى للتصالح مع الذات وبلوغ وَهْمِ الاكتمال والإفلات من جَاثُومِ الأسى والخيبة والخذلان بعد موت الأم ومرارةِ طلاقٍ قَاسٍ ومُهِينْ.

في هذه المدينة التقى ليلى، وإلى هذه المدينة يقود سيارته ليلا من أجل اللقاء بها بعد أن توطدت بينهما العلاقة بشكل لم يتوقعه ولم يكن مستعدا له. ليلى ليست مجرد امرأة، بل عالما من حماس وأنوثة وفكر وثقافة وحكمة وجنون وحزن دفين وفلسفة وجودية نادرة ومتحمسة. حينما سألها في لقائهما الأول: من أنت؟ ابتسمت ابتسامة بدت له ماكرة وخبيثة: أنا ليلى...امرأة مختلفة، لكن اِطمئن أنا لست نسوية...

في تلك اللحظة شعر أن هذا الكلام مجرد نوع من المزاح الكاذب لأنه لم يكن يؤمن بوجود امرأة مختلفة؛ كل النساء اللواتي تعرف عليهن كن يدعين أنهن مختلفات لكن لم يجد فيهن أي اختلاف: نفس الأفكار، نفس التبريرات، نفس الأحكام المسبقة والأفكار الجاهزة، نفس التلاعب بالعواطف والغرائز، ونفس دور الضحية، ونفس الشكوى من ظلم الحياة وسفالة الرجال. وبالإضافة إلى ذلك كلهن نسويات، والفرق بينهن أن كل واحدة منهن نسوية على طريقتها. لكن بعد توطد علاقته بليلى اكتشف أنها فعلا امرأة مختلفة، صريحة، صادقة، تكشف مشاعرها بشجاعة وثبات، تتحدث عن نفسها بدون مواربة، تعترف بأخطائها، تجابهه بعيوبها، ولا تستنزفه عاطفيا ونفسيا وماديا كما فعلت معه العديد من النساء. ولهذا السبب احترم ليلى كما لم يحترم أبدا أي امرأة في حياته. لأول مرة في حياته يجرب الشعور بتلك الحالة الاستثنائية من الاحترام إزاء أنثى مختلفة حقا.

بعد انهيار علاقته الزوجية كان عليه أن يبدأ من جديد. لا أحد يعلم كل المحن والمآسي التي عاشها قبل الزواج وأثناءه وبعده، حياته لم تكن أبدا مثل أي حياة، لكنه كان يحتفظ دائما بصلابته وابتسامته، لا شيء يستطيع تدميره، حقا لا شيء. جزء كبير من حياته الشخصية والاجتماعية كان محجوبا عن الناس، متواريا خلف أبواب موصدة ليس لها مفتاح. القوة الحقيقية ليست في التشبث بل في التخلي، ولذلك كان عليه أن يتخلى عن زواج فاشل بعد أن انعدمت كل فرص العيش المشترك. بعد الانفصال لم يدخل حقا في علاقات مع النساء، بل دخلت بعض النساء إلى حياته. لم يكن أبدا من النوع الذي يدخل في علاقات عابرة، ولم يكن منشغلا بالتفكير في النساء أو التقرب منهن. اهتماماته وانشغالاته وأحلامه وأهدافه الخاصة تستحوذ على وقته وطاقته. الكثير من الأشخاص وصفوه بالغموض، لكنه لم يكن يتعمد أن يكون غامضا، بل كان يحتفظ بحياته لنفسه، وما يسميه الناس غموضا يسميه هو "ميتافيزياء الكائن"، أي الجانب الماورائي في الشخصية، الجانب المحجوب، ذلك الجانب الذي تشعر أنه حيزك الخاص، مضمارك الشخصي الذي تجد فيه نفسك، إنه محرابك الذي لا يدخل إليه سواك. كان دائما يردد في نفسه: حياتي ليست فندقا لكل من هَبَّ وَدَبّ...حياتي ملكي وحدي...حياتي خط أحمر، محرابي السري، حياتي استثناء...

بعد انفصاله عن زوجته ظهرت إلهام صدفة من جديد في حياته. لا يدري إن كان الأمر متعلقا فعلا بالصدفة، لكن لقاءه غير المتوقع بها بدا له صدفة رغم أنه كان يؤمن في دخيلة نفسه أن لا شيء يحصل إلا بوصفه رسالة إلهية، رسالة تنبيه أو توجيه أو تحذير أو اختبار أو تبشير. إلهام كانت حبا قديما وحكاية لها تاريخ، كانت جنونه ووحشيته البدائية أثناء مرحلته الجامعية. لم يكن يريد العودة إلى حب قديم أَطْفَأَتْ جَذْوَتَهُ الأيام، لكن حدثت أمور غريبة وصُدَفٌ غير متوقعة أدت به إلى العودة إليها. أَدْلَجَ معها في علاقة جسدية وحشية وبدائية. كان الأمر جنونيا، كان جموحا واندفاعا ومتعة همجية إلى حد الإنهاك والتلاشي والألم. استعاد مع إلهام أزمنة قديمة ظن أنه نسيها، لكنه تذكر نفسه فيها، نفسه القديمة. عجيب كيف يعود الزمن لِيُذَكِّرَكَ بنسخة منك كنت قد نسيتها تماما، تخلصتَ منها في منعرجات الطريق ونفضتَها عن كاهلك في منعطفات الأيام. نتوهم عادة أن الأيام تغيرنا لكن حقيقة الكائن تظل دائما كامنة فيه لا يشوبها تغيير، إنها حقيقة أبدية، كُنْهٌ ثَابِتٌ رغم كل المتغيرات. ما نعتبره تغيرا في حقيقتنا الداخلية ليس سوى تأويلٍ إسقاطي مُغَايِرٍ لشيء ثابت لا يتغير هو حقيقتنا الأبدية الكامنة فينا بغير إرادتنا يا إنسان. اكتشف في إلهام ما لم يكتشفه فيها من قبل: رعب المرأة الدفين من مكر الزمان، حاجتها الشَّرِهَةُ للاطمئنان. اكتشف أن المرأة لا تبحث في الرجل عن الرجل، بل تبحث فيه إما عن نفسها أو عن ظِلِّ أمان. تبحث فيه عن شيء لن تجده أبدا لأن الأمان ليس شيئا متاحا للإنسان في هذه الحياة، وليس بمقدور الرجل أن يحققه لنفسه أو للمرأة التي تبحث عن الأمان فيه. وحين تدرك المرأة هذه الحقيقة - أو لا تدركها أصلا- ترمي بكل تبعات غياب الأمان على الرجل، تحمله مسؤولية غياب الأمان في هذه الحياة، تكرهه لأنه ليس إلاها يغير موازين الحياة ويوجه دفة الأقدار.

تَعَجَّبَ كيف أن حاجة الأمان التي لمسها عند إلهام لمسها أيضا عند فتاة كانت قد دخلت حياته بفترة قصيرة قبل ظهور إلهام، وأحدثت فيه أحاسيس عجيبة وقوية لم يشعر أبدا بمثلها من قبل. كانت علاقته بتلك الفتاة شيئا غريبا، حالة مستعصية عن الفهم. لم يدرك الأسباب الحقيقية التي جعلت تلك الفتاة تتسلل إلى حياته، ولذلك ظل موزعا بين الانجذاب والحذر. لم يفهم شدة انجذابه إليها رغم أنها لم تكن من نوع النساء اللواتي ينجذب عادة إليهن. لم يفهم كيف اخترقت حدوده واستولت على اهتمامه رغم أنه متعود على أن لا يولي أي اهتمام أو احترام أبدا لامرأة تطارد الرجال. أحدثت فيه حالات انفعالية استثنائية قصوى. أحب تلك الحالات وكرهها لأنها كانت جنونا لذيذا، لكنه جنون في غير محله. كانت تلك الحالات نارا مستعرة هوجاء موجهة نحو امرأة أشبه بجثة ميتة وباردة. لا يدري ماهية شعوره نحوها لكنه بالتأكيد كان شيئا يصعب وصفه، والأرجح أنه كان شعورا غريبا بالشفقة على كائن هش يستعذب التلذذ بالألم. لم يفهم كيف انتشر خبر علاقته بها، ولم يفهم أيضا كيف تدفقت عليه المكالمات والرسائل النصية والمراسلات في حسابه في فيسبوك تحذره منها، وتحكي له حقيقتها وتلاعباتها وأمورا أخرى عجيبة وغريبة يصعب تصديقها. كانت تلك الرسائل صادرة عن أشخاص مروا في حياته أو تعرف عليهم بشكل عابر وأشخاص آخرين لم يسبق أن عرفهم من قبل. اتصل به بعضهم هاتفيا واقترح عليه أحدهم لقاء مباشرا ليخبره المزيد عنها بالأدلة. وكان اللقاء، وكانت الصدمة التي لم يتوقع مثلها أبدا. أصابه الذهول وتعجب كيف يعرف عنها أولئك الأشخاص كل تلك الأشياء والتفاصيل والأسرار والموبقات، ذُهِلَ وهو يستمع إليهم يحدثونه عن ماضيها وحاضرها. لم يتسع عقله لفهم كيف يمكن أن تكون تلك الفتاة مكشوفة لكل أولئك الأشخاص كل ذلك الانكشاف، واستغرب إلى أي حد يحتقرونها ويسخرون منها. وتعجب أكثر من قدرتها على أن تخدعه رغم أنه لم يكن من الأشخاص الذين قد يخدعون بسهولة، وتعجب أكثر كيف أتقنت قناع العفة والطيبة وحسن النية وسلامة التربية وصدق القلب ودماثة الأخلاق ودور الضحية. كيف سمحت لنفسها أن تظهر بمعيته أمام أشخاص تعرفهم لكنهم لا يقدرونها، ولم يقدروه بدوره حين رأوه معها. وبقدر ما كانت تلك الاتصالات بما فيها من أخبار مثيرة للتساؤل والاستغراب والاندهاش بقدر ما شعر بالاندهاش من درجة الاحترام والمحبة التي عبر عنها تجاهه كل أولئك الأشخاص، لم يُرْضِهِمْ السكوت عن حقيقة تلك الفتاة التي تتلاعب بشخص يكنون له التقدير والاحترام والمحبة. لم يصدق أنه كان محبوبا جدا من أشخاص يعرفهم وأشخاص لا يعرفهم لكنهم يعرفونه ويقدرونه. هو عادة لا يطور علاقاته بالآخرين، يبقيهم دوما على مسافة منه، يقدس خصوصيته واستقلاليته واستغناءه عن البشر. يتعامل مع الناس بابتسامته وحماسه وطيبته لكن كل انشغاله مركز على نفسه وحياته. أصدقاؤه الحقيقيون قليلون جدا، لكن تلك القصة بينت له أنه هناك أشخاصا لا يعرفهم لكنهم أصدقاء له، أصدقاء حقيقيون، محبون أوفياء.

كان يعلم أن الخداع أصل متجذر في الطبيعة الإنسانية. ولذلك لم يتأثر بخداع تلك الفتاة بقدر ما تأثر بمحبة أولئك الذين سارعوا بتحذيره منها وفضح أسرارها. علم أنه كان في علاقة سامة ومنحرفة، وأعاد تحليل كل أفعال وأقوال وتصرفات تلك الفتاة في ضوء ما أخبره بها من يعرفون حقيقتها، فتعجب كيف أنه لم يكتشف أنها كانت فعلا امرأة لا تليق به. الحياة عبر ودروس، لكن الجميل في الحياة أن يكون لك أشخاص يحبونك ويقدرونك ولا يرضون لك السوء والعار. أولئك سندك والمدد المسخر لك من السماء.

في الصفحة الخامسة والثمانين من مذكرته، كتب ما يلي: هناك أمور تقع في حياة الرجل تدعو إلى الدهشة: أحيانا تجد أن حياتك قد أصبحت مستباحة، تجد أنك محاصر من ماضيك وحاضرك، من نساء عرفتهن يَعُدْنَ إليك ومن نساء لم يسبق لك رؤيتهن تلتقي بهن، وفجأة تجد نفسك رغما عنك في شبكة من العلاقات التي يدرجك بعضها في حلم لذيذ ومُسْكِر أو يستنزفك بعضها الآخر بدون طائل. لا أجد تفسيرا لهذا الأمر، لماذا يحصل ذلك في الوقت الذي تكون فيه منشغلا بإغلاق كل الأبواب في وجوه كل الناس؟ الرجل الحقيقي هو الذي يكتفي بنفسه، يخصص طاقته وقوته لاكتمالاته وإنجازاته. حيثما وُجِدَتْ علاقة بين رجل وامرأة توجد حالة من التوتر والاستنزاف والطاقة المُهْدَرَة، لكن إلهام هي الجنون الأفخم، هي الحب الذي لم يمت أبدا. عيبها الوحيد أنها كانت متطلبة وغيورة وكثيرة الشكوى ككل النساء اللواتي مَرَرْنَ في حياته.

ليلى هي المرأة الوحيدة التي لم يشعر أنه مطالب أن يثبت لها أي شيء، لا تطالبه بأي شيء، لا تلزمه بأي شيء. تغرقه حبا، تلاطفه، تبتسم دائما في وجهه. تتلقى حبه بشراهة وامتنان. تمنحه سعادة لم تمنحها له أي امرأة من قبل. حينما يضع رأسه على صدرها الأمومي لتلاعب شعره بأناملها وليونة يدها يستكين لها، يسلم نفسه إليها، ينسى العالم والناس، يشعر أنه بلغ أوج الكمال والاكتمال. لم تنجح أي امرأة في ما نجحت فيه ليلى. بساطتها، عفويتها، رقتها، اهتمامها، تفهمها. لم يخبرها أبدا أنه يحب أن تلاعب المرأة شعره وتدعك فروة رأسه بحنان ورقة وحب، لكنها فعلت ذلك دون أن يطلبه منها. اندهش دهشة لم يحصل له مثلها أبدا من قبل، سألها: كيف عرفت أنني أحب ذلك؟ أجابت: رأيت ذلك في عينيك.

في تلك اللحظة، حصل شيء عجيب: أحبها دفعة واحدة، بأقصى ما يستطيع، بأعتى ما يمكن للقلب أن يشعر به أو يحتويه. المرأة التي تقرأ ما يختلج في عيون الرجل لا يمكن أن تكون امرأة عادية، ولا يمكن للرجل أن يحبها حبا عاديا...
حينما أخبرها أنه يعشق سيمفونية "الخريف" لشوبان قالت له: وأنا أعشق ما تعشقه أنت، سأجعلها رنة هاتفي المفضلة.
وحينما كانت تتأمله وهو يقوم بحركات الطايشي في الصباح كانت تقلد حركاته بطريقة مسرحية، وتقول له: علمني هذه الحركات المضحكة...أريد أن أكون مضحكة مثلك.

مرحها الطفولي يشده إليها، بساطتها وروحها العذبة تُلْهِمَانِه. الحديقة الجانبية الصغيرة المحاذية لمنزلها توفر جلسة استرخاء لذيذ يتبادلان خلاله حديثا لا ينقطع. ثرثرتها المستطابة تضفي على سكون المكان سحرا خاصا، ضحكاتها الصَّادِحَةُ تمنحه إحساسا بأن المرحَ في النساء حياة.

في كل مرة يأتي إلى ليلى، يفتنه السكون العجيب الذي يملأ المكان. سكون روحي، هدوء لم يجده في أي مكان قط، هدوء يتسرب إلى روحه فيشعر أنه مُفْعَمٌ بشيء شبيه بنعيم الجنان. سكينة لا تُضَاهَى، سلامٌ داخلي وَارِفٌ وظَلِيل. يحب مجالسة ليلى في حديقة منزلها الصغير برفقة قطتها السيامية، ويحب طريقة تَعَامُلِهَا مع قطتها، تُعَامِلُهَا كأنها صغيرتها، تناديها أورورا، وتحضنها بأمومة وحنان كأنها جزء منها.

حاولت ليلى إقناعه أن الحياة بسيطة، أبسط مما نتصور. تظاهر بأنه يوافقها الرأي لكنه لم يقتنع، ولم يحاول إقناعها بأن الحياة أعقد مما تتصور. أراد أن يترك لها حرية الاعتقاد الذي يريح القلب ولا يتعب الروح. ليس من حقه أن يقحم في عقلها إشكاليات معرفية ووجودية مُرْبِكَةٍ وغير مجدية. قالت له يوما: أنت تعقد الأشياء، تحول كل شيء لموضوع إشكالي تُنَازِلُهُ بفكرك وتُعَارِكُهُ بعقلك كأنك في معركة أو رهان...لكن الشيء الجميل فيك أنك تحب بساطتي، تعتصرني بجنون، وتتغزل بي فَتُشْعِرُنِي أنني أجمل النساء...

سألها: هل تعرفينني حقا؟!...
قالت بيقين وثبات: أعرفك أكثر مما تتصور
اجاب باندهاش: كيف؟

نظرت إليه بإمعان وقالت: أنت إنسان طيب...هذا كل ما يهمني...وهذا ما يشعرني أنني أعرفك أكثر مما تتصور...أراهنك أنه سيأتي يوم وتخبرني بكل شيء عنك ...وحتى إن لم يأت ذلك اليوم أبدا فأنا أعرفك بقلبي...أعرف أن شيئا أكبر منك ومني أرسلك إلي...أنت هدية من السماء...وأنا قبلت الهدية...فلا تسألني مرة أخرى إن كنت أعرفك حقا...أنت تعرف الآن الجواب: أنا أعرفك أكثر مما تتصور...

استغرب كيف يكون هدية من السماء لامرأة لم يتعرف عليها إلا منذ سنة لكنها تعرف عنه الكثير. نظر إليها بحب وافتتان وهو يعيد ترتيب كلامها في فكره. أخذت يده بين كفيها الدافئتين وقالت كأنها تقرأ ما يجول في خاطره: أنت فعلا هديتي من السماء...صدق أو لا تصدق...

تسرب هذا الكلام دفعة واحدة إلى قلبه، اخترق كل جدران المقاومة التي ألزم بها نفسه لكي لا يسقط مرة أخرى في فخ التعلق بامرأة. شعر برغبة جنونية في امتلاكها إلى أن تنقطع منهما الأنفاس كما كان يفعل بها كلما فقد السيطرة على نفسه. لكن صوتا داخليا كان يقول له: اخرج لتتمشى وتفكر...هناك ألف طريق وطريق، وألف إمكانية واحتمال...خلفك أرض محروقة، وأمامك هدية وسماء...

في الصفحة السادسة والثمانين من مذكرته كتب ما يلي: الحياة مسارات، تشعباتٌ من احتمالات وممكنات وفرص واختيارات. قد نوهم أنفسنا بأننا نملك القدرة على الاختيار، لكن شيئا ما في هذه الحياة الماكرة يسحب منا كل إمكانية لاختيار ما نحب وما نريد. عمر بن الخطاب قال: السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، وليلى تقول إن السماء تمطر هدايا. من نصدق ومن نكذب؟ باستثناء ليلى، لا أريد أن أكون هدية لأي امرأة، ولا أريد أن أكون لعنة لأحد. ليلى حقا امرأة نادرة، أفضل وأرقى من كل امرأة عرفتها من قبل. إنها تهبني ما لم أستطع العثور عليه في أي امرأة، تهبني السكينة، الكنز الروحي النادر والثمين، العطاء الإلاهي الذي ليس له في العطاء مثيل. المشكلة مع النساء أنهن إما يتسربن إلى قلبك في غفلة منك أو يُؤَجِّجْنَ غريزتك رغما عنك. وفي كلتا الحالتين يوقعنك في حالة من العبودية التي تبدو ظاهريا بريئة وغير مقصودة لكنها ثقيلة ومدمرة. هل قَدَرُ الرجل أن يكون عَبْدَ قلبِه أو غريزته؟ هل عليه أن يكون هدية للمرأة أم لعبتها المفضلة أم ضحيتها اللدودة؟ ما الذي تريده المرأة من الرجل؟ وما الذي يريده الرجل من المرأة؟ وما الذي تريده الحياة الماكرة منهما معا؟ لماذا تظهر الكثير من النساء في حياة الرجل، ولا تفتنه فتنة حقيقية إلا واحدة منهن؟ لماذا ليلى بالضبط؟ لماذا استحوذت على كل شيء فيه وأَنْسَتْهُ كل النساء اللواتي مررن في حياته؟ لماذا ليس إلهام وليس نجوى؟ لماذا يكتشف الرجل دائما أن النساء اللواتي تَعَرَّفَ عليهن لم تكن أي واحدة منهن مطابقة لصورة المرأة التي في ذهنه؟ ولماذا حين يكتشف المرأة التي تطابق ما كان يحلم به دوما يصاب بشيء أعلى وأعتى وأنبل وأقدس من الحب؟ شيء لا اسم له في المسميات، شيء لا يمكن أن تتذوقه إلا بوصفه نعمة إلاهية تسعد الروح وترتقي بصفاء ونقاء الوجدان. قد يقاوم الرجل الجوع والعطش ومصائب الدهر ويعجز عن مقاومة امرأة تملك القدرة السحرية على أن تنسيه كل النساء وتبعث فيه السكينة كأن فيها شيء من روح الأنبياء؟ قد يظل الرجل طول حياته مقيما في نزوعاته ونزواته وسجنه المادي وتخبطاته بحثا عن اكتمالات عاطفية مستحيلة أو رعشات شبقية فاجرة ومُهْلِكَة، لكنه لن يجد في ذلك سوى شظف العطش ومَهْلَكَةِ الروح.

بعد أن رجع من حصة المشي، وجد ليلى قد أعدت أطباق العشاء. أشعلت بعض الشموع. أسدلت شعرها، وأظهرت زينتها. وتفتحت كزهرة مُزْدَانَةٍ بِأَرِيجِ فصل الربيع. بدا قوامها المكتنز الفخم والباذخ مُشِعًّا بأنوثة أربعينية فوارة نادرة سماوية ولا مثيل لها في كل من عرف من الإناث وأشباه النساء. نظر إليها بافتتان وذهول. تناول العشاء على إيقاع أحاديثها العجيبة المزدانة بضحكات تُطْرِبُ الروح. بساطتها وعفويتها تثيران فيه حالة قصوى من العشق العذب الشفيف؛ حالة اسثنائية من تلك الحالات التي يعشقها كلما تذوقها في موقف أو مقام. سكينة غامرة تملأ روحه، تشعره أن الحياة ليس أن تكون حيا، والحب ليس أن تستهلك امرأةٌ عاطفتك لتفرغك من كثافة وجدانك أو تستنزفك جنسيا لكي تبقيك مُتَسَفِّلاً عند حدود غريزتك بدون رعشة روحية أو مدارج ارتقاء، بل الحياة أن تحظى بامرأة تعرف كيف تجعلك مفعما بالسر الإلاهي الذي أودعه الله فيك، فَتُغْدِقَ أنت عليها العاطفة وأنتما مُجَلَّلَيْنِ بقدسية الارتباط، وتَصُبَّ الغريزة في أحضانها بأقصى ما تستطيع وأنت مفعم بروحانية التوحد مع امرأة طاهرة تعرف معنى العفة والنقاء، وأن تدعها بعد ذلك تأخذ رأسك، وتحتضنه فوق صدرها، وتلاعب شعر رأسك بأناملها المكتنزة الدافئة، وتدندن لك سيمفونية "الخريف" لشوبان بصوت حالم وعذوبة رخيمة.

بعد العشاء، حدث بينهما ما حدث. ثم تناولت رأسه، وضعته على صدرها. شَغَّلَتْ سيمفونية شوبان على هاتفها. ولاعبت شعره بحب ورقة وحنان. سألها: كيف عرفت أنني أحب ذلك؟

أجابته: رأيت ذلك في عينيك.
سألها: من أنا؟
قالت: أنت هديتي من السماء
قال: ومن أنت؟
قالت: أنا السكينة التي لم تجدها في أي امرأة، أنا الكنز الروحي النادر والثمين، أنا العطاء الإلاهي الذي ليس له في العطاء مثيل...أنا هديتك من السماء...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى