انتفاضة الأدباء ضد استبداد الفقهاء
على الرغم من الحصار الشديد الذي كان مفروضا على الأدب ورجاله في العصور المتأخرة، فإن الحس التحرري والهاجس الثوري كان ينمو ويترعرع داخل نفوس جيل جديد يرفض الوصاية الثقافية أو الحجر الفني، ويأبى الاستسلام والانصياع لتوجيهات الفقهاء. فكان ذلك إيذانا بظهور نزعة عصيان أدبي داخل المجتمع الثقافي. وقد شكلت هذه النزعة مدرسة جديدة متحررة في مقابل المدرسة التقليدية المحافظة، مما دفع الواقع الثقافي إلى التحول إلى شبه حلبة للمنافسة بين التيارين المحافظ والمجدد من أجل انتزاع حق الوجود والصراع من أجل البقاء.
فمع أبي علي اليوسي ومع أستاذه المرابط الدلائي وأحمد بن عبد الحي الحلبي، تبدأ نهضة ثقافية وحركة تمردية ثورية عامة استمرت إلى منتصف القرن الثاني عشر / الثامن عشر الميلادي، وضعت الخريطة الجديدة للحياة الثقافية، ورسمت ملامح المرحلة الجديدة، آخذة في الحسبان التضحيات التي يجب أن تقدمها وأشكال الصعوبات والعراقيل التي تتوقع أن تواجهها. وتنتسب إلى هذه الفترة مؤلفات كثيرة ومتنوعة في اللغة والبلاغة والأدب، ودواوين الشعر والمقامات والرسائل وغيرها (1).
فقد عملت هذه المدرسة الجديدة على تحريك الجزء المعطل من جسد الثقافة المغربية، ودفعت بالعديد من الأسماء المبدعة إلى حلبة العطاء والإنتاج، وكسرت لديهم الحاجز النفسي وخلصتهم من عقدة الرقابة، وشجعتهم على خرق الإطار القيمي الضيق الذي وضعه الفقهاء للممارسة الثقافية. وهكذا أنشأ الزعيم الثقافي أبو علي اليوسي ورفاقه في درب النضال خطا علميا متميزا وجريئا ودالا على عمق التكوين وسعته، ومؤشرا على بعد النظر ودقته، ومعبرا عن رغبة حقيقية في تصحيح المسار الثقافي وتجديد هياكله وآلياته التي بدأت تتآكل وتفقد نضارتها وجاذبيتها. كان هذا التيار يؤمن بالثقافة الشمولية، ولا يتهيب من طرق مختلف أبواب المعرفة، ولا يتحرج من وطء ما حرمه أصحاب التيار المتزمت ، ولا يجد غضاضة في تجاوز الخطوط الحمراء وتكسير الحدود والسدود الظالمة التي أنشأها العقل الثقافي المنغلق.
انطلق مشروع المدرسة التجديدية من منطلق ضرورة إعادة الاعتبار للأدب، وفرضه كمكون أساسي وفعال في المنظومة الثقافية، وبالتالي الاعتراف بشخصية الأديب وبمكانته المعتبرة ضمن تشكيلة الفريق الثقافي، والتعامل مع الإبداع الأدبي كواقع قائم، وكضرورة اجتماعية، وكحاجة ثقافية وفنية، وكأداة موجودة بالقوة وحاضرة بالفعل في بنية الفكر والوجدان والذوق لدى الإنسان المغربي.
ومما لاشك فيه أن هذا التوجه الثقافي الجديد لم يكن من صنع اليوسي بالأصالة ولا من ابتكار رفاقه، وإنما كان ثمرة ما تلقاه هؤلاء المثقفون من الزوايا التي ارتبطوا بها وتربوا على موائد الأدب فيها دون الإحساس بعقدة ذنب أو الشعور بمركب نقص. فقد أقام العلماء الدلائيون تمثالا رفيعا للأدب والشعر، وأسسوا له قواعد متينة وأرضية صلبة، وجعلوه سمة مميزة للحركة الثقافية في معقلهم. فالدروس الأدبية التي دأبت الزاوية الدلائية على تنشيطها وتلقينها لطلبتها هي التي أحيت دماء الأدب في المغرب بعد عدم(2) وبثت الروح في كيانه من جديد. وقد تمخض عن هذه النزعة الأدبية الرائدة بروز ثلة من رجال الأدب من أتباع وتلامذة هذه الزاوية. كما أن إدراج مادة الأدب والمختارات الشعرية ضمن برامج التدريس بالزاوية الناصرية كان المشعل الذي أضاء لليوسي ولرفاقه طريق التمرد في ساحة الثقافة، وشجعه على المضي قدما في درب النضال من أجل افتكاك موقع للممارسة الأدبية في الساحة الثقافية. ذلك التمرد هو ما تجسد في شكل تدفق شعري وانسياب إبداعي ونشاط تأليفي له من الخصوصية والتميز ما جعله بديلا جديدا ومغايرا لما ألفه الناس في مجالس الدرس وفي مواد التعليم وأنشطة التأليف.
وبعد جيل اليوسي ارتفعت أصوات بعض الشعراء كمحمد بن زاكور (ت1120) وابن الطيب العلمي (ت1135) وعلي مصباح الزرويلي (ت1150) ومحمد الصغير الإفراني (ت 1156/ 1157) وغيرهم لتشكل تيارا تجديديا قويا قادرا على حماية نفسه من سيف الرقابة، ومستعدا للصمود في وجه الإكراهات والمضايقات التي تنتظر أصحابه. فإذا كان القرن الحادي عشر يمثل مرحلة المخاض وانطلاقة التخطيط للمشروع التحرري الذي رعته الزوايا المنفتحة على الأدب ورجاله، فإننا نعتبر القرن الثاني عشر الهجري فترة الحصاد والإثمار والإنتاج، مرحلة ولادة جديدة في الممارسة الأدبية بشكل عام، وفي مجال الشعر على وجه الخصوص، تميزت بالجرأة والتمرد واقتحام المناطق الملغومة وتجاوز الخطوط الحمراء. وقد حاولت هذه الحركة التجديدية أن تكون متدرجة ومتزنة وهادئة، لكنها أصبحت بعد اليوسي صادمة مستفزة مع كل من العلمي والإفراني وابن زاكور وغيرهم. وكان من مظاهر التحرر المستفز والهادف إلى التصدي للحصار الثقافي، والحامل لشعار التحدي لمخطط الإقصاء والتهميش، تأليف كتب في المختارات الأدبية والشروح الشعرية بدون تقديم مبررات لهذا النوع من التأليف(3)، كما جرت العادة عند الأدباء المنضوين تحت لواء المدرسة المحافظة، أوعند الذين آثروا الاحتماء بمظلتها حفاظا على مناصبهم وامتيازاتهم.
أخذت مسألة حرية التفكير والتعبير تحدث تفجيرا جديدا في بنية الثقافة المغربية، وأصبحت أصوات المتحررين والداعين إلى الانفلات من وصاية الرقيب تعلو وتصدح في الآفاق. فظهرت تجارب أدبية رائدة وجريئة في مواجهة المد الفقهي المحافظ، تجارب قادرة على ممارسة الاستفزاز المضاد والوقوف في وجه الفزاعة الوصية على قطاع الإبداع. وفي هذا السياق الثقافي الملتهب فتحت ملفات ساخنة وطرقت مواضيع مثيرة وقضايا طالما نوقشت في الخفاء وخلف الكواليس. احتضن الشعر بشفافية مواضيع الغزل والمجون والحكايات الغرامية. وأصبح الشاعر منفتحا ومتحررا لا يجد حاجزا نفسيا أو قيميا يحول دونه وطرق هذا المسكوت عنه. وبدأ التطبيع مع هذه الأغراض في الساحة الثقافية وعلى صفحات الكتب والمؤلفات. فكتاب (الأنيس المطرب)لابن الطيب العلمي، يكشف بحق عن هذا التحول العميق في بنية التفكير والتعبير و يدل على الذوق الجديد الذي تسرب إلى ملكة المثقف المبدع وإلى وعي المتلقي المنفتح.
والأمر نفسه نجده مع تجربة الشرح التي مارسها الصغير الإفراني(ت 1156/1157)هـ في كتابه (المسلك السهل في شرح توشيح ابن سهل)، وذلك حينما اختار أن يلامس ما يثير حفيظة المحافظين، ويعاكس تيارهم ويستفز مشاعرهم ومقاييسهم واختياراتهم الثقافية. إذ كان اشتغال الإفراني على موشح ابن سهل الإسرائيلي إعلان حرب على سلطان الرقابة العلمية، وبداية تحرش حقيقي ومتعمد، من أجل إحداث هزة عنيفة أو رجة قوية في كيان الممارسة الإبداعية والتأليفية.
وقد شكل هذا الانفلات الفني تيارا جديدا لا انتماء له، ولا مؤسسة له تحميه أو تظله. كما لم تكن المعاهد العلمية تقبله أو تشجع رجاله وأبطاله. كانت انطلاقته من رحم الزوايا، لكنه سرعان ما أسس لنفسه مسارا مستقلا، حتى لا تبوء بإثمه مدرسة أو زاوية. وحتى لا يحسب تمرده وعصيانه على هذه الزاوية أو تلك.
وبصفة عامة، فقد كانت هذه المرحلة مرحلة صراع فني وإديولوجي تحكمت فيها مرجعيات مختلفة ورؤى متباينة، ومع ذلك فقد كانت شراراتها الملتهبة طالعة خير وبشارة يمن على الممارسة الأدبية بشكل عام، وعلى الحركة الشعرية بوجه خاص. فظهرت حركة دعوية شعرية في البيئة المغربية، وتنقل الأدباء والشعراء بين القرى والمدن بحماس كبير لتعبئة المجتمع ولاستقطاب المناصرين. ولم يكن تنقلهم سياحة ترفيهية بقدر ما كان عملا تبشيريا ودعائيا للمرحلة الجديدة. كما أن اختلاطهم في المجالس العلمية وحضورهم للمسامرات الأدبية لم يكن من باب التسلية والترفيه بقدر ما كان بقصد التوعية والتوجيه. وبذلك تحققت المثاقفة بين الفقهاء وأصحاب الحساسية الفنية. واستطاع الأدباء أن يقنعوا الساحة الثقافية بكون الأدب ليس لعنة وشؤما أو زندقة، وبأن هناك إمكانية للتعايش مع أهله، ومد جسور التواصل مع المشتغلين به. ونتيجة لذلك بدأ المجتمع الثقافي يتخلص رويدا رويدا من عقدة الذنب حين الاشتغال بالأدب، وأخذت مرحلة التطبيع والتسامح مع رجال الأدب تعرف طريقها نحو الوجود، وتقلصت سلطة الفقهاء، وضعف صوت الرقيب وسوطه، وتخلص الأدباء من الأجواء العدائية التي كانت تخيم على ميدان الأدب وتصيب أهله بالإحباط وتدفعهم إلى الانزواء والانسحاب وإلى الاحتماء بالعزلة والغياب. وتنفس الواقع الثقافي الصعداء حينما هبت رياح الحرية وتكسرت قيود الحصار وتحطمت حواجزه.
المصادر والمراجع:
محمد العمري: الإفراني وقضايا الثقافة في القرن 12ه/18م ....، ص: 31.
عبد الله كنون: خل وبقل، ص: 275، المطبعة المهدية، د ت . والنبوغ المغرب.. ج1 / 274
انظر كتاب (الأنيس المطرب)لابن الطيب العلمي، وكتاب (المسلك السهل في شرح توشيح ابن سهل) لمحمد الصغير الإفراني.تحقيق:محمد العمري،رسالة جامعية بكلية الآداب – فاس سنة 1981