بالأمس كانت هنا
وعيت على الدنيا وأنا أراها تجلس أمام شرفة بيتها الصغير بنظرتها الهادئة وملفعها الأسود (ومدرقتها) السوداء وبراد قهوتها، ومزيج من ذكريات زمن ثقيل تناثرت حول المكان، يقع بيتها في قلب الحارة تمر به شوارع المخيم وأزقته المجهولة، يحيط به الأقارب من كل اتجاه، (عمتي أم يوسف) امرأة مسنة تقدم بها العمر ودلفت نحو السبعين بكامل كبريائها وأصالتها، شاخت بسرعة كبيرة بسبب ما عانته في حياتها؛ فقد أفنت عمرها في تربية أبنائها.
كان الجميع يحبها وتحبهم، فقد كان منزلها الصغير يعج بنساء الحارة الزائرات يحملن همومهن ليشاركنها بها فتحدثهن بحكمة خبرة السنين وثقافة البسطاء وتجارب الحياة المنهكة، وفي المقابل تنزع النساء عنها ثوب الوحدة الذي لبسته باكرا قطعة قطعة حتى إذا حلّ الظلام تركت شرفتها وحيدة وغابت في أفق الذكريات الممزوجة بهموم الماضي التعيس وأمل المستقبل المجهول.
كانت امرأة اجتماعية في طبعها، تشارك الجميع أفراحهم وأحزانهم؛ فلا يمر فرح أو ترح أو نجاح إلا وأراها تذهب بنفسها وتقدم واجب المشاركة، أذكر أنني عندما أنهيت الثانوية العامة جاءت وباركت لي رغم بعد المسافة بيننا جغرافيا وكذلك لما تزوجت ،وأعطتني مبلغا من المال كعادتها في المشاركة (فيا ليتها تعود لأقول لها شكرا).
وأتذكر في مرحلة الطفولة عندما كنا نمارس لعبة كرة القدم أمام بيتها كانت تطالعنا باهتمام كبير خوفا من سقوط أحدنا على الرصيف أو من أن نركل أحدهم بالكرة فنؤذيه فكانت تنصحنا بأن نذهب إلى الوادي القريب ونلعب فيه، لكن رعونة الأطفال كانت تمنعنا من الاستماع إليها (فيا ليتها تعود لأقول لها حاضر يا عمتي).
في هذا الأسبوع حلّ الزائر الأبيض على حارتنا فكسا الأرض ثوبا أبيض واكتست (عمتي أم يوسف) ثوبا أبيضا من نوع آخر وغابت مع الثلج تاركة شرفتها وملفعها وبراد قهوتها، رحلت في صمت، خيالا من الذكريات، وظلا من الغيوم، غابت عن عيون الحي رويدا رويدا كما الثلج، لقد لاحت النهاية ...
في هذه اللحظة وأنا ممسك بقلمي وأكتب عنها، أتخيل شرفتها، وقد خيم الصمت عليها، بلا سواد وبلا حكمة وبلا ضجيج، ولكنني أرى في الأفق ابتسامة ماثلة أمامي تنضح هدوءا وحكمة وذكريات، إنها ابتسامتها الغائبة، سأعوّد نفسي من الآن بأن أتعمد المرور من هناك كي أرى هذه الابتسامة وأسلم عليها ... كما كنت أفعل ...
مشاركة منتدى
9 نيسان (أبريل) 2013, 14:33, بقلم محمد الشوبكي
رائعة يا استاذ ايمن شداد وطوول عمرك رائع وشخص قدوة انا احد طلابك في مدرسة كريمة الثانوية يا استاذ ايمن وبشرفني انك كنت بلحطة استاذي وانا تلميذك
5 أيلول (سبتمبر) 2013, 10:26, بقلم أيمن شداد
شكرا يا محمد وأنا أفتخر بكم كثيرا .