توهّج البُعد السيميائي في «حرائق قرطاج» لخيرالدين جمعة
آه يا تونس الخضراء لقد مضى ربيعك سريعا خجولا تائها منهكا هرما وصار صيفا لهيبا حارقا يلفح أغصان ثورتك البريئة، هذا ما أرادت أن تبوح به رواية حرائق قرطاج للمبدع خير الدين جمعة من خلال مشهد سردي شامل لأحداث الثورة التونسية التي وقعت في العام 2011.
اعتمد الكاتب في بنائه لهذا المشهد الروائي على أسلوب السرد بالشخصية المتعددة بالمعنى الذي ذهب إليه المفكر الفرنسي رولان بارط، ويسمى أيضا أسلوب السرد بالضمير الأول؛ فقام بتقديم أحداث الرواية من خلال رؤية ومنظور شخصيات الرواية نفسها مستخدما ضمير المتكلم، ليكون السرد مباشرا وشخصيا عكس من خلاله آراء ومشاعر وتغيرات هذه الشخصيات النفسية والاجتماعية والفكرية، الأمر الذي يسمح للمتلقي بالتواصل والتفاعل العميق مع الشخصية، وفهم دوافعها وتحليلاتها الفكرية، والتأثر بها أيما تأثر؛ ليضفي مزيدا من الواقعية على أحداث الرواية.
استخدم الكاتب في روايته لغة شاعرية مترعة بالصور والتعبيرات البلاغية، وتنوع في أساليب السرد والوصف والحوار مع توسع ملحوظ للوصف والسرد، الأمر الذي أضفى المزيد من الحركية المناسبة للصراع بين شخوص الرواية والواقع المرير، والمزيد من الواقعية أيضا.
الشخصية الأولى: خليل بن خليفة (المال)
يصدق فيه قول الشاعر الفلسطيني محمود درويش (انتصرت، مجازا أقول خسرت، ويمتد وادي سحيق أمامي). خليل الانتهازي رمز لتلك الطبقة الثرية التي تتكيف مع كل الظروف لتحقيق مصالحها، وتعيد تشكيل نفسها وتغيير جلدها كالحرباء، وقد تكون هذه الفئة الأكثر تأثيرا في فشل المشهد الثوري التونسي برمته؛ لأنها تلدغ في العمق، وتسري كالسرطان في كل مجال من المجالات التي تمثل المجتمع ككل.
لم تظهر شخصية خليل في الرواية بهذه السلبية والسوداوية بشكل مفاجئ بل تطورت مع تطور الأحداث وتناميها؛ فقد نشأ خليل في أسرة انتهازية محبة للمال والنساء، وكان قدوته في هذا خالد الأخ الأكبر له، وهو الذي أوصله بطريقة ما إلى سناء، وكان والده تاجرا بخيلا على ما يبدو على أبنائه، وعندما رفعوا عليه قضية الحجر على الأموال استغل خليل الفرصة جيدا وحصل على الثرورة كلها بحكم علاقته الجيدة بوالده، بعدما تعاون معه في تسليم رفاق الأمس للأمن الداخلي و من ثمّ اعتقالهم و سجنهم فترة توهج الثورة، ثم انعزل عن رفاق الثورة بالثروة متلفعا بعاره.
هكذا كان خليل لا يحب سوى نفسه المستغلة، ويعيش كالبق يمتص دماء الآخرين، ويفعل كل شيء ليحصل على حصته من الغنيمة كي يشبع رغباته الدنيئة، وهو بهذا خادع لجميع الرفاق من حوله فلم يكشف الكاتب خيانته إلا في الفصل الأخير من الرواية؛ ليكشف اللثام عن طعنة الظهر العميقة للرفاق ممن كان يدعي أنه صاحب وقريب، وتلك لعمري هي القشة التي قسمت ظهر البعير، وفرقت الجمع وأنهكت البلاد.
الشخصية الثانية : نبيل السينكو (اليسار)
كان نبيل خيط السبحة الذي يربط بين خرزاتها، وهو في الرواية رمز لليسار التونسي (حركة النقابيون الثوريون و حركة الجبهة الشعبية التونسية التي ستتأسس سنة 2012 )، وقد كان نموذجا للمثل العليا التي يتميز بها الإنسان التونسي، وهو بهذا يشبه تونس الجميلة المترعة بقيم الحرية والعدالة والكرامة والتقدم الثقافي والفكري، والتجربة الديمقراطية العتيقة.
لم يتفق الشلة على حب أحد كما اتفقوا على حبهم لنبيل؛ فقد كان محبا للجميع ويحبه الجميع حتى ألد أعدائه، ومن يختلف معهم فكريا، علما أن الجميع يتوافق معه تقريبا إلا علي، وبحكم ثقافته ومروءته وهمته العالية فقد كان جاذبا للعنصر النسائي في الرواية خصوصا تلك النسوة اللاتي يفتقدن للعمق الفكري والشخصية القوية كفاطمة وسناء، وكان عنصرا طاردا لمن يتصف بالأنانية وحب الذات كخليل بصورة واضحة وعلي بصورة خفية بحكم التنافس على النفوذ الطلابي.
هو المتمرد الرافض لما آلت إليه أحوال البلاد من فساد في كل مجالات الحياة، لكن لم يكن يملك الإجابة عن السؤال المعهود في هذه الظروف (ماذا بعد؟) وهل سيكون هو وحزبه البديل؟ أم أن هناك من هو أقوى تنظيما منه وتغلغلا في تفاصيل الحياة التونسية بحكم المظلومية والإبعاد؟. لكنه رحل مبكرا قبل أن يتمكن من الإجابة عن هذه التساؤلات، رحل كما رحل اليسار نفسه؛ مرض من الداخل فضعف وهزل، ثم اختفى وتلاشى محافظا على كلاسيكيته العميقة في نفوس محبيه دون تجديد، ولعل هذا ما أراد أن يوصله لنا الكاتب من خلال رحيل شخصية نبيل السينكو مبكرا.
الشخصيتان: منير بن مبروك (كوجاك) (أبو عبدالله التونسي) وطارق التومي (أبو عزام )
متشابهان في كثير من الصفات الجسدية القوية؛ فمنير رياضي ومقاتل قوي وطارق ثائر بقوة ثور، لكنهما شبيهان أيضا في تحولهما من بلابل تغني في ربيع تونس حبا في الحياة إلى طيور الظلام وغربان الشؤم؛ تحول كبير طال هاتين الشخصيتين بحكم الإحباط واليأس من التغيير؛ فقد تغيرت البلاد من فساد إلى فساد من نوع آخر أكثر وأشد فتكا بالمجتمع.
منير الذي كان رياضيا محبا للحياة، ومقاتلا شرسا همه أن يثبت نفسه كرياضي تونسي لا يشق له غبار وحري بتمثيل تونس في المحافل المحلية والعالمية حبا ببلاده على طريقته الخاصة، لكن الفساد والمحسوبية المتغلغلة في البلاد والتي طفت على السطح مؤخرا بحكم الفوضى في كل المجالات جعلت منه إنسانا ناقما ومتشائما لأبعد الحدود خاصة بعدما حالات الظروف بينه وبين زوجته الأجنبية وابنه في بلاد الغربة، فوقع ضحية بيد المتطرفين لتحوله إلى ذئب من ذئاب الليل التي باتت تعوي في كل مكان شرقا وغربا.
وهذا طارق الميكانيكي العتيق الذي كان جبلا يتكئ عليه ابن قريته نبيل في النوائب ماديا وجسديا، كان مفعما بالحياة والحب ومغرما بمحبوبته الممتلئة وغارقا بالنبيذ والعرق، يتحول من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين حيث التطرف والإرهاب، بعدما لعب بعقله علي، واقنعه أن الإسلام هو الحل الأمثل للبلاد.
حال هذين كحال ربما كثير من الشباب؛ كتل جسمية هائلة وعقل صغير يمكن أن يقتنع ويتأثر بأي فكر ثائر أهوج لا يبالي بالنتائج ولا يفكر في العمق ولا يعترف بالمستقبل؛ فهو يعيش اللحظة بكل تفاصيلها الدموية لأن حدود عقله لا تتعدى أنفه.
الشخصية الخامسة : سناء خمسين (أم خطاب)
سناء رمز للضياع والتيه، سلعة تبيع نفسها للعابرين بثمن بخس، خانت زوجها المهاجر في فرنسا و الذي يعدها متاعا بقية أمتعة البيت، تحولت بشكل رهيب إلى رمز للوفاء والمحبة والصحبة الوفية بعد حبها الشديد لنبيل، فباتت البلسم الذي يداوي جرحهم ويواسيهم في الليالي الحالكة، رغم أنها عادت إلى سيرتها الأولى بعد رحيل نبيل، وتحول البلاد إلى شريعة الغاب والفوضى غير الخلاقة، ثم صارت أخير في أقصى اليمين بعدما تحولت من سناء وضياء إلى أم خطاب متأثرة بتغييرات عصفت بالمجتمع بأسره.
تعد شخصية سناء الشخصية المعاكسة تماما لشخصية ليلى تلك الفتاة الواعية المثقفة التي تعرف حقوقها جيدا وتمتلك شخصية قوية ومؤثرة، بينما سناء شخصية عاطفية تفكر برغباتها وجسدها أكثر من عقلها ولذلك كانت عرضة للتغيير الكبير عندما أحبت نبيل أولا فأصبحت تعرف قدر نفسها، وتقدر معنى الصحبة والعطاء والوطن، لكنها عادت كما كانت بعد أن فقدت رغبتها في التغير أو فقدت الأمل في التغيير، خاصة بعد أن سيطر الإسلاميون على الحكم وقاموا بحبسها بتهمة البغاء والقتل، ثم تحولت إلى أم خطاب بعدما أقنعها علي أيضا بزواجها من منير وسفرها إلى الخارج كمتطرفة تقوم بأعمال تخريبية خارج البلاد.
تعتبر سناء من أكثر الشخصيات واقعية فهي تشبه تونس التي كانت تنام في أحضان الفساد والظلم، ثم صارت مرتعا للظلام والفوضى العارمة.
الشخصية السادسة: علي (بذرة الميلاد والموت)
هو الوجه الآخر لنبيل السينكو المناقض له في الفكر والرؤية رغم الصحبة والملازمة، لكنه تغير مع توالي الأحداث ليلعب دور المكمل لنبيل السينكو كمجمع وملمم لشتات الرفاق ولكن على طريقته الخاصة المتميزة بالمكر والدهاء والبراجماتية والاستغلال فبعد أن عصفت بهم الأحداث عصفا شديدا، يأتي علي العقل البتول بصورة المنقذ والمخلص لينقذهم من وحل الظلم والضياع، وهذا ما يفرقه عن نبيل الصادق في مشاعره المحب لرفاقه ووطنه تونس يحب أن يراهم في أجمل صورة وأبهى مكانة، لكن علي يرى وطنا آخر يمتد خارج الحدود وأهدافه بعيدة ضمن مشروع إقليمي وعالمي كبير.
نشأ علي نشأة براجماتية الطبع، فقد عاش طفولته محبا ومتعلقا بفتاة يهودية وكان يذهب إلى حضيرة أبيها المليئة بالأبقار والجواميس والقابعة في الجنوب التونسي، وبحكم الجيرة كان يلعب مع سيسيليا الطفلة اليهودية ويتحدث مع أبيها مينوش،، لكن ظروف الحياة ستفرقهم، فقد ذهبت الفتاة إلى إسرائيل، لتنقطع العلاقة مؤقتا، لأنهما سيلتقيان لاحقا في بروكسل ويستذكران مع أبيها الأيام الخوالي ليظهر الأب حبه الكبير لتونس في محاولة من الكاتب لإبعاد اليهود التوانسة عن المشهد الإسرائيلي في فلسطين المحتلة، تقول الدكتورة اليهودية سيسيليا في نهاية الفصل السادس ص 298 (لم نربح من إسرائيل سوى قبر!).
تذكرني شخصية علي اليحياوي بشخصية علي في التغريبة الفلسطينية الذي كان يعد نفسه سارقا لأحلام أخيه حسن الذي رحل مبكرا مستشهدا في حرب 1936 ضد الانتداب البريطاني؛ فقد أخذ منه فرصة التعليم في القدس كبداية ثم دور المثقف والمؤرخ فيما لحق من تفاصيل الشخصية. وعلي هنا سرق من نبيل السينكو كل شيء تقريبا بعد رحيله، فقد أحب فاطمة في آخر الرواية، وجماعته احتلت المشهد السياسي في البرلمان، وأصبح هو المحرك الأساسي لأحداث الرواية بعد موت شخصية نبيل.
وإن كان نبيل يمتلك عقلا نيرا وشخصية أخاذة تجذب الطلاب حوله بثقافتها الواسعة، فإن علي كذلك لكنه يعمل في الظل وبدبلوماسية عالية الجودة والدقة، فقد كان متماشيا مع أعضاء الشلة في كل التصرفات والسلوكات إلا أن ثمة ما ينبهه من الداخل ألا وهو فكرة (الإسلام هو الحل) الجملة التي نمت وكبرت وترعرعت معه بشكل يتوافق مع شخصيته الدبلوماسية والبراجماتية والتغلغلية - إن جاز التعبير – وهذا ينسحب على جماعته بطبيعة الحال.
نبيل صانع البدايات وعلي صانع النهايات وبين البداية والنهاية آهات وآهات وآلام وضياع واندثار.
الشخصية السابعة : فاطمة لبيض (فاكهة الرواية)
تعد فاطمة فاكهة الرواية اللذيذة، فالقارئ يستمتع بوجودها وتعلق الشخصيات بها، وهي رمز للبراءة والسذاجة؛ فهي نبت أولئك الأغنياء الذين لا يكترثون بالآخرين، لكنها تحولت إلى بنت البلاد بحق منتمية لها رغم تكوينها وشكلها وسذاجتها البعيدة عن تونس كليا. نضجت فاطمة على مهل وبهدوء جميل مع تنامي أحداث الرواية لتصبح البذرة الحلال التي سقيت من تضحيات الرفاق؛ فكلهم ضحوا لحمايتها ورعايتها والمحافظة عليها حتى أصبحت في آخر الرواية الأمل الأخير الباقي من شخصياتها متشاركة مع الشخصية الظل (ليلى الساعي).
فاطمة البيضاء الناصعة الجميلة البريئة التي ولدت من تزاوج بين تونسي وبلجيكية، والتي يحبها الجميع ويفتديها هي في نظر الكاتب والمتلقي تونس الخالية من ترسبات الماضي الكلاسيكي الفاسد، والبريئة من السواد الحالك الذي صبغ البلاد، تونس الناصعة البياض كقلب فاطمة التي أحبها اليساري (نبيل) وأنقذها الرياضي (منير ) والثائر الهائج (طارق) واستدرجها اليميني في نهاية الرواية ليحقق مآربه ومصالحه العابرة للدول والقارات.
الشخصية الظل (ليلى الساعي) (الليبرالية)
ثمة شخصية في الأفق لم يفرد لها الكاتب فصلا خاصا مستقلا كبقية الشلة، هي رمز للمرأة التونسية والعربية الحرة القوية الصلبة الشرسة التي تنتفض دفاعا عن حقوق المرأة، ظهرت في بداية القصة كواحدة من شلة الأصدقاء مدافعة عن فاطمة ومحبة لرفاقها، ثم اختفت لتظهر من جديد في نهاية الرواية مدافعة عن فاطمة أيضا ومحذرة من خطورة الرجل الزئبقي علي، راسمة طريق الأمل لغد مشرق من خلال قيم الحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان.
فاطمة وليلى تلتقيان في آخر الرواية كآخر ما تبقى من شلة الآمال والطموحات والأحلام الكبيرة بتونس حرة قوية، في محاولة من الكاتب لبث روح الأمل لدى المتلقي لإعادة تشكيل المسار قبل فوات الأوان فيجعل المتلقي التونسي والعربي شريكا في رسم خيوط المشهد المفتوح على أكثر من نهاية .....
قضايا:
عرجت الرواية في صفحاتها على بعض القضايا التي تهم الشباب التونسي خصوصا والشباب العربي عموما ومنها
أولا: تبخر أحلام الشباب في التغيير بعد تجربة مريرة دامية في بعض الأحيان نتيجة قلة الخبرة واستغلال بعض الجماعات الظروف لركوب الموجة واختطاف الأحلام البريئة في التغيير.
ثانيا: تسليط الضوء على حالة الفساد الكبيرة التي تغلغلت في تونس بعد أن هرمت الدولة وتراجعت لصالح مجموعات الفساد الداخلية والخارجية.
ثالثا: ترهل وضعف وكلاسيكية الأحزاب السياسية العتيقة في البلاد فبات قادتها كهياكل عظمية قليلة الحركة وأدبياتها تتردد كنشيد الموت كما هي دون تغيير.
رابعا: نظرة المستثمرين ورموز الاستعمار الاقتصادي الفوقية لأبناء البلاد، على الرغم من أنهم ينهشون من خيرات بلادهم ويتمتعون بها فيها.
خامسا: التعايش بين اليهود والمسلمين في تونس فهم على الرغم من ذهابهم إلى فلسطين المحتلة أو هجرتهم إلى الغرب إلا أنهم ما زلوا يحبون تونس، وما زال الكثير منهم يعيش فيها بأمن وأمان وحقوق كاملة.