بلاغة الرافعي
إن قيمة مصطفى صادق الرافعي في تراثنا العربي لم تكن مجرد وليدة كلمة بليغة، وتعبير رصين، وخيال جميل يربط بين الأشياء في خفة ورشاقة وروعة.
لكن تلك القيمة العالية تتلخص أيضا في فلسفة ونظرة للكون والأفعال والأحوال من منظور جديد مبتدع مبتكر موفق، يقنع القاريء، ويضحد حجة كل رافض ومعارض.
وعند قراءتك لمقال ما للرافعي تشعر وكأنك تلقى بيديه في جوف الأحداث، تستمتع برحلة سهلة ممتنعة من الإبداع، ابتكرها ببلاغته وحلاوة أسلوبه ... تجعلك ترتشف حديثه وكأنه كوب من اللبن الدافئ الذي تشتاق إليه كل صباح كالأطفال...
وللرافعي في كتابه العبقري ( وحي القلم ) مقال بعنوان ( الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام )، سنقوم بجولة سريعة حوله،نشاهد فيها كيف رسمت ريشة الرافعي البلاغية صورة جديدة للنبي والإسلام، وبمهارة ربط أحداث حياة الإنسان وتاريخه بحياة الطبيعة وتاريخها .. في أسلوب بديع لا يمل منه القاريء .. ولا يصيبه زيغ في الأفكار..
ولقد كثرت المقالات والكتب والدواوين التي مدحت الحبيب صلوات الله وسلامه عليه، ولكن للرافعي فلسفة جعلت من كلمه حَب غرسه في قلب كل قاريء لتضاعف محبة النبى في قلبه، وترتكز قيم الإسلام ببلاغة وصفه، وعبقرية تشبيهاته وتعبيراته،و تتعمق نظرتنا وأفعالنا كمسلمين ..
ففي مقاله جعل الرافعي الحبيب المصطفى والشمس وجهان لعملة واحدة حيث قال فيهما ( فكما تطلع الشمس بأنوراها فتفجر ينبوع الضوء المسمى بالنهار، يولد النبي فيوجد في الإنسانية ينبوع النور المسمى بالدين .. )
ويستمر في الربط بينهما ليجعل كل منهما حامل للطابع الإلهي الذي يحول ويغير ويجدد في الأرض وفي النفس الإنسانية ..
وفي موضع أخر، وبمهارة واتقان وحرفية، يربط الرافعي بين المصطفى وفن البلاغة، ليقول أن الإسلام بأسلوبه قد جعل النبي إنسانا واحدا فن الناس جميعا،( كما تكون البلاغة فن لغة بأكلمها ... )
ويأتي فيشبه الحبيب بالرجل الذي يفسر كل ما مضى وكل ما هو آت، ( وتظهر به حقائق الآداب العالية في قالب من الإنسان العامل المرئي .. )
وعن فلسفة الشهادة، يقول الرافعي أن لها مهمة غاية في الأهمية تتلخص في أنها تجعل نفس النبي أبلغ نفوس قومه، وتجعله نموذجا نفسانيا يصلح الوضع المغلوط للبشرية في هذا العالم المادي الذي يتنازع البقاء ...
فتلك الفكرة التي تقوم عليها محبة المسلمين للنبي صلوات الله وسلامه عليه يلح عليها الرافعي بقلمه المبدع .. ويصوغها بأشكال شتى ليتشربها قلب وعقل المؤمن، وتقتل الأقاويل الباطلة في حق نبينا محمد ...
وبعد ذلك وبخفة ورقة، ينقلنا الرافعي ليتحدث عن الإسلام كدين ( يعلو بالقوة ) ويدعو إليها، ولكن شريعة الإسلام تختلف عن شريعة القوة، فالقوة تعز القوي وتذل الضعيف، ولكن قوة الإسلام ترتفع بالأضعف إلى الأقوى، وبقوة الطبيعة تسود الطبيعة، إنما بقوة الإسلام تسود الفضيلة ...
وكما هو ملاحظ في حديث الرافعي أنه ينظر للشريعة الإسلامية ولحكمة إرسال خاتم المرسلين بنظرة عميقة غير معهودة زاد من جمالها بلاغة قوله التي اكتسبها من بلاغة الحديث عن الإسلام .. ونلحظ أن الرافعي أيضا يقوم بدور حائط صد إسلامي يجعل من عباراته قذائف يقذفها فوق رءوس المعارضين والمحتجين على فلسفة الإسلام العميقة ...
وحين سادت الفضيلة بفضل قوة الإسلام جاءت فلسفة الحلال والحرام ، تلك التي طبعت على الفضائل صورة الجنة ، وعلى الرذائل صورة النار الأبدية التي وقودها الناس والحجارة ...
وكما يقول الرافعي أن تلك الفلسفة قد كونت عقيدة راسخة في قلب المؤمن جعلت منه قلبا مسالما ...
( يخلع الدنيا ويسخر بكل مضنون فيها، فيعف عن كثير، ويعرف الإنسانية ويطمع في غاياتها العليا، فيعفو عن كثير، ويدرك أن الحلال وإن قل فوراءه حسابه، وأن الحرام وإن غر فليس إلا تعلل ساعة ذاهبة ثم من ورائه عقاب الأبد ... )
وينتقل الرافعي بشكل منطقي ونفسي وكأنه يحاكي القلب والعقل معا بنفس الثقة ونفس المنهاج، ليجعلنا نعرف أن الإسلام قلب وعقل معا، لا قلب وحده، ولا عقل وحده، فهو دين الكمال والاكتمال والتكامل ...
ينتقل بنا إلى حكمة الملكين على يمين ويسار الإنسان، ويصفه الرافعي في هذا الحال ( بالمتهم المستراب به )، وعلى الرغم من أن هذا الوصف قد يشعرك للوهلة الأولى بالصدمة، إلا أن الرافعي قد بين تلك الحكمة بمنتهى الرقة التي تجعلك تتقبل الصدمة وتطلب المزيد منها، فهي أرحم وأجمل حكمة في هذا الكون ألا وهي ( أن يكون أكبر أغراض الإسلام هو أن يجعل من خشية الله تعالى قانون وجود الإنسان على الأرض ) .. ويقول الرافعي أن وجود الملكين يخلق بداخل قلب وعقل العبد قانون ( الإرادة المميزة ) التي تميز بين الحسنات والسيئات ، فترغب في الأولى وتسعى إليها، وتبتعد عن الثانية وتجتنبها، فبذلك تتحقق سيادة الفضيلة بالقوة الإلهية العظمى التي تولد الخشية ...
ويوضح الرافعي أن هذا الدين إلى جانب أنه دين قوة، فهو دين سلام ... ( فليس يعم السلام إلا إذا عم هذا الدين بأخلاقه فشمل الأرض أو أكثرها، فإن قانون العالم حينئذ يصبح منتزعا من طبيعة التراحم، فإنا انتسخ قانون التنازع الطبيعي، وإما كسر شرته، ويولد المولود يومئذ وتولد معه الأخلاق الإنسانية ) ....
وعن مشقة النفس البشرية في تنفيذ ما يفرضه الإسلام عليها ... يقف الرافعي كحائط صد إسلامي ليرد به كل الشبهات التي تطعن الإسلام وتحاول تشكيك معتنقيه به، من أن الله رحيم لا يريد أن يتعب ويؤذي البشر بأعمال صعبة ... قال الرافعي ...
( إن فلسفته – أي الإسلام – أن هذه النفس هي أساس العالم، وأن النظام الخلقي هو أساس النفس وأن العمل الدائم هو أساس النظام، وأن روح العمل الدائم تكون فيما يشق بعض المشقة ولا يبلغ العسر والحرج، كما تكون فيما يسهل بعش السهولة ولا يبلغ الكسل والإهمال ) ....
أما عن الضالين الذين يغارون من فرط محبتنا لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه، ويحاولون أن يقنعونا بألسنتهم المريضة بأن هذا شرك بالله، يقول الرافعي أن كثرة ذكره ومحبته تجعل قلوب المسلمين في حالة تعلق دائم به وكأنه حي لا يموت ... يقول
( فيمتد الزمن مهما امتد والإسلام كأنه على أوله، وكأنه في يومه لا في دهر بعيد، والمسلم كأنه مع نبيه بين يديه تبعثه روح الرسالة، ويسطع في نفسه إشراق النبوة فيكون دائما في أمره كالمسلم الأول الذي غير وجه الأرض .... )
صدقت يا كاتبنا وصدقت بلاغتك وحكمتك ...
والله لو أننا تأملنا الإسلام بهذه المحبة وهذا التأمل العميق الذي يمتد ركازه داخل الفطرة السليمة، سنجد الإسلام حي دوما في قلوبنا، ولا نهين حبيبنا المصطفى ألفا بسبب بالخروج عن سنته، وتتحقق فينا بحق كلمة الله بأننا خير أمة أخرجت للناس ...
يستطيع كل منا أن يكون الرافعي في تأمله ... وما أبلغ تأمل دين قويم كهذا سيغيرنا لنغير الكون كله ....