بين عناء الجاذبية وراحة النسبيّة....
في ليلة هادئة نادرة من نوعها ... خالية من قلق مزمن وهمّ عميق... ليلة إبتهجت فيها أطراف السماء بأشعة قمر ضاحك ... تسللت روحي في أعماق الفضاء، فوصلت عالما مجهولا لا أدرك أبعاده....أخترقت أقطار الحقيقة وأقتحمت عالما آخرا تختلف فيه التفاصيل.... في تلك الرحلة الغريبة تكشفت عندي أسرار وأمور وتوضحت لي ألغاز وتساؤلات....
كنت كيانا بلا جسد وإحساسا بلا حواس ومتعة من غير ألم.... في ذلك المكان الساحر الغريب إنتبهت من حالة اللاوعي وأستيقضت من نوم عميق.... بانت لي الحقائق دون حجاب وتكشفت لي الأمور دون تحفظ، فوعيت على حالي وعلى أحوال الآخرين فدمعت عيني واهتزت مشاعري!
تجولت في أركان ذلك العالم البهيّ وبأرجاء تلك المدينة مترامية الاطراف التي تزيل عنك الهم وتشرح لك الصدر، فكل ركن بها مشرق وكل طرف فيها بهيج . سرت في ثناياها واثق الخطى، متفتح الذهن ، خفيف الظلّ، منبهر الخاطر.....
تساءلت مع نفسي بغرابة : أين أنا وكيف جئت الى هنا ولماذا أتيت !؟ لم ألبث مع دهشتي وتساؤلاتي إلاّ هنيهة حتى مرّ شاب في مقتبل العمر بالقرب مني، إغتنمت الفرصة وسألته بلطف:
– أيها الشاب الكريم، هل لك أن تدلّني عن إسم هذه المدينة!
أجابني بكل أدب واحترام : إنها المدينة الفاضلة ياسيدي.
إستغربت من جوابه وسألته ممازحا : أتعني جمهورية إفلاطون!
هزّ رأسه بالإيجاب ، ثم أشار لي بيده صوب قصر أبيض تكاد قممه تناطح السحاب وقال : ذلك هو بيت إفلاطون.
لم أصدق ما قال حتى طرقت باب ذلك الدار وأنا أبحث عن الحقيقة!. خرج لي إفلاطون بنفسه، بشكله المهيب ولحيته الطويلة وملابسه الوقرة وقبعته الحريريّة التي يعلوها وجه مطرّز بالزمردج. إستقبلني بروح شفافة وبأخلاق عالية وبإبتسامة علوية. دعاني للجلوس في شرفة تطل على قارعة الطريق. حمل لي كأسا من الماء لم أذق مثل طعمه من قبل... إنتعشت نفسي ونشط تركيزي فدار حوار شيّق بيننا.... سألته:
– أيها الشيخ الوقور، حدثني عن التفاصيل.... فأنا ضيف جديد لا أفقه شيئا مما أسمع ولا أستوعب شيئا مما أرى، فكلّ ما أسمع غريب وكلّ ما أرى عجيب....
مسك لحيته البيضاء بيده ثم رفع حاجبيه وشخص عينيه صوبي بعدما كان ينظر صوب الأرض وقال:
– إعلم ياولدي بأنني فشلت في بناء المدينة الفاضلة حينما كنت في عالم "الجاذبية"، ولكنني أفلحت في تأسيسها في عالمنا هذا عالم "النسبيّة"، هذا العالم الحر الطليق الذي فيه الأرواح حرّة طليقة غير محجوزة في جسد وغير مرهونة بمتطلبات مادة.
سألته: ومن هم سكان مدينتك هذه أيها الشيخ الفاضل؟
أجاب: سكان هذه المدينة هم: العلماء الأتقياء، والحكماء النزهاء والأفاضل والمخلصين.
سألته: ومنذ متى أسست هذه المدينة؟
أجاب: منذ أربعة وعشرين يوما أي بعدما غادرت عالم الجاذبية مباشرة.
سألته باستغراب : بل أنت غادرت عالمنا منذ الفين وأربعمائة عاما!
قال: نعم يا بني فان أوقاتنا ليست كأوقاتكم وسنيننا ليست كسنينكم.
في تلك الأثناء وفي عمق الحديث مرّ رجل وقور من أمام شرفة المنزل وكان يسير خلف قرد. إلتفت لي إفلاطون وقال : هل تعرف هذا الرجل؟. أجبته : لا يا سيدي من هو !؟. قال : أنه العالم القدير داروين فهو يسير خلف أستاذه.
بسرعة البرق إنطلقت صوب الرجل أعانقه وأقبّل فيه. طلبت منه أن يسمح لي ببعض الوقت، أن يجيب عن بعض تساؤلاتي.... وافق داروين على إلتماسي له وقبل أن يبدأ الحوار قدّم لي القرد وقال : أعرفك أولا على أستاذي .
قلت مستغربا : وكيف يكون القرد أستاذك أيها العالم الجليل!؟.
ضحك داروين وقال : في عالم الجاذبية قد إرتكبت ثلاثة أخطاء في نظرية "التطور والإرتقاء"، إكتشفت هذه الأخطاء في عالمي الجديد عالم النسبيّة.
قلت: وما هي أخطاؤك يا سيدي؟
أجاب: الخطأ الأول في نظريتي هو أن جعلت الإنسان ينحدر من سلالة القرود وهذا غير صحيح، لأن عمليّة التخصص في صنع الأنواع تبدأ بشكل مبكر أي منذ بدايات نشوء الخلايا الأم. هذه الخلايا لها قابلية التخصص، أي كلّ خلية منها تتخصص وتنتج صنفا أو نوعا من الكائنات. فالخلية الأم التي تنتج الإنسان هي ليست نفسها التي تنتج القرد، بل أن الإنسان ومن خلال مراحل تكوّنه يمر بأطوار يشابه فيها الكائنات الحيّة الأخرى ومنها القرود. ففي المراحل شبه النهائية من مراحل تطوّر الإنسان شابه فيها القرد في شكله لكنه ليس متحدر منه ولا من نفس خليّته الأم، وهذا الذي تراه أمامك هو أنا حينما كنت أشبه القرد أي في المرحلة المبكرة التي صرت بعدها إنسانا.
قلت ولماذا سميته أستاذك أيها الفاضل ؟.
قال : لأنني حينما كنت في هذه المرحلة كنت أكثر طيبة وأرقى تصرفا وأنقى روحا. كنت أتعايش في سلم وسلام مع غيري، لا أكره أحدا ولا أظلم أحدا ولا أغتاب أحد. وحينما أصبحت إنسانا صار الغدر شيمتي والأنانية خصلتي والخداع ناموسي. وهكذا إنتبهت على خطأي الثاني وعرفت أن الإنسان ليس أرقى من باقي الكائنات في أخلاقه وتصرفاته.
قلت وما هو الخطأ الثالث أيها المعلم الكبير؟
قال : الخطأ الثالث هو أني لم أذكر الروح في نظريتي، بينما الروح هي أساس الوجود ومن غير الروح لا تتحد العناصر مع بعضها لتكوّن المركبات ولا المركبات مع بعضها لتكوّن الخلايا ولا الخلايا مع بعضها لتكوّن الأنسجة ولا الأنسجة مع بعضها لتكوّن الأعضاء ولا الأعضاء مع بعضها لتكوّن الكائن الحي. فالمادة المجردة من الروح لا تنمو ولا تتطور، الروح تحفز المادة وتدفع بها نحو التطور والنمو، ومن غير الروح تبقى المادة على حالها كما هي.
وبينما كنت أصغي بكل جوارحي لما يقوله داروين، مرّت زحمة من الناس وهي ترفع السيوف وتقرع الطبول وتشتم بالمارة وتلعن فيهم. كان قائد هذه المجموعة رجل أسمر نحيف الجسد قصير القامة يشبه الى حد كبير الزعيم الهندي الراحل الماهاتما غاندي.
سألت داروين من هم هؤلاء وما هو شأنهم.....؟ أجاب : هؤلاء أصدقاء غاندي يخرج بهم كلّ يوم من أجل الإثارة والفتنة.
بإستغراب شديد سألته : ومنذ متى قد غيّر غاندي أسلوبه!؟ فهو رجل اللاعنف ، كيف إنقلب في عالمكم الى رجل عنف!.
تبسم داروين بوقار وقال : إن غاندي قد نجح في إستخدام اللاعنف في عالم العنف، واليوم يريد أن يجرب العنف في عالم اللاعنف.
قلت : وماذا تبيّن له من تجربته هذه لحد الآن؟.
قال : في عالم اللاعنف يفشل العنف في صناعة العنف، لأن العنف حصيلة عوامل التخلف والمصالح والأنانيّة.... في عالمنا لا دور لهذه الأمور يا ولدي، فالناس هنا لا تستجيب لعنف غاندي .....
وعلى حين غرّة مسك داروين بيدي وقال لي هلّم بنا يابني لنذهب الى مقهى "الحقيقة" فهي مقهى جميلة تقع في وسط المدينة، سترى هناك أكثر المشاهير والعظماء فهذه فرصة سانحة لك.... همت من الفرح وتمنيت لو أطوي الطريق طيّا، فما أروعها من مناسبة وما أحلاها من فكرة!.
على باب تلك المقهى الساحرة شممت عطورا تزكي النفوس وسمعت أنغاما تبسط الأرواح وشاهدت أمواجا من النور تقود الداخلين الى أماكن الجلوس، فدبّ في جسدي إحساس غريب لم أحس بمثله من قبل. كانت الطاولات المستديرة تملأ المكان والناس جالسون على هيئة مجاميع يتحاورون بعمق وإستئناس. تحوم بينهم فتيات ساحرات كالحور العين يملأن الأقداح الفارغة وينثرن بسمات تخطف الألباب.
كنت مذهولا بما أرى، تائه النظرات، هستيري الحركات، مبحوح النبرات...حتى قاطع ذهولي داروين عندما قال : أنظر الى تلك الطاولة ففيها يجلس ديكارت وغاليلو ونستروداموس. التمسته أن نشق الطريق اليهم كي نستمع لما يقولون.....كان ديكارت يتحدث عن الفكر والإحساس، فسمعته يقول : إنني أخطأت حينما كنت في عالم الجاذبية فجعلت الفكر أساس الوجود. الإحساس في الحقيقة هو أساس الوجود وما الفكر إلاّ وسيلة من وسائل الإحساس، فهو أداة لكسب إحساس موجب أو لتجنب إحساس سالب. فالحيوان والنبات كلّ منهما موجود والفكر ليس أساس في وجودهما، لكن الإحساس هو الأساس. فإن قلت سابقا " أنا أفكر فأنا موجود" فأني أقول اليوم " أنا أحس فأنا موجود". في أثناء هذا الحديث جاءت إحدى الحسناوات فهمست بإذنه مما دعاه للإعتذار والمغادرة دون أن نعرف الأسباب....
كي لا تضيع الفرصة، التفتت مباشرة الى غاليلو وقلت له : يا شهيد العلم ومصحح الأفكار يا ربيب المعرفة ومدرك الأسرار لدي أسئلة حيرت فكري وأفكار الآخرين علّك تجيبني عنها فأزدان بمعرفتك وأكتحل بعلمك....
أجاب: قلها فنحن لك سامعون...
شكرته وبدأت أول أسئلتي له وكان عن سر وجود الثقوب السوداء التي تنتشر في عمق الكون..... أجاب: إعلم يا ولدي بأن الكون قد تكوّن من نقطة الصفر الكوني وكان قد نشأ من ذرة مادية واحدة ما لبثت أن تكاثرت وأنتشرت فحصل الإنفجار العظيم وأنبعثت الكواكب والنجوم وتمدد الكون على حساب الصفر الكوني. هذا التمدد لم يكن جسما هندسيّا منتظما وإنما متعرجا له أخاديد وتجاعيد يتسلل الصفر الكوني فيها. فحينما ترتطم الكواكب في أخاديد الصفر الكوني والتي تسمونها أنتم " الثقوب السوداء" تصبح جزءا من الصفر. كما تضرب القيم العددية في الصفرالعددي فتكون النتيجة صفرا.
وبينما كنّا منغمسين بعمق هذا الحديث الشيّق حصل إنفجار هائل إهتزت له أركان تلك المقهى، فسقطت الصحون والأقداح على الأرض من شدة الصدمة. توقعت بأنه الإنفجار العظيم أو أن مدينتنا إصطدمت في الصفر الكوني وضاع كلّ شيء!. في الحقيقة لم يكن السبب لا هذا ولا ذاك، فقد إستيقضت من نومي العميق وأنا أسمع شجارا ساخنا في الشارع.... مددت عنقي من الشباك فوجدت سيارتين متلاطمتين وأناس يتشاجرون فيما بينهم، كلّ واحد منهم يقول للآخر أنت السبب!!!.
لعنت الزمن الذي أعادني الى عالم الجاذبيّة بعدما أحسست بطعم النسبيّة! ورحت استرجع ذكريات تلك الرحلة العجيبة الغريبة التي إلتقيت بها بأرواح كثيرة تحررت من عالم الجاذبية ودخلت عالم النسبية....أرواح كانت أحاسيس مطلقة....لا تخلقها المادة ولا تفنيها ...لا تزيد منها ولا تنقص فيها....أحاسيس متحررة من تأثيرات الخلايا وتفاعلات الهورمونات.... مشاعر متجردة من أعراف المجتمعات وتأثيرات التقاليد... مشاعر تنعم براحة الضمير وسعادة الذات وخلود الوجود....مشاعر علويّة باقية لا تنتهي والى الأبد....!
ملاحظة
أرجو انتباه الكاتب لكثرة الأخطاء في الهمزة فأنت تكتب همزة الوصل قطعا مثل
نقول انفجار وليس إنفجار، ونقول انتباه وليس إنتباه ونقول التقيت وليس إلتقيت، نرجو الاطلاع على ملف كتابة الهمزة في ديوان العرب