قبل رحيل الورد.....
دخلتْ مكتبي وعلى وجهها الناعم البريء إمارات الكآبة والتعب... عيونها العسلية تفيض بالدمع ونظراتها الخجلى توحي بحسرة مخنوقة ... عرفت أنها تريد أن تفضي بشيء يضير خاطرها ويؤلم ضميرها ! فهي ومنذ زمن بعيد تعتبرني صندوقا لأسرارها وموضعا لثقتها، تتوجه اليّ دون الآخرين في إفراغ معاناتها وآلامها.
قلت لها ومن دون مقدمات... هيا تفضلي إجلسي و" فضفضي".... ما لخطب !؟
قالت: كتبت رسالة لوالدتي لكنني مترددة في إرسالها، فماذا تقول.....؟
أخرجت الرسالة من حقيبتها ثم استدركت تقول: قبل كلّ شيء يجب ان أقول لك شيئا يتعلق بعائلتي، كي تتفهم الموقف وتنصحني بما تراه مناسبا... والدتي أصغر من والدي بعشرين عاما، ووالدي اليوم يحرق السنة السادسة والثمانين من عمره. لقد خوت قواه وتباطأت حركاته، فصار يستمع أكثر مما يتكلم ويبتسم بدل أن يضحك، فقد أوهى العمر قوته وسلطانه....وبدّل الزمان رونقه وريحانه.... لكن والدتي لا تتقبل أثر السنين.... تريده أن يبقى كما كان في ربيع عمره وزمانه... فكم من مرة انتقدته وكم من مرة زجرته، لأنه فقد نظّارته أو لبس بجامته "على المقلوب" أو لم يسمع ما تقوله له، بعد أن طرق الزمان على سندان أذنه !
مررت يوم أمس لزيارة الأهل قبل أن أتوجه لبيت أخي الذي دعاني لتناول وجبة الغداء معه. وجدت والدي، والذي أسميه بـ " الورد " لطيبته وحسن معشره ولحبه الشديد للورود، لوحده في الدار يتأمل في الورود التي يعشقها ويناجي طيور الكناري.... سألته عن والدتي .... قال : خرجت ولم تقل لي الى أين....!
ودعته وقلت له سأعود اليك بعد زيارة أخي فربما والدتي تكون قد عادت في ذلك الحين...
استقبلني أخي كالعادة بحرارة وترحيب والتف أبناؤه حول رقبتي حبا وأشتياقا.... لكنني فوجئت بوجود والدتي هناك تضحك وتمرح مع الاطفال، مما جعلني أوجه سؤال الاستغراب والدهشة لها : لماذا أبي غير موجود معنا فالجميع هنا مجتمع....!؟
أجابت والدتي وهي ممتعضة من سؤالي الذي حمل سحنة الغضب : أرجوك ابنتي.... أريد أن أكون مرتاحة منه ولو لساعات... لا أريد أن يتعكر صفو لحظاتي الجميلة معكم ومع الأطفال، فوالدكم صار لا يحتمل!
كان جوابها طعنة في الخاصرة.... شعرت بحريق في داخلي .... كدت أختنق.... لم أتمالك نفسي فطلبت من أخي أن يعذرني لأنني أريد الخروج......
رجعت لوالدي بنفس تائهة أسأله عن أحواله .... عن أموره ....عن تفاصيل حياته.... أجابني واليقين يسري في عينيه : كلّ شيء على ما يرام يا ابنتي الحبيبة... كل شيء جميل كجمال قلوبكم.... فأنا سعيد معكم ومسرور فيكم ..... سعيد لأنكم أبنائي وفلذات كبدي وقرر عيني.... ومسرور لأنكم تتحملوني رغم خريف عمري وثقل سنيني.... وهشاشة عظمي وارتباك شؤوني .... ولأن والدتك الوفية هي زوجتي ومهجة قلبي ونورعيني .....فقد جفت عصاراتي ولم تجف دموعكم عني.... وضعف بصري ولم تضعف بصائركم مني.... واختفت نظراتي ولم تختف نظرات حبكم وعطفكم نحوي.... فأنتم ذلك النسيم الذي يلطف حرارة نفسي... وأنتم ذلك النعيم الذي يزيل هموم العمر عني..... بارك الله فيكم وجزاكم الف خير.
لم ينتقد ولم يتأوه بل بجّل ومدح......!
تركته بعد ان طبعت قبلة حب وإكبار على وجنته وقد إغرورقت دموع ساخنة في عيني.....
كتبت هذه السطور لأمي.... أذكرها وأستنشدها، لكنني مترددة في إرسالها خوفا من ردّة الفعل فماذا تقول....؟ وشرعت تقرأ....
أمي العزيزة....
أنظري له رغم "العكاكيز".... رغم فقدانه للذاكرة.... رغم وروده الذابلة وأنواره الآفلة...... فقلبه لا يزال......
أنظري له بتمعن... اليس هو ذلك الرجل الذي قال ملأ فمه أحبك....!؟.
اليس هو ذلك الرجل الذي أختارك من بين النساء شريكة لحياته....!؟.
ألا تتذكرين كم كنت عاشقة له !؟
بالتأكيد..... فقد كان وسيما باسقا مفتول العضلات.....
إمسكي يده.... تفحصي نظراته.... إسمعي قلبه..... أنه نفس ذلك الرجل... نفس ذلك الحب، رغم الصمت ورغم السكون....
إجلسي جنبه وتذكري جيّدا كل اللحظات الجميلة التي شاركتيه فيها.... الحب.... السعادة.... اللذة والألم....
قولي له أنا دائما بجنبك....مخلصة لك.... مؤمنة بحبك....
في يوم ستنهضين من نومك ولا تجديه....ستجدين الذكريات فقط.....وستناديه وتقولين له: خذ ما تريد وهبني لحظة قرب منك.... لحظة حب... لحظة وجود....
أنا أعرف جيّدا أن الحياة غير سهلة يا أماه.... ونحن لا نقبل العجز ولا نريد السنين المتهاوية أن تعيقنا وتعيق طموحاتنا، لكن عليك أن تعرفي بأن كل شيء يفنى في هذه الحياة إلاّ الحب..... فهو عنوان الحياة على الأرض وهو سرّ الوجود....
أتمنى أن تمنع حكمة الحاضر أسف المستقبل.... وألاّ تعتبري رسالتي هذه جسارة، وتقبلي اعتذاري منك....حبيبتي أمي....
أخذتُ الرسالة من يدها المرتجفة وقرأتها بنفسي مرة ثانية، لكنني لم أستطع أن أمنع الدموع......
وبعد حين .....وفي فجر يوم ساكن، أيقضني صوت الهاتف المحمول وكان بين ثناياه صوت باكٍ يهمس: لقد رحل الورد......!