السبت ٢٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٠
بقلم نايف عبوش

تجليات الشجن في الغناء الريفي

يلاحظ انجذاب جمهور الريف إلى أطوار الغناء ذات الطابع الحزين بشكل لافت للنظر.

ففي الوقت الذي يفترض أن يسعى الإنسان إلى تقليل مظاهر الحزن، وتجاوز المشاعر السلبية في واقع حياته اليومية، ومغادرتها نحو فضاءات أجواء الفرح، والبهجة، إلا أن إنسان الجمهور الريفي اعتاد أن يمارس، ويتلقى الغناء الحزين ، والقصيد الموجع، بولع شديد، وتلذذ كبير، يكاد يتماهى مع أقصى درجات النشوة مع الوجع، عند أبناء الريف، ولاسيما عندما يؤدى الغناء بصيغة لحن، أو عزف على الربابة، أو الناي.

فلا يزال الكثيرون من أبناء الريف والبادية يجدون متعة عارمة في الاستماع إلى الاغاني ذات الطابع الحزين، وخاصة العتابة والنايل، والأبوذية، بل وحتى اغاني الدبكة والحصاد على خفة إيقاعها، حيث تخاطب فيهم مشاعر دفينة، وانفعالات كامنة، تعبيرا عن معاناة متراكمة، شبيهة بما توحيه العتابة، والأغنية الريفية من صور شجية، فهي غالباً ما تثير في المستمع الريفي شعوراً بالمتعة،والوجع، والانتعاش معا، عند سماعها، حيث يسترجع معها ذكريات، ومعاناة أيام زمان ولى، ولن يعود، مما يعين المتلقي، بمثل هذا التفاعل المتعطش، على تفريغ شحنات مشاعر الحنين الكامنة في أعماق ذاته، والتنفيس عن إنفعالاته الدفينة، حتى أننا نجده يردد مع نفسه عفوياً، بعض المقاطع التي يسمعها، وينفث معها الآهات بوجع، وانين شجي، تناغما مع وجد الحال في اللحظة.

ولاشك أن هذا الحس الوجداني الجمعي المرهف، لابد له من أن يتوقد متعة، وانفعالات شجية، بمجرد أن يلامس الغناء الريفي مكنون الدواخل، حيث تستفز العتابة، على سبيل المثال، تلك المشاعر، باقترابها من تخوم وجدان تراكمات الألم، وحافات طيات الوجع، وهو ما يبعث على اللذة والمتعة، والتفاعل الوجداني مع الطابع الحزين للأدب الشعبي، عتابة وغناء، في مواساة حسية صادقة، لانفعالات الذات الحزينة، التي تميز بها الحس الريفي المرهف، نتيجة معاناة مرة، لظروف حياة صعبة، عايشها على مر زمنه الغابر.

وفي شباب ايام زمان، كنا نستمع إلى ايقاع صوت الربابة، وعزف الناي المتميز في الدبكات الريفية بشتى المناسبات، ونطرب لأداء المغني الريفي، وهو يؤدي على وقع انغام الناي العذبة في ذات الوقت أغنياته الشعبية، بألوانها الطربية منها، والشجية، بمفردات حلوة، من نظم تراثي منقول، او مما اعتاد ان يقوله هو بتلقائية في اللحظة، مما تجود به عليه يومها قريحته المتوقدة، وخياله الخصب،الذي ألهمه كل ذلك الحس المرهف، ومكنه من استيلاد مفردات اغنياته في لحظة انقداح ومضتها في وجدانه المرهف، كلما ألهب الحال مزاجه آنذاك، لينقل إنفعالاته الشجية التي عاشها في تلك اللحظة لجمهوره، غناء بصوته، وحركة في دبكته، وعزفا بنايه المزدوج، باقتدار مدهش في الأداء ، لكي تتلائم مع جو المناسبة، فتهز وجدان المتلقين، وتزيدهم وجدا، ومتعة، وتفاعلا.

ولطالما كان مطرب الريف المرهف الحس، يؤدي عزفه على الناي، والربابة، بطريقة متميزة، عندما كان يعمد الى ان يتنقل بإيقاعته الشجية بين أطوار الوجع، والغبطة، بتوافقية عجيبة، تزيدها آهاته المتجانسة مع الحال، متعة عميقة، عندما تمتزج بأنين إيقاعاته الساحرة، مع حس المتلقين، لاسيما وانها تأتي مجسدة لتجليات ارهاصات معاناة حقيقية، لواقع حال بيئة ريفية جمعية مكتضة بالإيحاءات، المرة منها، والسعيدة، عاشها المؤدي والمتلقي معا، بكل متاعبها، لتلهب حس الجمهمور، وتشدهم للإستمتاع العاطفي بتجليات صور تلك الحقبة، بمجرد استذكارها، وملامستها مشاعرهم، ليتحسسوا فيها ذاتهم المتوجدة من جديد، رغم كل ما كانت مثقلة به من متاعب، ومعاناة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى