تخاذل
يصل (خاطر) إلى الحاجز العسكري الرئيسي الذي يفصله عن المدينة بروح مفعمة بالحياة، يحسها تتحرك في جسده النحيل كزيتونة خضراء يانعة، يتذكر صغاره الذين تركهم خلفه في (عَقْد) ورثه عن أبيه الذي رحل منذ زمن بعيد، وحمّله لقب اليتم بجدارة. العقد أو البيت إن شئت أن تسميه، عبارة عن (عليِّة) واسعة، قسَّمتها قطع من القماش المهترئ إلى مساحات منفصلة صغيرة لتكوِّن في النهاية ما يشبه الشقة، يتذكرهم فترتعش زيتونته.
يقف في الطابور، يتحسس بطاقته الشخصية، يراقب جموع المنتظرين؛ غالبيتهم من الطلبة والموظفين، تعلو وجوههم علامات من الألم المكبوت، ينظر إلى الطرف الأمامي من الطابور فيرى المشهد ذاته؛ جندي بعتاده وتجهيزاته الكاملة، وعلى مقربة منه يقف جندي آخر بتحفز... آلة قتل تنتظر فريستها بشغف. يتناهى إلى مسامعه صوت فؤاد، صديق قديم يعمل موظفا في شركة داخل المدينة، عزز هذا الحاجز من صداقتهما، ففي كل يوم يلتقيان هنا، يتحدثان في كل شيء تقريبا، فمثل هذه اللقاءات تتم خارج حدود الزمان، فالوقت هنا مكعبات مفرغة، وعلى جموع المنتظرين ملؤها بما تيسر من مواد متاحة كالكلام، وإذا عزّ المطلوب يتمسّح الناس بالإنتظار الأخرس. يقترب فؤاد منه، يحمل قهوتهما الصباحية المعتادة، يقدمها له، ثم يبادره بالسؤال الممجوج ذاته:
– هل الحاجز سالك؟
– أعتقد ذلك، ولكن مرور الناس بطيء جدا. اشرب قهوتك على مهل.
قبل أن يرتشف قهوته، يحمل فؤاد جهازه الخليوي ويتصل بمديره، ويخبره بحركة العبور البطيئة، لم يكد ينهي المكالمة حتى يصرخ عليه أحد الجنود بنبرة غاضبة:
– أنت. ويشير إليه.
يلتفت فؤاد إليه بارتباك، يغلق جهازه الخليوي، يضع سبابته على صدره، ويقول:
– أنا؟
– نعم، أنت. تعال.
يصل إليه، يطلب منه الجندي رفع يديه، يفتشه تفتيشا دقيقا، ثم يطلب منه بطاقته الشخصية، يقيد يديه برباط بلاستيكي حاد الجوانب، ثم يلقي به في حفرة مسيجة بسياج محكم كأنه متاع بالٍ، يحمل البطاقة إلى جندي آخر الذي بدوره يلقي بها بالطريقة ذاتها بين عشرات البطاقات.
بعد مرور ساعة من تلك الحادثة يصل خاطر إلى مكان التفتيش، يفحص الجندي بطاقته، وفي أثناء ذلك يختلس نظرة إلى صديقه فؤاد، كان ملقى على أرضية الحفرة ووجهه إلى أسفل، وعلى مسافة قريبة يقف الجندي ذاته يراقب تحركاته بدقة. لم تكن مهارة اختلاس نظرة كافية لتشبع فضوله أولتحميه من أحداق حادة الاتساع، بل تتحول إلى طعم ليسهل اصطياده.
الجندي: اسمك خاطر إذن؟!
– نعم.
– رأيتُ... يخرج بطاقة فؤاد ليتأكد من الاسم، فؤادا يقدم قهوة لك. هل هو صديقك؟
– نعم.
– بماذا كنتما تتحدثان؟!
– هل الكلام ممنوع؟
– أنا الذي يطرح الأسئلة هنا. وأكره تكرارها أيضا.
– كنا نتحدث عن مذاق القهوة العربية بنكهة " الهال".
– وماذا كان يقول أثناء مكالمته؟
– لم أفهم شيئا... كان صوته غير واضح.
– لماذا كنت تختلس النظر إليه؟
– كنت أراقب شروق الشمس.
– إنك كاذب بارع ورومانسي أيضا! حسنا سأوفر لك متعة المراقبة على مهل، يشير إلى أحد الجنود، يتقدم بخطوات سريعة، يقيد يديه، ويسحبه بعنف ظاهر إلى الحفرة.
خلال ذلك كانت تشيعه عبارات ساخرة تنطلق من حنجرة أحدهم: حافظ على ذاكرة قوية فأنا متشوق لسماع وصفك لغروب شمس هذا المساء... وتعالت القهقهات من جديد بين جنبات المكان.
لبث خاطر وصديقه فؤاد في الحجز طوال اليوم تحت أشعة شمس حارقة وأيد مقيدة، وبطون فارغة، وإرهاق بالغ.
في الساعة السادسة مساء، وبعد أن فرغ الحاجز من حركة الناس، يتقدم جندي منهما، ويتساءل:
– من منكما فؤاد؟
يرفع فؤاد رأسه، يتقدم الجندي بحذر، يقص الرباط البلاستيكي، ويأخذه إلى الضابط المسؤول، يعطيه الضابط بطاقته الشخصية، ويقول له محذرا:
– في المرة القادمة لن نكون بهذا اللطف... انصرف الآن إلى بيتك ولا تلتفت خلفك.
يأخذ فؤاد بطاقته الشخصية، يحمل جسده المنهك دون أن يحس به، ويغيب في ظلمة الليل. وما أن يختفي عن الأنظار حتى يسمع خاطر اسمه يتردد في المكان، يمسك جندي بمجامع ثيابه بشدة حتى يمكنه من النهوض، ويماشيه حتى يصل به إلى الضابط:
– إذن أنت الرومانسي الكاذب... يقولها بسخرية واضحة.
– حديث القهوة العربية بنكهة (الهال) تغريني باستمرار.
– العرب ليس لديهم شيء مغر.
– لماذا أنت هنا إذن؟!
– لأسكب قهوتك العربية.
– ستنمو من جديد خضراء يانعة...
– ظلمة الليل تغري بالأحلام... ولكن، لسوء حظك، لا وقت لدي لسماعها، عد إلى بيتك، وإياك من اتلاف نباتات قهوتك العربية اليانعة...!!
صدى قهقهات الجنود خناجر حادة تطعنه من الخلف، في حين نظرات التشوق والرجاء التي يكاد يراها تبرق من بين عيون أطفاله تصفع وجهه بقوة الخذلان... يشعر بأنه محاصر تماما، وحلكة الليل تضغط على صدره لدرجة الاختناق، يواصل سيره وفي حلقه مرارة القهوة العربية الأصيلة!!