ترامب ووهم الدولة الفلسطينية
جاءت تصريحات الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، في مقابلة مع الصحافي الإسرائيلي، باراك دافيد، بمناسبة إطلاق كتابه المعنون "سلام ترامب.. اتفاقات أبراهام والانقلاب في الشرق الأوسط"، لافتة للنظر، حيث شنّ هجومًا لاذعًا على رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو، واعتبره أحد أسباب عدم نجاحه في تحقيق صفقة القرن بين إسرائيل والفلسطينيين، ذلك أن نتنياهو، على حد وصف ترامب، لم يرغب على الإطلاق في تحقيق سلام مع الفلسطينيين، ولم يكن جادًا بشأن حل الدولتين، معتقدًا أن "بيبي قد خدعنا"، ولم يُرِد في أي يوم أن يحقق السلام، قائلًا إنه شكّل عقبة أكبر أمام السلام من الرئيس محمود عبّاس الذي أطنب في مدحه، ووصفه بأنه كان مثل الأب بالنسبة إليه، وكان جميلًا ويريد التوصل إلى صفقة. ويضيف ترامب أنه، وعلى مدى أعوام طويلة، قيل له إن إسرائيل ترغب بالسلام، بينما الفلسطينيون ليسوا كذلك، لكنه وجد أن الواقع كان عكس ما قيل له؛ الفلسطينيون كانوا صعبين للغاية، لكن الإسرائيليين لم يريدوا السلام حقًا.
منح ترامب الإسرائيليين ما لم يمنحه أحد من الرؤساء الأميركيين الذين سبقوه، فقد أعطاهم أغلب الأرض الفلسطينية تحت مسمّيات مختلفة، منها الاستيطان والطرق والمواقع العسكرية، والمحميات الطبيعية، والاحتياجات الأمنية، ولم يستثنِ منها غير الأماكن التي تشهد كثافة سكانية عالية، حيث جعل منها معازل منفصلة تربط بينها جسور وأنفاق تخضع للرقابة الإسرائيلية، وأطلق على هذه المعازل اسم الدولة الفلسطينية التي تفتقر إلى أبسط مقومات السيادة، رابطًا إياها بجميع مفاصل حياتها، بالسيد الإسرائيلي، ودعا إلى إقامة صناديق اقتصادية، هدفها توطين الفلسطينيين حيث هم، وتوزيعهم على أرجاء المعمورة التي نصّب من نفسه وصيًا عليها، وجعل لكل دولة حصة في استيعاب اللجوء الفلسطيني الممتد منذ النكبة.
حلّ الدولتين الذي شكّل شعارًا للسلطة الفلسطينية، لم يعد غير شعار للمحافظة على ما تبقى من شرعيةٍ ذَوَت
في عهد بنيامين نتنياهو، توقفت المفاوضات مع السلطة الفلسطينية كليًا، ولم يأتِ هذا الانقطاع نتيجة رفض السلطة أو احتجاجها، بل جاء من نتنياهو نفسه الذي لم يجد، كما يقول، شريكًا فلسطينيًا، وهو الموقف الذي تبناه أريك شارون وما زال مستمرأ في عهد نفتالي بينت، والذي أدّى إلى خفض سقف اتصالات السلطة الفلسطينية مع الحكومة الإسرائيلية من المستوى السياسي إلى مستوى ضباط الإدارة العسكرية التي يسميها الاحتلال الإدارة المدنية، والتي بدأت تنتزع ما كان قد مُنح سابقًا لأجهزة السلطة من صلاحياتٍ إداريةٍ محدودة، باعتبارها وسيطًا بينه وبين المواطنين الفلسطينيين، ليعود الاحتلال من جديد ممسكا بتفاصيل الحياة اليومية للمواطنين الفلسطينيين، بعيدًا عن السلطة ذاتها. كما تراجع الحل السياسي إلى مسمّيات أخرى مثل إنعاش السلطة، والحل الاقتصادي، وتقليص الصراع، وعدم السماح بتفجير الوضع الراهن أو تغييره، ولتصبح السمة الأساسية لعلاقة السلطة الفلسطينية بالمحتل هي التنسيق الأمني بين الطرفين. ويترافق ذلك مع ازديادٍ حاد في وتيرة الاستيطان، وصل إلى أطراف مدينة رام الله، حيث قرّرت الحكومة الإسرائيلية إقامة مستوطنة تضم 40 ألف نسمة على الأرض التي يقع عليها مطار قلنديا، وكانت إعادة إحياء هذا المطار التاريخي حلمًا داعب خيال السلطة الفلسطينية منذ اتفاق أوسلو، لكن الرد جاء باهتًا هذه المرّة، حيث دعا أحمد قريع (أبو علاء) إلى إقامة مطار مشترك إسرائيلي – فلسطيني بدلًا من المستوطنة.
لم يعد المجتمع الدولي أيضًا معنيًا بتحقيق حل الدولتين، وغاية المنى لديه إبقاء الوضع القائم، وجل ما يقوم به هو تخدير الفلسطينيين عبر التلويح بمساعدات اقتصادية تكفل بقاء السلطة على قيد الحياة إلى حين، أما حلّ الدولتين الذي شكّل شعارًا للسلطة الفلسطينية، ردّدته من قبلها قيادات نافذة في الفصائل الفلسطينية، فلم يعد غير شعار للمحافظة على ما تبقى من شرعيةٍ ذَوَت.
احتاج النظام العربي إلى غطاء فلسطيني للدخول في معترك التسوية، وأوهم الرئيس أنور السادات القيادة الفلسطينية أن لها مكانًا في مؤتمر السلام
لم تخبُ نار حل الدولتين نتيجة موقف نتنياهو، كما حاول ترامب أن يقول، ولا نظرًا إلى رفض رئيس حكومة دولة الاحتلال الحالي، نفتالي بينت، مجرد الحديث مع محمود عباس. ويخطئ من يعتقد أنه كانت هناك فرصة لهذا الحل عند تولي أبو مازن رئاسة السلطة، وتمسّك بخريطة الطريق وشروط الرباعية الدولية، فتلك الخريطة والشروط بنتا مدماكًا آخر فوق قبر حل الدولتين، حين جعلت من إسرائيل والرباعية الدولية حكمًا على مدى التزام الفلسطينيين محاربة الإرهاب، وتقييم جهوزيتهم لحكم أنفسهم، ليباشروا بعدها مفاوضات الحل النهائي التي ليس لها بداية ولا نهاية.
ثمّة وهم آخر يقول إن هذا الحل كان ممكنًا بعد اتفاق أوسلو، وقبل اغتيال إسحق رابين، وهو وَهْم لا يدرك أن الاستيطان قد بدأ وتغوّل وازاد شراسة على أيدي قطبَي حزب العمل، رابين وإيهود بارك، وتضاعف في ظل اتفاق أوسلو. تسلّل هذا الوهم إلى الجسد الفلسطيني بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، حين احتاج النظام العربي إلى غطاء فلسطيني للدخول في معترك التسوية، وأوهم الرئيس أنور السادات القيادة الفلسطينية أن لها مكانًا في مؤتمر السلام، وما هي إلا بضعة أشهر حتى تحصل على دولتها في الضفة الغربية وقطاع غزة، فبدأ ترويج ما عُرف بالحل المرحلي، وبدأ الثائر الفلسطيني بالنزول التدريجي عن الجبل، اختلطت المعايير والمفاهيم، وشكّل النزاع على التمثيل محور القضية الفلسطيني، وبديلًا من فكر انتزاع الأرض من المحتل، كان التصوّر أن الدولة الفلسطينية قادمة على طبقٍ من ذهب، وأن السؤال لا يدور حولها بقدر ما يبحث عمّن سيحصل عليها.
لم يعد المجتمع الدولي معنيًا بتحقيق حل الدولتين، وغاية المنى لديه إبقاء الوضع القائم، وجل ما يقوم به تخدير الفلسطينيين
.. في أحد لقاءاته مع مسؤولين عرب، قال رئيس الدائرة السياسية السابق في منظمة التحرير الفلسطينية، فاروق القدومي، إن الدولة الفلسطينية في جيبه، ولا يحتاج للحصول عليها إلا إلى الاعتراف بقرار مجلس الأمن رقم 242، وكانت منظمة التحرير في حينه ترفض الاعتراف به، ولاحقًا اعترفت بما هو أكثر منه، حتى حق إسرائيل في الوجود، ولم تحصل على دولتها المنشودة. وفي محاضر الاجتماعات الأردنية – الفلسطينية بعد عام 1982، والتي عُقدت بهدف الوصول إلى اتحاد كونفدرالي بين الأردن وفلسطين، ليكون بوابة عبور منظمة التحرير نحو التسوية، نقرأ العجب العجاب، فقد خلت المحاضر تمامًا من فكرة استعادة الأرض، وانطلق الجانب الفلسطيني فيها من موقع أن الدولة الفلسطينية قاب قوسين أو أدنى، فتمحورت أسئلته حول الجيش، والعلم، والعملة، والمجلس الرئاسي. أما الجانب الأردني فكان يسعى إلى التوفيق بين القرارات العربية والشروط الأميركية، وغابت تمامًا عن المباحثات مناقشة الاحتلال كحقيقة تجثم على الجسد الفلسطيني.
أي وهم هذا الذي عشناه، وتصرّفنا على أساسه، لنكتشف بعدها الحقيقة الصارخة أن عدونا تمسّك بروايته التاريخية، وسعى إلى تحقيقها، وأننا تخلينا عنها خطوة خطوة! ولوقف هذا الانهيار، لا بد من العودة إلى روايتنا التاريخية لنحميها وتحمينا.