السبت ١ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
بقلم فاروق مواسي

تفسير الكاتب لنتاجه

بعض النقاد لا يرون ضرورة الاتصال بالأديب لمعرفة جانب ما أو فكرة ما تناولها النص. دعواهم في ذلك أن النص يجب أن يُنقد من "الداخل" وأن "الشكلانية" تقرر إلى حد بعيد ماهية النص وجدواه ومضمونه.
ومع أني أوافق الباحث أحيانًا في أن يتجرد ويستقل، إلا أن هناك ضرورات ملحة توجب الإفادة من الأديب والاستنارة أو الاستئناس برأيه، خاصة إذا أمكن الأمر وتيسر، ووسائل الاتصال اليوم كثيرًا ما تتيح ذلك.

ففي الحالة الأولى نعامل النص كطفل لا نعرف أبويه. ولا يهمنا إن تنكرا أو تعرفا إليه. وفي إبراهيم المازني مثل على ذلك، إذ تنكر الشاعر لأشعاره قائلاُ:
" فانتهيت إلى أنه لا خير فيما قرضت من الشعر، وأن الأدب المصري لا يزيد به ولا ينقصه إذا فقده، فكففت عن النظم، ونفضت يدي من القريض" (مقدمة ديوان العقاد).

ومع ذلك ، فها نحن نبحث شعره وندرسه بغض النظر عن موقفه منه، كما نتجاهل شعر غيره رغم اعتزازه به.

وإذا صح الأمر بالنسبة لموقف الأديب من أدبه فإنه لا يصح بالنسبة لرأيه في مضمون النص نفسه، لأنه يعرف كيف بدأ وكيف انتهى. فمثلاً كيف يجوز لنا أن نستمر في اعتبار "مذكرات دجاجة" للدكتور اسحق موسى الحسيني موقفًا من الصراع العربي اليهودي ما دام المؤلف يكتب بالحرف الواحد:

" ولا شك في أن لكل قارئ الحرية التامة في فهم المذكرات على الوجه الذي يريده، ولكن مما لا يصح أن يقع أن يسيء فهم أغراض الكاتب - أو الكاتبة – ويذهب في تأويلها مذهب المتعنت. وهذا ما يحدو بي إلى الإعلان بصراحة تامة أن تلك القضية السياسية المحلية لم تخطر بالبال قط حين دونت تلك المذكرات، ولو خطرت بالبال لاختلف سياق الحديث بالضرورة" ( انظر مقال الحسيني: حول مذكرات دجاجة، مجلة الثقافة (القاهرة – تحرير أحمد أمين ) العدد 250 الصادر في 1943/10/12 ص 20 ).
ومن الأمثلة الحية في وجوب الإفادة من رأي المؤلف ما أورده ب. ساسون سوميخ، وذلك أنه سأل نجيب محفوظ عن المعنى الكامن في " أفراح القبة " ،- وهو اسم كتاب له - فأجاب محفوظ بمعلومة تاريخية تشير إلى أن المماليك اعتادوا كل عام أن يقيموا أفراحًا وألعابًا في منطقة ( القبة ) بالقرب من الأزبكية. فمثل هذا الشرح يوفر على القارئ اجتهادات وتأويلات قد تذهب بنا شططًا، وعند فهمنا لهذه الإشارة سنبتعد عن التحليل المفتعل كأن نفسر (القبة) قصر القبة الذي كان يسكنه الرئيس عبد الناصر.

ولن أذكر نماذج – وهي تتعدى الحصر– بأخطاء منهجية وقع فيها النقاد - بسبب تجاهل المبدعين- ورأيهم الذي لخصه ب. جورج قنازع بالقول:
" تجدر الإشارة إلى أن تفسير كاتب ما لنتاجه الأدبي لا يجب أن يعتبر بالضرورة القول الفصل في تحليل أي إنتاج وفهمه، إذ كثيرًا ما يهتدي النقاد إلى آراء وتفسيرات لم تكن خطرت للكاتب على بال، ورغم ذلك فإنها تكون صحيحة وتعطي العمل الأدبي بعدًا جديدًا وعمقًا جديدًا ( الكرمل – جامعة حيفا العدد 2 سنة 1981 ص 119-120).

ولعل كلمتَي "بالضرورة" و "كثيرًا" في الاقتباس المذكور خففتا من وطء الحكم والتقرير اللذين أوردهما.
لنعد إلى موضوعنا لنرى أن الاتصال بالأديب مهم، ولا بد منه ( إذا لم يكن متعذرًا):

سأل ميندوزا – وهو أديب وصحافي – غابريل ماركيز عن روايته "مائة عام من العزلة":
"هل توافق النقاد على رؤية الكتاب أمثولة أو تمثيلاً لتاريخ الإنسانية؟"
أجاب ماركيز:

"لا لم أرد سوى تقديم شهادة شعرية عن عالم طفولتي."
ميندوزا: - "غالبًا ما يجد النقاد لديك مقاصد أكثر تعقيدًا بكثير".
ماركيز: - "إذا وجدت هذه المقاصد فلا بد أن يكون ذلك بشكل لا شعوري. لكن من الممكن أيضًا أن النقاد على نقيض الكتّّّاب لا يجدون في الكتب ما يجب العثور عليه. وإنما يريدون هم أن يعثروا عليه... إن هؤلاء النقاد يضطلعون بمسؤولية حل جميع الغاز الكتاب لكنهم يقعون في خطر الهذيان بالخرافات". ( انظر كتاب: أحاديث غابريل غارسيا ماركيز، ترجمة إبراهيم لطفي ص 172)

وتبقى المسألة جديرة بتبيانها:

إن الإفادة ضرورية جدًا في المضامين التي يطرحها المؤلف، وفي الأجواء التي عاشها في أثناء كتابة النص، وفي معنى الرموز التي يبثها ، ولكنها ليست ضرورية - إلا ما ندر- في الدراسة الأسلوبية.
فلو أخذنا قصيدة " الرسم بالكلمات" لنزار قباني مثلا فإن نزار لا يقدم لنا شيئًا ، ولا يجب أن نلتزم برأيه ، ونحن نتحدث عن الاستفهام والترادف وموسيقا الشعر وتكرار حرف معين وضرورته وغلبة الماضي والمضارع ووظيفة ذلك الخ. ولكنه يفيدنا ويوجهنا وجهة جديدة وهو يشرح الأبيات التالية:

لم يبق نهد أبيض أو أسود

إلا زرعت بأرضه راياتي

لم تبق زاوية بجسم جميلة

إلا ومرت فوقها عرباتي

فصّلت من جلد النساء عباءة

وبنيت أهرامًا من الحلمات

يقول نزار إن هذه الكلمات كانت على لسان أمراء النفط، وقد أوردتها هازئًا ساخرًا، بدليل نهاية القصيدة المعبرة، ويمضي نزار قائلاً "إني أعتبر قصيدة( الرسم بالكلمات) من أكثر قصائدي ارتفاعًا وحضارة وأخلاقية، ولكن ماذا أفعل إذا كان النقد العربي يرى عباءات نسائية ولا يرى عباءات أحزاني".

الكرمل (قبرص) العدد 28 ص 27.

نخلص إلى القول إن الإفادة من المؤلف ضرورية في تحديد المضامين والرموز، لكنها غير ملزمة في كل الحالات. وهي غير ضرورية في المسائل الشكلية رغم أن المؤلف قد يفيد فيها بعض الإفادة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى