الأربعاء ١٢ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٧
بقلم إياد الرجوب

تميم البرغوثي كان الأحق بلقب أمير الشعراء

لم أتابع مسابقة أمير الشعراء إلا في حلقاتها الثلاث الأخيرة، ولم يجذبني للمتابعة غير الشعراء الفلسطيني تميم البرغوثي والسودانية روضة الحاج والموريتاني محمد ولد الطالب، لا أريد الانتقاص من قدرات الآخرين، لكن هؤلاء الثلاثة كانوا مميزين بجدارة في الإبداع الشعري تأليفا وإلقاءً.
وهنا، سأتناول بالتحليل والنقد الشعراء الخمسة الذين تنافسوا في الحلقة الأخيرة على إمارة الشعر، فليس للمتابع الذي رزق بفهم يسوّغ له الحكم على الشعر وفنونه إلا أن ينحي جانبا الشاعرين السعودي جاسم الصحيح والإماراتي عبد الكريم معتوق، ويعترف لروضة الحاج بمكانتها الرفيعة في سلّم الإمارة الشعرية، لما فرضته على المتابعين من انفعال صادق مع عاطفتها المتدفقة التي تُبكي من يعي حالتها ويتذوق نصها الذي كان غنيا بالصور الشعرية المبتكرة، واللغة القوية، والموسيقى العذبة التي تطرب لها الأذن.

وهذا أيضا ما كان عليه ولد الطالب، مع فروق بسيطة تدور حول إيغاله في اللغة التي لا تناسب العصر، أو ربما هي تناسب اللغة الأدبية في بلده موريتانيا، لكنها لا تناسب لغة الوطن العربي بعامة في القرن الواحد والعشرين، عدا عن تسرب الجفاف إلى بعض أبيات قصائده، ما أبعد الجمهور عن الانفعال مع المعنى الشعري، واقتصر انفعاله على الإلقاء والموسيقى.

أما تميم البرغوثي، فليس له مكان غير عرش إمارة الشعر، وحتى لا أتجاوز المنطق في الحكم، أقتصر الحديث عن الإمارة على الشعراء الذين تقدموا للمسابقة فقط، إذ كان أميرهم عن جدارة واستحقاق، وتالية هي الركائز:

أولا- الموسيقى الشعرية والإلقاء:

نظمت المسابقة للشعر الفصيح، والشعر المراد فيها هو الموزون بنوعيه العمودي والتفعيلي، ما اخرج قصيدة النثر من المسابقة. والوزن الشعري يفرض على المتسابق الالتزام بالبحر الشعري أو التفعيلة وفق نظام موسيقي معين، وهذا ما التزم به تميم مطلقا، بعكس غيره من الشعراء الذين غلب عليهم تسكين المتحرك، ما تسبب في كسور موسيقية خلخلت عذوبة البحر العروضي، وبرز ذلك أكثر ما برز عند جاسم الصحيح وعبد الكريم معتوق، واللافت هنا أن لجنة التحكيم الخماسية لم تعلق على هذه الهنات الموسيقية قط، وتبدى للمتابع أن لجنة التحكيم لم تمتلك الأذن الموسيقية الصافية لالتقاط هذه الهنات سماعيا.
وينضوي تحت الموسيقى الشعرية أيضا التنويع في البحور الشعرية، ما بين عمودي وتفعيلي، فأمير الشعراء هو الأقدر على قولبة فكرته في قوالب شعرية متعددة، وهو الأقدر على التنويع في قصائده ما بين العمودية والتفعيلية، والموازنة ما بين النوعين، مع المحافظة على استمالة المستمع.
وكما لاحظنا في المسابقة فإن تميم كان الأبرز في القدرة على استخدام اللون العمودي وشعر التفعيلة في آن، وخير مثال على ذلك قصيدة "في القدس" التي جعل مقدمتها على بحر الطويل عموديا، ثم راح يرقّص السامعين بتفعيلة بحر الكامل حتى نهاية القصيدة، ولم يكن هذا المزج بين البحرين واللونين العمودي والتفعيلي إلا عن دراية ووعي تامين، وهذا بدوره أعطاه وهجا وتألقا أثناء الإلقاء جعل الجمهور والمشاهدين منجذبين إليه حتى آخر حرف في القصيدة، لما أبداه من مرونة موسيقية لازمها ارتفاع وانخفاض في صوته متناسبان مع كل مقطع ومتفاوتان من مقطع لآخر حسب وقع الجملة الشعرية، إضافة إلى حركات يديه وتعابير وجهه بعفوية طبيعية يتطلبها المعنى المنطلق من شفتيه، فترى الصور الشعرية واللغة القوية والموسيقى العذبة صادرة عنه دون أن يشعرك ببذل أي جهد للجمع بين كل ذلك، وكأنما الشعر لغته ولعبته المفضلة، ما يعيدنا لاستذكار قول نقاد العصر العباسي عن الشاعر أبي العتاهية: "لو أراد أن يكون جميع كلامه شعرا لكان له ذلك"، وهذا كله أبعد الجمهور عن الملل من أشعار تميم، في حين ظهر ذلك الملل واضحا أثناء إلقاء بعض قصائد الآخرين التي كانت كلها وفق نسق صوتي واحد ألفته الأذن حتى ملّته.

ثانيا- اللغة:

لكل عصر لغته، وبما أن المسابقة خاصة بالشعر العربي الفصيح، فيفترض بأمير الشعراء أن يمتلك اللغة العربية الفصيحة التي تناسب العصر ويفهمها العرب جميعا من المحيط إلى الخليج- طبعا مع الالتزام التام بالنحو والصرف- ولم يستطع أحد من الشعراء المتسابقين الظفر بما ظفر به تميم من تصفيق حار طويل ومتكرر من جمهور مسرح شاطئ الراحة طيلة حلقات المسابقة، وهذا يعني أن الجمهور المتنوع- بحسب البلدان العربية- كان واعيا للغة تميم التي لم يكن فيها تكلف ولا تعسف، فاقترب الجمهور منه لقرب مفرداته من الجمهور، وربما هذه ميزة منحتها الجغرافيا لتميم، لأن أبناء مصر والشام هم الأوضح لغة وصوتا من بين باقي أبناء الأقطار العربية الأخرى، أما الشعراء الآخرون فقد اتضحت مناطقيتهم في أشعارهم، ما أبعدهم تلقائيا عن الإمارة الحقيقية.

ثالثا- الصور الشعرية:

كان هناك ابتكار واضح للصور الشعرية عند الجميع، لكن الشعراء الثلاثة معتوق والصحيح وولد الطالب لجأوا إلى ابتكارات لا تناسب الواقع المعيش، بل هي أقرب إلى عصور سالفة منها إلى العصر الحديث ومجرياته المتسارعة على جميع الصعد، أما روضة الحاج فقد توسطت بين القدم والحداثة في صورها الشعرية المبتكرة، فتارة تجدها عصرية وتارة تراها تحلق في سماء العصر العباسي وما قبل، غير أن تميم كان يأبى في صوره إلا أن يكون عصريا مجددا، وكأنه في كل قصيدة يريد أن يؤكد لنا أنه يعيش في عام 2007، يتوكأ على الماضي، لكن عينيه تسبران الأفق ولا ترنوان لغير النجوم التي سيّرها على الأرض بقدمين، وحتى عندما عرض همه الفلسطيني ذهب لأنسنة الموت، لكنها أنسنة هجومية ضد موت ضال لم يرحم صغيرا ولا كبيرا، وقد تساءلتُ في سري كيف استطاع تميم أن يصل لعبارته: "يا موتنا يشفيك ربك من ضلالك"؟ وليس هذا وحسب، بل أيضا عندما قال: "إني رأيت الصبح يلبس زي أطفال المدارس، حاملا أقلامه.."، و"الصبح تلميذ لأشعار العرب"، فهذه الصور لا تنطلق إلا من أمير لتلك الأشعار التي جعلت الصبح تلميذا أمامها.

رابعا- خلق الأمير:

الأمير الحق لا ينافق، والوحيد الذي لم ينافق للجنة التحكيم والدولة المستضيفة هو تميم، وأبى إلا أن يتحلى بأخلاق الزعماء، لدرجة عدّ البعض ذلك عليه مأخذا، فلم يوجه خطابه إلا للناس، ولم ينحنِ ويتواضع إلا لأمته، رافضا أي سطوة للحكام والسلاطين، فأمته هي صاحبة القرار بالتنصيب والعزل: "يا أمنا/ لا تفزعي من سطوة السلطان/ أية سطوة/ ما شئت ولّي واعزلي/ لا يوجد السلطان إلا في خيالك".

خامسا- حُكم "أمير الشعراء":

قبل انتهاء الحلقة الأخيرة من المسابقة، تم عرض مقابلات مع الشعراء المتسابقين سئلوا فيها جميعا سؤالا واحدا مفاده: لو أنك في لجنة التحكيم فلمن تحكم بإمارة الشعر، فكانت إجابة معتوق الذي توج بالإمارة أنه لو كان في ذاك الموضع لحكم بالإمارة لتميم، معللا ذلك بمزايا يتفرد بها تميم عن أقرانه، فالتنوع الإيقاعي عنده واللغة القوية والثقافة الواسعة سمات برزت لديه في جميع القصائد، فماذا يتبقى بعد أن يحكم من توجوه بتاج الإمارة بهذا الحكم لتميم، ما يمثل اعترافا صريحا بأحقية تميم في اللقب.

هذا فيما يتعلق بتميم، أما ما يتعلق بالمسابقة؛ فهناك عدة أمور جعلت منها فاشلة، فانعكس فشلها على المتسابقين، ما أدى إلى ظلم بعضهم على حساب آخرين، ويتمثل ذلك الفشل فيما يلي:

أولا- لجنة التحكيم:

لا أدري من الذي اختار لجنة التحكيم الخماسية، فهذه اللجنة مطلوب منها الحكم على مجموعة من الشعراء لتختار منهم أميرا، بمعنى أنها ستبت في أمور اللغة والموسيقى والصور الشعرية والإلقاء وغيرها، ومن الأساسيات الواجب توافرها في لجنة كهذه أن تمتلك اللغة القوية، وهذا ما افتقرت إليه اللجنة، إذ رأينا كم كانت تلك اللجنة تسقط في مزالق اللغة رفعا ونصبا وجرا وجزما، وتذهب لتصويب الفعل المضارع "يلبِس" صرفيًّا إلى "يلبَس"، في حين تبدي آراءها مستخدمة لغة واهنة نحويًّا، وليس ذلك في تراكيب نحوية معقدة، بل كان أحيانا لا يتعدى الفاعل والمفعول، فكيف للجنة بهذا الوهن اللغوي أن تحكم على اللغة في مسابقة ثقافية مختصة باللغة الفصيحة؟

أما بالنسبة للموسيقى؛ فكما أشرت سابقا لم أسمع من اللجنة أي تعليق على السقطات الموسيقية والعروضية التي وقع فيها شاعرا الخليج، وتسببت في نفور المستمع صاحب الأذن الموسيقية من إلقائهما الذي اعتمد التسكين في كثير من المواضع، مع أن الموسيقى والوزن العروضي ركنان أساسيان من أركان الحكم على أفضلية الإلقاء لمثل هذا النوع من الشعر، وهذا إن نم عن شيء فإنما ينم عن أن اللجنة كانت قاصرة عن الحكم في مثل هذه الأمور.
وبالمجمل، لم أسمع من لجنة التحكيم آراء نقدية واضحة وصريحة بقدر ما رأيت إطراء متواصلا، كان في كثير من الأحيان يبحث عن مبررات للخروج من السقطات الشعرية للشعراء بدلا من التأكيد على المزالق، وخير مثال على ذلك هو تبرير الدكتور صلاح فضل استخدام "جدير" من دون حرف الجر "الباء" وجعل ذلك نوعا من بلاغة التعبير، مع أن سقوط الباء عند الشاعر كان محاولة للتغلب على الوزن الشعري دون أي اعتبار للتعبير البلاغي. أما الدكتور عبد الملك مرتاض فكان يبحث عن عسف الكلام ليوازن سجعه غير المبرر في حكمه، والبعيد عما يتطلبه الموقف، وفي بعضه لم يكن مفهوما لجمهور المشاهدين وبعض الشعراء، وعلى شاكلته كان الشاعر السعودي نايف الرشدان الذي تمثّل دور المشجع في المسابقة لا دور الحَكَم والناقد، غير أن الفنان غسان مسعود أعلنها صراحة منذ الحلقة قبل الأخيرة أنه أصغر من أن يقول في هؤلاء الشعراء نقدا، أما الدكتور علي بن تميم فلم يكن لملاحظاته النقدية المتوازنة مكان بين آراء المجاملة النقدية للأعضاء الأربعة الآخرين في لجنة التحكيم.

ثانيا- طريقة التصويت:

كان يمكن لدولة الإمارات أن تفخر بهذا الحدث الثقافي لو أن الهدف الثقافي هو الذي طغى على المسابقة، إلا أن الهدف التجاري جعل معظم جمهور المتابعين ساخطا على النتيجة، لأن ما حدد النتيجة هو النقود، فكل عربي يستطيع التصويت بقدر ما يملك من نقود، وهذا بدوره أدى إلى أن يكون عدد المصوتين من الإمارات هو الأقل، بينما عدد الأصوات منها هو الأكثر، لان كل واحد منهم استطاع التصويت آلاف المرات حسبما يساعده جيبه، وكان الأجدر بمسابقة كهذه لبست ثوب الثقافة ألا تقبل من الشخص المصوِّت إلا صوتا واحدا فقط، عندها يمكن لنا أن نتحقق من اسم الشاعر الذي حاز على أعلى الأصوات، على اعتبار أن كل صوت يعني شخصا واحدا، وهذا تحقق في فوز تميم بأغلبية أصوات جمهور المسرح طيلة الوقت، لأن كلا منهم لا يصوت إلا مرة واحدة في الحلقة.

ثالثا- تقديم حلقات المسابقة:

أكبر عيب في مسابقة أمير الشعراء تمثّل في اختيار ظافر زين العابدين مقدما لحلقات المسابقة، ففي المسابقات الثقافية عادة يتم اختيار مقدم ذي لغة وسليقة سليمتين، أما اختيار مقدم مسابقة أمير الشعراء بهذا الضعف اللغوي وهذه السليقة الوضيعة جدا فهو استهانة واضحة بثقافة الجمهور العربي، واستفزاز للنحاة في قبورهم التي ضجت شواهدها مما سمعت، وخِلتُ سيبويه يتمنى لو أنه يخرج من قبره مرة واحدة، كي يقطع لسانا مرمر اللغة وعذبها، فوالله لو بحثت إدارة المسابقة عن شخص رقيع اللغة دميم الحروف قبيح الصياغة، لما وجدتْ أسوأ منه، فقد عانت آذان المشاهدين والمستمعين أشد المعاناة، وهم يرون حركات الإعراب تتنازع الحروف كيفما اشتهت، فتارة ترى الفتحة جازمة، وأخرى ترى الضمة ناصبة، وكم كنت أشفق على اللغة من هتك عرضها واغتصابها إذا أراد مقدم المسابقة الفذ أن يستخدم المثنى أو الجمع، فالويل للحروف ساعتها، والأكثر إيلاما للغة أنه كان يواصل في كل حلقة رفع المضاف إليه والأسماء المجرورة، مع أن السليقة لا تقبل لهذه المواضع إلا الجر، ناهيك عن نصب الفاعل ورفع المفعول وما إلى ذلك من فضيحة لغوية ما كان لها أن تتجاوز الحلقة الأولى للمسابقة لو أن هناك رعاية ثقافية حقة، لكن المسابقة ابتعدت جدا عن الهدف المصرح به المتمثل بنشر الثقافة وتأصيل الشعر، واقتربت جدا من الهدف الخفي لها المتمثل في البعد التجاري وجني الأرباح المادية على حساب المشروع الثقافي العربي برمته.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى