تنويعات على اللحن "الشاهيني"..
"أُخرجوا من رأسي جميعاً, سوف أُعبر عما أُريد بالطريقة التي أُريد." لم تكن هذه الكلمات سوى صرخة المخرج "يوسف شاهين" في الدورة الثالثة لمهرجان قرطاج السينمائي في تونس أثناء مناقشة فيلم "الاختيار" 1970, كما ذكرها الناقد السينمائي "سمير فريد". الجملة السابقة على قصرها يُمكن قراءتها على أكثر من مستوى. أعمقها ـ البعد الثالث ـ هو البعد الإغترابي للمخرج, وثانيها أن "شاهين" في ذلك الوقت لم يكن ما يُؤرقه هو البحث عن ذاته, أو تحديد نفسه كفرد. لكن ربما كان شاغله إقامة علاقة مع المجتمع بشروطه هو, وليس بشروط هذا المجتمع. وهو ما تُفصح عنه بوضوح كلمات "جو", وما تُؤكده شخصيته وأعماله على مدار مشواره وتاريخه السينمائي.
في البعد الأول تبدو واضحة تلك العلاقة المربكة المتوترة بينه وبين النقاد في جميع أفلامه. النقاد الذين وصفوه بأنه مخرج لا يفهم شيئاً عندما عُرض "باب الحديد", وبعد ثمانية عشرة عاماً قالوا أنه فيلم "تحفة", وأحد العلامات في تاريخ السينما المصرية. النقاد الذين هاجموا بعنف لامثيل له فيلمه البديع "اليوم السادس", ووصفوه بأنه هلوسة هستيرية لا مثيل لها. رغم أنه من أجمل وأهم أفلام الفانتازيا الواقعية, والاستعراضية التي قدمها "شاهين". كان الهجوم على الفيلم وبطلته "داليدا" مليئاً بالعنف, ربما بسبب التحيز لنجمات السينما المصرية, خصوصاً إذا كانت موهبتهن في ثقل موهبة "فاتن حمامة" و"سعاد حسني", و"نادية لطفي" اللائي رُشحن للدور ولم تحصلن عليه.
ظاهرياً لم يكن الإغتراب هو اللحن الأساسي في أعمال "شاهين" السينمائية. لكن الكلمات تُعلن بوضوح في بعدها الأهم عن رفض شبح الإغتراب عن الذات "الشاهينية". و"الإغتراب" كما عرفّه عالم النفس الألماني "إيريك فروم", 1900 ـ 1980, في كتابه "فن الحب" ـ ترجمة مجاهد عبد المنعم عن دار الكلمة ـ "عندما يعيش الإنسان في تجربة يجد نفسه قد أصبح شيئاً غريباً عن نفسه.. أصبح وحيداً منفصلاً.. فالانفصال يعني اليأس والعجز عن الاستحواذ على العالم بشكل فعال, أن العالم يستطيع أن يحاصره بدون قدرة من جانبه على رد الفعل إزائه. وذلك يجعل من وجوده المنفصل سجناً لا يُطاق. وقد يُصاب بالجنون إذا لم يُحرر نفسه من هذا السجن وينطلق."
الفن طريقه للخلاص
منذ طفولته حاول "شاهين" قهر انفصاليته وترك سجن عزلته الذي تمثل في الفقر, وفي شكله غير الوسيم ـ بمقاييس الأربعينيات ـ وفي تلبية رغبات العائلة وأحلامها في الصعود الطبقي, في أن يُصبح ابنها مهندساً. ظل "يوسف" يُنقب عن وسيلة للإندماج في مجتمعه الأصغر والأكبر. أجاد الرقص ليجذب إنتباه زملائه, وسرعان ما أخذ يبحث عن وسائل آخرى ليُثبت لهم أنه متفوق. لجأ إلى أعمال "شكسبير" خصوصاً "هاملت". أخذ يُدرب نفسه على التمثيل. أتقنه ونال إعجاب زملائه فقضى مؤقتاً على الفارق المادي بينه وبينهم. أدرك "شاهين" أن الفن هو طريق إلى الخلاص, هو سبيله لتحطيم قضبان سجن عزلته. لكن ماذا يفعل مع أوهام عائلته هل يستسلم لها ؟! يقول "شاهين " ـ في حوار مع المخرجين "محمد ملص" و"عمر أميرالاي" ـ "أنه أصبح الشخص الذي يريده الآخرون أن يكون. لذلك وجد أنه غير راض عن نفسه لأنه تنازل.. ولأنه كبت الشخص الذي كان يريده حتى يظهر على الصورة التي ينتظرها الآخرون.. لكن هذه الشخصية لم تعد تُعجبه.. أراد أن يعيش شخصية "يوسف شاهين" الحقيقي." ربما لذلك قرر المراهق ذي الثمانية عشر عاماً التضحية بآمال الأسرة وتحطيمها على صخرة عناده, وسافر إلى أمريكا لدراسة فن التمثيل. لكنه هناك وجد سجن آخر يُعد له. عُزلة آخرى شُيدت جدرانها من ملامحه غير الجميلة, إذ لا يمتلك وسامة نجوم هوليوود, فقرر أن يتحول إلى الإخراج. لكن هل تقبل "يوسف" ذلك بسهولة ؟! أم شعر بالخوف من أن يكتسب ذاتاً جديدة زائفة ؟!. الإجابة عنده هو وحده. لكنه ربما حاول أن يُرضي نفسه بأن قرار الإخراج جاء بمحض إرادته وباختياره. أقنع نفسه أن المخرج أكثر أهمية من الممثل, أن اسمه سيتصدر "الأفيش", أن الفيلم سيُنسب إليه وليس للنجوم, فالممثل في نظره مجرد قطعة إكسسوار. ربما أيضاً لذلك كان "شاهين" يُنقب باستمرار عن وجوه جديدة يصنع منها نجوماً, ليُؤكد للجميع أن هو الذي صنع هؤلاء النجوم, خصوصاً أن كُثر منهم لم يسطع نجمهم بعيداً عنه.
من أجمل المشاهد في تاريخه السينمائي والتي تُؤكد رأيه السابق الدقائق العشر الأخيرة في فيلمه الخطير "العصفور" 1972. وترجع أهمية وخطورة هذا الفيلم إلى أنه لم يكتفي بالاعتراف بوجود هزيمة عسكرية, لكنه أزال النقاب عن هزيمة داخلية أعمق وأشد وطأة, وأنه فتح أحد ملفات الفساد المتعلقة بتجربة القطاع العام في مصر كاشفاً عن تورط كبار رجال الأعمال وعدد من رجال الأمن وبعض المسئولين في الحكم فيها, لم يكن الفيلم يناقش أسباب هزيمة 67 العسكرية بقدر ما يكشف عما يحدث في مصر الآن, فهو يناقش أسباب نكستها الحضارية في الألفية الثالثة, ويُقدم تفسيراً لتراجع دورها السياسي والثقافي الريادي في المنطقة العربية. الشريط السينمائي بقدر ما يحمل من إدانة واتهام بقدر ما يُحاول تنبيه الناس وإيقاظ وعيهم قائلاً: إبحثوا عن اللصوص الشرعيين.. إنهم سبب هزيمتنا, والحصن المنيع أمام تقدمنا.
إبداع المخرج والمونتاج
تبدأ الدقائق العشر الأخيرة من الفيلم بتقطيعات سريعة متتالية لاهثة مثل أفكار تُومض كالبرق في ذهن يضطرب بالخواطر. وبينما نسمع صوت المذياع وهو يُعلن قرار وقف إطلاق النار في ليلة العاشر من يونيو 67 نرى الشيخ "أحمد" يسير كالتائه بين الناس في الشارع ويقطع سيره لقطات مثل الفلاشات الخاطفة للشيوخ في المساجد وآخرون يخطبون على المنابر. ثم نرى "علي" الضابط من بين الأكواب والعربات وهو يسير في الشارع متشذي كالأشلاء, وينتقل المخرج بينه وبين لقطات خاطفة لجروح أخيه يُصاحبها صرخات أغنية تدوي بالآهات.
على مدار أحداث الفيلم كانت شوارع القاهرة مزدحمة بالناس. لكن في اللحظات التي سبقت خطاب التنحي وتمهيداً لإعلان الهزيمة جاءت الشوارع تنطق بالصمت الموحش, وتخلو من نبض الحياة كأنما حلق الموت فوق المدينة. ينتقل المخرج من مقهى خالي من الرواد, إلى الشوارع وهى خالية إلا من كفيف يصحبه طفل رث الثياب ـ وهى صور لا تخلو من رمزية موجعة ـ إلى صفحة مياه النيل الساكنة من أي حركة, إلى واجهات العمارات ـ في ثلاث لقطات طويلة عبر تصوير مُوحش مُقبض ـ بنوافذها المفتوحة وشرفاتها الخالية من السكان يكسوها رداء الموت, إلى "صالة" إجتماعات كبيرة تجمهر فيها الشباب ملتفين حول المذياع في صمت ينتظرون بدء الخطاب, إلى بيت "بهيّة" حيث يجلس الجميع أمام التليفزيون, فنُعيد قراءة كلمات الرئيس على الوجوه الواجمة, إلى لقطة مقربة جداً نرى فيها أصابع يد "جوني" وهى تدخل إلى الكادر الخالي وتحاول أن تتشبث بالحائط. استفاق "جوني" من سُكره على حديث "عبد الناصر" عن الأوقات الصعبة وتحمل المسئولية, وبكي الشيخ "أحمد" وتعالى نشيجه مُردداً: "يانهار أسود لازم انهزمنا وإحنا مش داريانين." وصرخت "بهية" "حنحارب" واندفعت إلى الشارع. كانت صرختها مثل البوابة التي فُتحت لينطلق عبرها فيضان من البشر كانوا مثل المياه المحبوسة احتجزوها خلف سد لسنين طويلة وفجأة أفرجوا عنها, فاندفعت مثل الشلال, ثم ذلك العصفور الذي أطلقوا سراحه فانطلق يُحلق عالياً بجناحيه فوق الجماهير.
التسامح الديني
حاول كثر تبرير فكرة التسامح سواء الديني أو الحضاري في عدد من أفلام "شاهين" فقالوا أن تكوينه تأثر الأسكندرية ـ مكان مولده في 25 يناير 1926ـ حيث تتمتع تلك المدينة بخصوصية حضارية, فهي مدينة ساحلية ومنفتحة على العالم تجاريا وثقافيا, كما أن عدد كبير من اليهود واليونانين, والإيطاليين أقاموا بها. وطبعاً الحقيقة التاريخية لا يُمكن إنكارها. لكن هذا التفسير يركن إلى منطق مغلوط, ويعمد إلى خلط الأوراق. لأن أول فيلم أخرجه "شاهين" كان "بابا أمين" عام 1950, وعلى مدار تسعة وعشرين عاماً لم يظهر هذا التسامح الديني أو الحضاري في أفلامه إلا بدءاً من فيلم "أسكندرية.. ليه؟" و"الوداع يابونابرت" وظل يصاحب أفلامه التالية وآخرها "أسكندرية نيويورك", إذ لانعرف هل فيلمه الجديد يتحدث عن التسامح أم لا.
جاء فيلم "اسكندرية ليه؟" عام 1979 متوازياً مع اتفاقية السلام ومعاهدة "كامب ديفيد" مع إسرائيل. وليس في ذلك إدانة لـ"شاهين", لقد عبر "يوسف" عن رأيه وهذا حقه, ومن حقنا أن نتفق أو نختلف معه. لكن المشكلة ليست في فكرة التسامح الديني, كما أنها لست في اسكندرية ليه؟ فصورة اليهودي التي قدمها تتسم بالموضوعية وتاريخ اليهود في الأسكندرية يُؤكد ذلك. لكن ما أثار مشاعر الغضب هو فيلمه "الوداع يابونابرت" ـ أول تجاربه في الإنتاج المشترك مع فرنسا ـ الذي يدعو للتسامح وإقامة الحوار مع المحتل المغتصب طالما أنه جاء ليُقيم معنا علاقة شاملة, علاقة عطاء وأخذ. في ذلك الفيلم كان "شاهين" مثل "الإيديولوجيون الذين كانوا يسوغون الاحتلال باسم "الحضارة" ومنهم "بونابرت" الذي برر الحملة على مصر باسم "الحضارة" ـ كما ذكر "فيصل جلول" في كتاب: مصر بعيون الفرنسيين ـ للالتفاف على أنصار التنوير الفرنسيين الذين انتقدوا الكولونيالية ودافعوا عن حق الشعوب بتقرير مصيرها بنفسها."
كما أن مشهد المذبحة الشهيرة ـ في فيلم "عودة الابن الضال" 1976ـ بين أفراد عائلة "المدبولي", والذي لا ينجو منها إلا "إبراهيم" رمز المستقبل والجيل الجديد, ينسف ذلك المنطق المغلوط حول فكرة التسامح. فالمشهد الذي شارك المخرج في كتابته ـ والذي اعتبره كثر من أهم المشاهد في تاريخ السينما العربية ـ يقول بما لايدع مجالاً للشك أن استخدام العنف والدم هو السبيل الأوحد والأمثل للقضاء على فساد تلك العائلة "المتعفنة" كما وصفتها "فاطمة" المعادل الرمزي لمصر المغتصبة في الشريط السينمائي.
في أعماله تحرر المخرج القدير "يوسف شاهين" من السلطات التقليدية سواء كانت سياسية أو تجارية أو سلطة التقاليد أو العادات أو الأخلاق, وحتى من قيود الإنتاج المشترك. لكن ظلت هناك سلطة آخرى كامنة في أعماقه جعلته في بعض الأحيان يغترب عن ذاته وعن فنه الحقيقي. هى سلطة ـ أو بالأحرى عقدة ـ الاشتراك في المهرجانات الدولية والحلم بالحصول على جوائزها. وهو أمر لا نلومه عليه فلكل جواد كبوة. هو الذي أمتعنا بعدد من أهم الأفلام في تاريخ السينما المصرية والعربية. فتحية له من القلب في عيد ميلاده الحادي والثمانين.