نبض الأشياء الضائعة لـشريف حتاتة
بدأت هذه القصة في شهر يونيو سنة 1993 ، في مدينة "درهام"، بولاية "نورث كارولينا" الأمريكية ، وانتهيت منها يوم 23 يناير سنة 2000 ، في مدينة القاهرة . أثناء هذه السنوات السبع قمت بكتابة رواية كاملة ، ورواية أخرى أكملت نصفها ، ثم توقفت . بعد أن قرأتهما عدة مرات ألقيت بهما في سلة المهملات واستأنفت العمل. هذه التجربة أثبتت لي أن الفشل كان سبيلي إلى النجاح في تأليف القصة التي أسميتها "نبض الأشياء الضائعة " فهو الذي هداني إلى ما كنت أحاول أن أصل إليه. إنها كلمات "شريف حتاتة" المطبوعة على ظهر غلاف روايته "نبض الأشياء الضائعة" الصادرة عن دار نشر المحروسة يناير 2008.
تُعبر هذه الكلمات عن معاناة المبدع وصراعه مع مادته، عن محاولته لإحكام سيطرته عليها ، وخلق عمل فني له معناه وجمالياته ، فهو مثل الكائن الحي ينمو ويتطور وفق قوانينه الخاصة.
ثلاثة نساء
"نبض الأشياء الضائعة" رواية عن الفقدان، عن الإحساس بالضياع ، والعلاقة بين الرجل والمرأة. مع ذلك قد يكون محور الرواية هو نبض النساء المُفتَقّد. إنها تحكي عن ثلاثة نساء متشابهات مختلفات, لديهن القدرة على الحب وعلى الإبداع, جمع بينهن رجل اسمه "إبراهيم مصطفى سالم ". كانت النساء الثلاثة نقطة الضوء في حياته, وكان هو نقطة الفساد, وبؤرة الظلام في حياتهن.
الرواية مقسمة إلى ثلاثة أجزاء. في الجزء الأول "إبراهيم" صبي صغير في أسرة فقيرة من قرية "البدرشين". مات والده في حرب 1948. فعملت أمه في مساحة صغيرة من الأرض لتصرف علي تعليمه. إنها القطب المسيطر في الأسرة الصغيرة. صمتها المستمر يُسكت صوته، ويبث فيه شعوراً عميقاً بالوحدة. غضبها يُعلمه الخوف من عدم رضاها, لذلك يتمرس على قول ما يُرضيها ويُرضي الناس من حوله.
خالته " فاطمة" هى المرأة الأولى في حياته. تُقيم معهم في البيت. تنشأ بينهما علاقة حب متوترة خفية. كل منهما يبحث عن الآخر, عن شيء من الدفء والنور في جو البيت المُوحش. تُصبح هذه العلاقة ملاذه وملاذها. كل منهما لا يريد من الآخر سوى الحنان, سوى ليال يقضيانها سوياً يُشبعان فيها رغبة جسدية طبيعية في الحياة لم تُفسدها القيود الإجتماعية, أو الميل للتسلط, أو البحث عن المال. لكنها في إحدى الليالي تختفي من البيت دون أن تترك أثراً ورائها. تمرض أمه مرضاً يصعب علاجه وينقض عليها الموت سريعاً . يبيع البيت، لكن قبل أن يرحل عنه يعثر على عقد من أحجار سوداء بين كل منها جعران أزرق صغير، في صندوق ملابس خالته "فاطمة"، فيحمله معه.
الأحلام أيضاً لها مكان
منذ طفولته يُقرر "إبراهيم" أن يُصبح رجلاً غنياً, فهو لا يريد أن يظل محاطاً بالفقر والكآبة. أصبحت له حياتان, حياة يُمارسها أمام الناس وحياة آخرى يُخفيها عن الآخرين. هكذا تعلم أن يُدبر في صمت, ألا يُشارك أحداً فيما يسعى إليه. كان الأول على دفعته في كلية الآداب "قسم الإعلام" لكنه رفض استكمال دراسته العُليا. قرر أن يلتحق بالصحافة يمكنها أن تجلب له الشهرة والمال.
عندما يُمارس الصحافة يسافر إلى جبهة القتال ويكتب عن مسار الثورة وعلاقتها بالهزيمة في حرب 1967, فتستدعيه المخابرات العامة, وتُنهي مستقبله الصحفي. بعد طرده من عالم الصحافة يعمل في أشغال يدوية منها ، فلاحة الأرض، عامل بناء, وبائع في محل كشري, إلى أن استقر به الحال في محل أفاريز للوحات الرسامين في منطقة "معروف " بالقاهرة, ثم يُسافر إلى "الأسكندرية" تلبية لحلم غامض, وهناك يعمل مع رجل أرمني, يترك له الورشة ميراثاً بعد وفاته.
في الاسكندرية يلتقى "إبراهيم " مع "فاطمة محفوظ " في لحظة تكاد أن تسقط فيها من الأتوبيس فيمد ذراعيه ويُنقذها. تنشأ بينهما علاقة حب ويتزوجا فيهديها العُقد, ويُنجبا طفلة اسمها "عزة". تواصل "فاطمة" عملها كصحفية ومناضلة سياسية. استشعر "إبراهيم" الخطر بسبب المقالات السياسية الجرئية التي تكتبها. عاودته مخاوفه القديمة التي قضت على مستقبله الصحفي، حذرها فاتهمته بالجبن والخوف من السلطة, بأنه يريد أن ينحني أمام الحكام. تشاجرا وتبادلا كلاماً جارحاً. استولت عليه الكراهية. زاد حقده عليها ونهشته الغيرة عندما رآها مع زميلها صاحب المطبعة. ربما لذلك وربما لأسباب آخرى عندما استدرجه أحد رجال المباحث للحديث عنها استسلم له، مما أدى إلى القبض عليها. لكنها قبل أن تهبط معهم خلعت العقد من حول عنقها ووضعته في سرير الطفلة.
"إبراهيم" في حالة ضياع وخوف وحيرة يترك الطفلة "عزة" في مهدها على باب الجيران ويترك معها زجاجة لبن والعقد.
قهر العجز الجنسي
يبدأ الجزء الثاني من الرواية بإحدى أطفال الشوارع تمد يدها من أعلى زجاج سيارة "يسري الجندي" الضابط السابق في الجيش . بين أصابعها علبة كبريت. الأسفلت الساخن يلسع بطن قدميها, فتقف وهي ترفع الواحدة بعد الأخرى. فوق الشفتين بثور صغيرة رمادية اللون. قاوم النفور الذي استولى عليه ليلبي احتياجاً غامضاً في أعماقه يُشبه إحتياج المرأة الوحيدة التي تلتقط كلباً أو قطة سارت وراءها. أخذها إلى بيته. كانت ذكية تُظهر شغفاً للمعرفة. تمتصها كما تمتص الأرض "الشرقانة" المياه. حتى تُواصل تعليمها النظامي منحها اسمه فأصبحت تُعرف باسم "عزة يسري الجندي". بعد الثانوية العامة اختارت دراسة الباليه. وصارت نجمة ساطعة في عالم الرقص.
يربط الحب والزواج بين "عزة" ويسري" . تجعله يتغلب على العجز الجنسي الذي أصابه عندما اخترقت شظية عموده الفقري أثناء الحرب. يعيشان أياماً فيها سعادة. لكن الآلام المبرحة التي يُعاني منها نتيجة لإصابته تزيد عليه. يطلب منها أن تخلصه من حياته بجرعة قاتلة من الدواء, فترفض. تخرج باحثة عن طبيب, وعندما تعود لا تجده.
في الجزء الثالث يلتقي " إبراهيم" بـ "عزة " صدفة في أحد النوادي. لا أحد منهما يعرف عن الآخر أكثر من اسمه, يمتد الحديث بينهما عن الرقص, والحياة, عن الطفولة وأحلامها, عن الرغبات الحقيقة التي يدفنها الناس في أغوارهم. مع مرور الأيام لا ينقطع الحوار بينهما إلى أن تقع عيناه ذات يوم على العقد ترتديه حول عنقها, فتعود الحقيقة نابضة أمامه.
في تلك الليلة بعد حوار طويل معها يهبط في الفجر ويستقل سيارته متجهاً إلى الأسكندرية, إلى حي "الإبراهيمية" ليكتشفه الناس جثة متعفنة تحمل في يدها وردة حمراء في الشقة التي كان يقطنها مع "فاطمة محفوظ" وابنتهما "عزة" .
غموض وتساؤلات
لا ندري هل مات "إبراهيم" أم انتحر؟ مثلما لا نعرف على وجه اليقين من هى أسرة خالته "فاطمة". هل حقاً كانت "فاطمة" خالته أم أخته غير الشقيقة ؟ لا نعرف من هى المرأة التي رآها مع أبيه. هل هى أمه الحقيقية ؟ هل المرأة التي نشأ في كنفها أمه أم زوجة أبيه؟ "فاطمة محفوظ" هى الآخرى لا نعرف من أين جاءت ولا متى.. فجأة لاحظ بعض الناس أنها أصبحت من سكان الحي. و"عزة" ظلت طوال سنوات طفولتها وشبابها لا تعرف لها أماً ولا أباً كأنها نبتت من بطن الأرض.
إن عدم معرفة الجذور الحقيقية لبعض الشخصيات الرئيسية في الرواية هو تعبير عن الإحساس بالضياع الذي يُعانيه الأبطال والبطلات. لكنه في جانبه الآخر يشي بأن ماضي الإنسان وأصوله يُمكن تجاوزهما . لأنهما لا يصنعانه، فالأهم ما سيُصبح عليه هذا الإنسان في الحاضر. وهو ما تُؤكده شخصيات الروائي النسائية اللائي تميزن بالحسم والقوة، والقدرة على الحب والإبداع. أما شخصيات الرجال فجميعها كانت تُعاني من تشوهات نفسية وجسدية بدءاً من شخصية "إبراهيم"، في فمه شيئ كالإعوجاج البسيط, كالضعف المستتر، والده كان يُعاني عرجاً في ساقه بسبب حادثة, والطبيب في قرية "البدرشين" كان يعاني عرجاً خفيفاً, في حين أُصيب "يسري الجندي" بالعجز الجنسي, وكان رئيس التحرير يُعاني مشكلة في التنفس, والخوف من السلطة.
مع ذلك فإن الجميع ضحايا. الرجال والنساء. إن شخصية "إبراهيم" بكل فساده وضعفه الإنساني كانت ضحية القيود التي شوهت حياته، قيود الفقر والخوف والحرمان ، قيود المجتمع والتقاليد، قيود السياسة والمخابرات المفروضة على حرية التعبير . النساء أيضاً كن ضحايا ، لكنهن امتلكن قدرة على مقاومة الهزيمة والفساد، على مقاومة الإحساس بالضياع .
يُفكك "شريف حتاتة" الواقع في روايته داخل منشور بصيرته وإدراكه ، مستخدماً تقنيات ثلاث. الصورة والتفاصيل والزمن المُتكسر. الصورة عنده مرتسمة بوضوح، فالوصف ليس تقليدياً ، إنما هو التصوير الذي يُجسم المكان والأشخاص ، ويجعل القاريء يرى ويلمس ويشم رائحة البشر. ينحت الأحلام والكوابيس وعشرات التفاصيل الحيّة الثرية بدلالتها الرمزية، والحكايات القصيرة، المنفصلة والمتقطعة أحياناً ، التي تساعدنا على إدراك معاني الأحداث ومصدر سعادة وشقاء الأبطال. هذه التفاصيل والحكايات القصيرة ليست متصلة بخط (كرونولوجي ) أي مرتب زمنياً ، بشكل تقليدي ، لكن عبر تقنية تكسير الزمن بالعودة للماضي " الفلاش باك" ثم الإرتداد للحاضر، فيبدو الحكي أقرب إلى التداعي الحر، وهو ما جعله يقترب من عالم النساء، ومن منطق الحياة الشعري .
تتعدد عنده التفاصيل والأجزاء والأفكار، مع ذلك تظل الرواية متماسكة كأنها وحدة واحدة تنمو وتتطور نفسياً في انسجام وفق قانونها الداخلي. يُساعد على ذلك أن كلمات الشخصيات وحالتها الداخلية وحركة أجسامها التي تتجلى على مستويات عدة تتضافر مع الديكور والإضاءة وقطع الإكسسوار، فتُكمل بعضها بعضاً أحياناً، و ربما تردد كالصدى إحداها الآخرى . في أحوال آخرى تكون في تناقض وتباين حاد فتعرى بعضها بعضاً . إنها دراما نفسية تكشف عن تناقضات النفس البشرية.
الموت والحياة
القصة التي تُحكى على لسان طبيب أمراض النساء ـ الذي تلجأ إليه "عزة يسري الجندي" في أحد الليالي لتلد ابنتها "فاطمة عزة الجندي" على يديه ـ تزخم بالصور التي تفوح منها رائحة الفساد الإجتماعي والأخلاقي والسياسي من خلال رصد حياة " إبراهيم " ورحلة صعوده حتى يُصبح رئيساً لدار نشر كبرى، بدءاً من تلاعبه بالرغبات الأنثوية للنساء اللائي قابلنه في حياته، مروراً بإتقانه لعبة "البلياردو" وقدرته على جني المكاسب عن طريقها . وترصد عالم من التأملات والإعترافات، من الخوف والصدق ، والعشق والحب والكره ، من الجنس والسعادة والحزن، من الغربة والألم . كذلك تتتبع حركة تطور المجتمع منذ عام 1948 والتحول الذي حدث في حياة الفلاحين عقب صدور قوانين الإصلاح الزراعي ، مروراً بهزيمة 1967, وأحداث 18 و19 يناير 1977 .
يبدو الموت محلقاً في أجواء الرواية التي تكشف مشاهدها عن قسوة وقبح الحياة، يتضافر معه بقوة حوادث الإختفاء والغياب والإعتقال . مع ذلك تظل الرواية مفعمة بالأمل، نابضة بإرادة الحياة .