فيلم هليوبوليس.. والمقارنة غير المنصفة مع «عين شمس»
(خرج من عباءة، أو معطف أو جلباب، فيلم عين شمس للمخرج إبراهيم البطوط..) هكذا يصف بعض النقاد فيلم «هليوبوليس» أول أفلام المخرج وكاتب السيناريو والمونتير أحمد عبدالله السيد الذي عُرض مؤخراً ضمن مسابقة الأفلام العربية بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الثالثة والثلاثين. لاشك أنه وصفُ به كثير من عدم الإنصاف لفيلم هليوبوليس ولمخرجه، ولايصب في مصلحة البطوط نفسه، لأن الثاني لم يتوقف خروجه على الأول، وسواء تواجد الأول أم لا كان مصير الثاني الحتمي هو الخروج إلى النور.
كما أن الحكم بأن «هليوبوليس» خرج من عباءة «عين شمس» يلغي من تاريخ السينما المصرية التجارب السابقة التي خاضها مخرجون آخرون قبل إبراهيم البطوط والذي يحلو للبعض وصفه برائد السينما المستقلة أو على حد تعبيرهم الأب الروحي لها، لماذا؟! لأنه لجأ إلى التصوير بكاميرا الديجيتال، ولأن أفلامه تنتمي إلى السينما الفقيرة بمعنى أنها تتحقق عبر ميزانيات فقيرة جداً حيث يستعين بممثلين هواة من فرقة حالة المسرحية، أو ممثلين ليسوا نجوماً دون أن يدفع لهم أجراً، وأحياناً يستعين بأشخاص حقيقيين لم يخوضوا تجربة التمثيل من قبل، ولأنه أيضاً لا يكتب سيناريو تقليدي به حوار مسبق لكنه يكتفي بوصف محتويات اللقطة والمشهد ثم يجعل ممثليه يرتجلون الحوار بأنفسهم.
مبدئياً الارتجال موجود في السينما العالمية منذ سنوات، أما في مصر فنذكر فيلم زوجتي والكلب سنة 1971 أول أفلام المخرج سعيد مرزوق حيث خاض تجربة الارتجال مع ممثليه وهو ما أكده الفنان نور الشريف أحد أبطال العمل. كان مرزوق يُخبر أبطاله (نور- محمود مرسي – سعاد حسني) بمضمون اللقطة ثم يطلب منهم أن يرتجلوا الحوار، لم تكن التجربة سهلة واختلف عبد العزيز فهمي مدير التصوير مع المخرج، لكن سعيد مرزوق أصر على وجهة نظره مُؤكداً أن السينما تحتمل التجديد.
سرقات صيفية
لا أحد يُنكر أن إبراهيم البطوط ينتصر للفن فقير الإمكانيات المُعبر عن الواقع، إنه نموذج يحاول الخروج من آليات السوق السينمائية التجارية، إنه يُقاوم الظروف الإنتاجية الخانقة وملابساتها من سيطرة النجوم وأجورهم الفلكية. مع ذلك لا يُمكن إنكار أن آخرون سبقوه في هذا المجال، مثلاً يوسف شاهين قام بدعم تجارب مُشابهة مثل سرقات صيفية عام 1988 أول أفلام المخرج يسري نصرالله. وهو الفيلم الذي اعتمد على أشخاص حقيقين ونجح في تنحية النجوم جانباً وهوما يُؤكده خطاب وقَّعه يوسف شاهين إلى سعد الدين وهبة نقيب المهن السينمائية ورئيس اتحاد النقابات الفنية بتاريخ 21/6/1987، ونصه: أتشرف بإحاطتكم بأن شركتنا تعتزم المساهمة في إنتاج فيلم تجريبي روائي بعنوان سرقات صيفية ولما كانت أحداث الفيلم تدور أساساً حول علاقة صداقة بين طفلين في سن الثامنة وحيث أن الأدوار الآخرى ثانوية ونظراً للطابع التجريبي للفيلم الذي سيتم تصويره في قرية أكياد بالشرقية بكاميرا 16 مللي وإزاء استحالة قبول الممثلين المشهورين للقيام بالأدوار الآخرى وعدم حصولنا على أية سلفة للتوزيع بسبب الطابع غير التجاري للفيلم فقد رأينا الاستعانة ببعض الشخصيات الحقيقية لأداء المشاهد التي تحتاج إلى أداء تمثيلي بالإضافة إلى مجموعة من كبيرة من الأطفال التي يدور محور الفيلم حول أدائها. وإني على ثقة كاملة أنكم ستقدرون أهمية هذه التجربة التي قد توسع مجال السينما المصرية الشابة ومتأكد أنكم ستبذلون ما بوسعكم لمساعدتنا على الحصول على الموافقة بالتصوير من كافة الجهات المعنية."
سينما مغايرة
جاء فيلم سرقات صيفية في ظل أزمة ممتدة كانت تعيشها السينما المصرية. أزمة ظلت تتفاقم منذ ما يزيد على ربع قرن. لم تكن القنوات الفضائية منتشرة كما هو الحال الآن لتُكن سوقاً مهماً لتوزيع الفيلم، كان الإعتماد الأساسي على التوزيع الخارجي للفيلم في منطقة الخليج العربي. كان الموزع يفرض أسماء نجوم معينة، ومن يرغب في تقديم عمل سينمائي كان عليه أن يستسلم لهذه الشروط، لكن يسري قرر عدم التورط في سينما مشابهة. كان يطمح إلى سينما مغايرة، لكنه لم يجد من يُعطيه سلفة توزيع، لذلك أصبح لزاماً عليه البحث عن بدائل.
قد يقول البعض أن "سرقات صيفية" إعتمد على تمويل خارجي، لكن الحقيقة كما يُؤكدها يسري نصرالله أن المساهمة الفرنسية كانت مساهمة بالمعمل والمكساج، وليست مساهمة مالية، والممثلون لم يأخذوا أجراً، وبفضل يوسف شاهين الذي أهداه المعدات كلها تحقق الفيلم الذي لجأ إلى تصويره بكاميرا سوبر 16 مليمترا، لتخفيض الميزانية وبالتالي تحرير الفيلم من قيود الميزانية الكبيرة التي تفرض الخضوع بدرجة أو بأخرى لمقتضيات السوق، ولنفس هذا الغرض أسند أدوار الفيلم إلى عدد من الممثلين والممثلات الهواة وعدد قليل جداً من المحترفين وإن كانوا ليسوا من النجوم. وفي تجربته الثالثة في مجال السينما الروائية قرر نصرالله تحقيق فيلم المدينة 1999 عبر تقنية الديجيتال لأسباب إنتاجية أيضاً ثم تحويله إلى 35مم.
أيضاً في عام 2000 ظهرت تجربة آخرى في مجال السينما المستقلة وبالتصوير عبر تقنية الديجتيال هى حبة سكر للمخرج حاتم فريد الذي باع سيارته لينفق على إيجار معدات التصوير، واشترك أصدقاؤه في التمثيل دون أجر، وساهمت أسرته في الأعمال الإنتاجية والفنية، لكنه لم ينجح في توفير تكلفة تحويل الفيلم إلى 35 مم، وذلك عكس إبراهيم البطوط الذي تولى المركز السينمائي المغربي تحويل فيلمه إلى شريط سينمائي.
المقارنة الفنية لصالح من؟
ليس الغرض مما سبق التقليل أو الهجوم على تجربة إبراهيم البطوط لأنه حتى لو اختلفنا معه حول التقييم الفني لفيلمه عين شمس، لا يُمكن إنكار أنه مخرج له طابعه المُميز وشخصيته الفنية الخاصة جداً، لعب دوراً في مجال السينما المستقلة، ويُحسب له دخوله في معركة حامية مع الرقابة من أجل حصول عين شمس على الجنسية المصرية، من أجل تغيير وإلغاء أحد بنود قانون الرقابة على المصنفات الفنية وهو البند الخاص بضرورة حصول السيناريو على موافقة الرقابة قبل التصوير، وهى خطوة لو كان قُدر لها النجاح لكانت فتحت ثغرة استطاع أن يَعبر منها عدد ليس بالقليل من صُناع سينما الديجيتال. مع ذلك حتى لو باءت محاولة إبراهيم بالفشل يُحسب له جرأته وأسبقيته في خوض مثل التجربة.
إختلاف
رغم أن فيلمي عين شمس وهليوبوليس ينتميان للسينما المستقلة ويعتمدان على أسلوب إنتاجي فقير يدعمه المنتج شريف مندور لكنهما فيلمان مختلفان فنياً تماماً، شكلاً ومضموناً، حتى لو كان في كل منهما جزء توثيقي، وحتى لو كان أحدهما يحمل اسم حي عين شمس، والثاني يحمل اسم ضاحية هليوبوليس أو مصر الجديدة. فيلم هليوبوليس يتفوق أساساً في البناء المحكم للسيناريو الذي كتبه مخرجه وحصل به على جائزة ساويرس للسيناريو 2007، وفي قدرته على ضبط الزمن النفسي لأبطاله ومن ثم تحقيق الصدق الفني والنفسي.
عين شمس الذي اشترك في كتابته تامر السعيد وإبراهيم البطوط فيلم مباشر يعتمد على الحوار الطويل، والتعليق الصوتي للراوي من خارج الكادر بشكل فيه استسهال أحياناً، في حين يعتمد هليوبوليس بشكل أساسي على لغة السينما، على الصورة. إحدى ميزات هليوبوليس أنه لم يحك كل شيء عن شخصياته، فقط سمح لنا بمراقبتها والتلصص عليها من خلال باب موارب، هو ليس فيلماً يبحث عن الزمن الضائع، ولكنه يُكثف بوضوح نتائج هذا الزمن الضائع، أو على حد تعبير مخرجه أحمد عبدالله السيد أنه ليس فيلماً عما يحدث ولكن عن مالا يحدث.
إبراهيم البطوط قادم من عالم التصوير لذلك يغلب على أعماله اهتمامه الشديد والملحوظ بجماليات التصوير، والتشكيل الجمالي للكادر، بينما أحمد عبدالله السيد قادم من عالم المونتاج فيغلب على فيلمه الإهتمام بضبط الإيقاع، بجعل المَشَاهِد واللقطات والمشاعر الإنسانية قادرة على التنفس بشكل صادق واقعي تلقائي دون أي مبالغات، وبقدرته على السيطرة الكاملة في أداء ممثليه دون أي مبالغات. في حين أن البطوط رغم قدرته على إدارة ممثليه لكن في بعض اللحظات لم ينجح في ذلك فتحولت التلقائية والطبيعية إلى افتعال زائد.
إذن لكل من المخرجين أسلوبه الخاص في الكتابة والإخراج رغم أن كليهما اعتمد على الإرتجال في الحوار لكن النتيجة النهائية لا شك مختلفة. ربما كان البطوط قد قرر مسبقاً أن يكون فيلمه مباشراً خالياً من الإستعارة والرمز الذي كان موجوداً في فيلمه السابق إيثاكي، ربما خامره إحساس ورغبة في الوصول إلى قاعدة عريضة من الجمهور، وهو ما قد نختلف معه فيه لأن إيثاكي وصل لعدد كبير من الناس البسطاء في معارفهم وثقافتهم رغم أن الفيلم لم يكن في بساطة عين شمس، ونعتقد أن كل من شاهده تأثر بشيء ما فيه، ربما يكون شيء غير ملموس له علاقة بالروح والإحساس.