السبت ١٣ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم حميد طولست

ثقافة االاعتذار - ٣

اعتذار الرؤساء، أوباما نموذجا.

 

جرت العادة أن يقيم الناس حصيلة عمل رؤساء دولهم وحكوماتهم بعد الستة أشهر الأولى من توليهم مقاليد التسيير، وإن لم تكن الفترة كافية للحكم المطلق على منجزات أي رئيس لأي دولة مهما صغرت، لأن العادة جرت أن يقضي الرؤساء جل تلك الفترة في دراسة الملفات الموروثة عن سابقيهم قبل محاولة معالجتها أو تقويمها. لكن عادة درجت بين سياسيي وصحافيي وخبراء أمريكا، خلال نصف القرن الماضي، في أن يقيّموا أعمال رئيس الولايات المتحدة بعد مرور مائة يوم فقط على تنصيبه. ويعود تقليد الاحتفال بذكرى أول مئة يوم من الرئاسة إلى الرئيس "فرانكلين ديلانو روزفلت" الذي تفاخر بقدرته على تمرير خمسة عشر تشريعا رئيسيا في تلك الفترة الوجيزة من توليه المنصب عام 1933.

 وقبل أسابيع أحيى الرئيس الأميركي باراك أوباما ذكرى مرور عام كامل، قضاه على كرسي رئاسة الإدارة الأميركية وسط تضارب في الآراء حول فاعليته خلاله، ومدى الرضا عن أدائه محليا وعالميا خاصة فيما يتعلق بوعود "التغيير" التي نادى بها إبان حملاته الانتخابية، والتي أظهرت استطلاعات الرأي الأميركية أنه «الرضا»انخفض إلى ما دون النصف على عكس بداية حكمه، ما جعل الفاشلين في حياتهم وسياساتهم من خصومه، الأمريكيين منهم وغير الأمريكيين، المتخصصين في إحباط إبداعات وقدرات ونجاحات الناس، الذين لا هم ولا هدف لهم، أو أن أقصى ما يتمنونه، هو أن يفشل كل الناس مثلهم، لأن نجاح الغير يؤرقهم ويؤلمهم. لذلك فهم دائما بالمرصاد لأي عمل ولأية مبادرة ولأي إبداع، يسقطون عليه وعلى أصحابه كلأمراضهم وأحقادهم وفشلهم.

 لكنه ورغم حقد هؤلاء الحاقدين، وكيد أولئك الكائدين، وإحباطات كل المحبطين، فقد أظهرت استطلاعات الرأي أن أداء الرئيس رقم (44) في لائحة رؤساء أمريكا، رغم انخفاضه فهو أفضل من الرؤساء السابقين الذين تفوق عليهم جميعاً، مما جعل منه أول "سوبر رئيس"، لأقوى دولة في العالم، وثاني أكثر رئيس أمريكي تأثيرا على الشعب بعد جون كنيدي -الذي لازال الأمريكيون يذكرونه إلى اليوم بكل الحب والتقدير- وذلك بفضل أسلوبه المتفرد الذي نجح مع الوقت في أن يقدّم نفسه كشخصية مميزة تحظى بثقة الأميركيين: الأبيض منهم والأسود، الفقير والغني، المسيحي والمسلم واليهودي وغيرهم، ما مد في عمر شعبيته واكسبه تعاطف الأمريكيين حتى بدأت العديد من الكتب تطرح بالأسواق عن مواصفاته وتاريخه.. وأكثرها مبيعا تلك التي تشرح «كيف تكون أوباما» أو«كيف تصبح مثل أوباما» في بضع أسابيع.

ويبقى اللافت حقا في السنة الأولى التي قضاها أوباما في البيت الأبيض، أنه للمرة الأولى يشهد العالم رئيساً يحاول جاهداً إضفاء قدر من الأخلاقية على السياسة الأمريكية حين رأى أن الخلل في بلاده يكمن في قواعد اللعبة السياسية التي تقيم وزنا لأصحاب المال والقوة والنفوذ فقط، فيما يضيع البسطاء من الناس ممن لا "لوبيات" أو قوى ضغط تمثلهم. وحين رأى أن المجتمع الأمريكي في حاجة ماسة لتغيير سلوكاته المشينة المتمثلة في السكوت والرضا بالواقع السيئ وعدم الاعتراف بالأخطاء المقترفة في حق الوطن وشيوع "قيم التبرير" السارية في أوصاله والتي هي سبب انتشار الكثير من الأمراض الاجتماعية الفتاكة.

لذلك نجده لا يتأخر في الإقرار بأخطائه في كل مرة يكتشف فيها ذلك أو ينقله الآخرون له؟ فهو الرئيس الأميركي الوحيد الذي لم يخف بعد نحو سنة على وصوله إلى البيت الأبيض خيبة أمله لبطء ما تحقق رغم جهوده الحثيثة لتحريك المياه الراكدة والعفنة التي لفت علاقات الولايات المتحدة الخارجية ومحاولة تنقية الأجواء وتلطيفها بما يخلق نوعا من الثقة مع الدول ذات الاختلاف الإيديولوجي، حيث حاور روسيا والصين، ومد يده للعرب من القاهرة، وهنأ إيران في عيد النيروز، ونطق ببعض المفردات الفارسية، ثم تحدث في البرلمان التركي.. إلا أن ذلك وغيره كثير لم يحقق ما صبا إليه من أهداف وطموحات بسبب الملفات الساخنة والملعونة التي وقفت في طريقه وأبطأت مخططاته، كنووي إيران، والقضية الفلسطينية، وبيونغ يانغ ومنظمة القاعدة.

وقد اعترف أمام مئات المصلين في كنيسة معمدانية في واشنطن "يسألني البعض لماذا أبدو دائما بهذا الهدوء (...) أريد أن اعترف لكم باني في بعض الأوقات لا أكون هادئا كما تظنون، وزوجتي تعرف ذلك تماما. هناك أوقات أجد فيها أن التقدم بطيء جدا، وأوقات أجد أن الكلمات الموجهة إلي جارحة، كما أن هناك أوقاتا يبدو لي فيها أن كل هذه الجهود لا طائل منها". وتابع قائلا "التغيير بطيء بشكل مؤلم، كما علي أيضا أن أواجه شكوكي أنا" وأوضح أن الإيمان هو الذي يساعده على الحفاظ على رباطة جأشه "لذلك علينا أن نتمسك بهذا الإيمان" وأضاف "معا سنتمكن من تجاوز تحديات هذه المرحلة الجديدة".

وقد سارع خلال حملته الانتخابية كمرشح ديمقراطي للرئاسة الأمريكية بواشنطن، إلى الاعتذار لمسلمتين محجبتين منعهما العاملون معه في الحملة الانتخابية من الجلوس خلفه خلال إلقائه كلمة في حشد انتخابي لكونهما محجبتين معتبرا أن تصرفات المتطوعين غير مقبولة، ولا تعكس بأي حال سياسة حملته ـ وقال في اعتذاره عن هذا "التمييز" في بيان "اتصلت بالآنسة عارف والآنسة عبد اللطيف، معبرا عن أسفي الشديد للواقعة التي حدثت من المتطوعين في ديترويت". وأضاف: "شعرت بإساءة شديدة، وسأواصل نضالي ضد التمييز ضد أناس من أي جماعة". 

 ونفس الشيء فعله بعد فوزه بالرئاسة مع الشرطي الذي اعتقل الأستاذ الجامعي الأسود، حيث إعترف له وللشعب الأمريكي بأنه لم يحسن اختيار التعبير عندما أعلن أن شرطة كمبريدج "تصرفت بغباء" في القبض على البروفيسور غيتس الخبير البارز في التاريخ الأميركي الأفريقي وصديقه الشخصي. حيث قال في اعتذاره "أردت أن أوضح أن اختياري لكلماتي بدا للأسف وكأنني أنتقد شرطة كمبريدج أو الشرطي جيمس كراولي خاصة". وقال أوباما "كان بإمكاني صياغة تعبيراتي بشكل مختلف" معترفا بأنه أسهم في تصعيد وتيرة الغضب حول الواقعة.
هذا الثراء في ثقافة التسامح والتعاون والتشارك والإشراك، والغنى في سلوك وثقافة الاعتذار والاعتراف بالخطأ، وهذه الكارزمية، وذاك الذكاء الذي مكن أوباما من الوصول إلى قلوب الناس، والذي استطاع بث بذور ذاك السلوك في جل تصرفاته، وزرع فلسفها في معظم خطبه التي ألقاها خلال سنته الأولى في البيت الأبيض، أوالتي قدمها أثناء حمأة حملته الانتخابية، وسباقه نحو الرئاسة،والتي لا حديث له فيها جميعها إلا عن "مد يد" التسامح والمصافحة وتفعيل العمل الدبلوماسي، المُوجّه للعالم كله وخاصة منه الموجه لصناع القرار في الوطن العربي والعالم الإسلامي، إضافة طبعا إلى الرأي العام العربي والإسلامي، الذي اعترف له أوباما بـ"وجود توتر شديد في العلاقة بين مسلمي العالم والولايات المتحدة الأمريكية" ما دفع بالرئيس الفرنسي ساركوزي يوما إلى تنبيهه في اجتماع مجلس الأمن الدولي لكثرة الاعتذار بقوله "إننا نعيش في عالم واقعي وليس افتراضي"

 كل هذه المواقف وغيرها كثير، لم تثر فينا نحن العرب –مع الأسف- أي شيء على الإطلاق، ولم تلفت أنظارنا رغم ما حملته من دلالات وإيحاءات تثير شهية من يريد التعلم والبحث في أسرار نجاح الدول والمجتمعات والأفراد على حد سواء. كالدلالة المميزة التي حملها اعتذار رئيس أهم وأكبر دولة في العالم لشرطي بسيط ومغمور. هذا الاعتذار الذي تعاملت معه المجتمعات العربية، حاكميها ومحكوميها بشيء من اللامبالات، ونظرت إليه على أنه خبر طريف وغريب، ولم يحظى عندها وعند إعلاميها بما يستحق من الاهتمام والتقدير، فلم تخصص له جل الصحف التي اهتمت بنشر الخبر إلا بضعة أسطر من صفحاتها الأخيرة والمخصصة في الغالب للأخبار الطريفة والعجيبة والمستملحات المسلية، دون أن تغوص كلها عميقاً في دلالاته الكبيرة، ومفاهيمه البالغة الأهمية، والتي لا تؤكد فقط على المغزى الحضاري للاعتذار الذي لا يخرج عن تعاليم الأديان السماوية الثلاث، وخاصة الدين الإسلامي والذي يعتنقه السواد الأعظم من شعوب العالم العربي، ويتماشى مع كل المذاهب الأخلاقية والضمير الإنساني الحي.. والذي هو جزء لا يتجزأ من صميم السلوكات التي لا يقدم عليها إلا الشجعان الذين لهم ثقة كبيرة بأنفسهم وقدرة خارقة على تحمل المسؤوليات.

 فلماذا يا ترى، تتوالى الاعتذارات منهم وبينهم، وتنعدم عندنا نحن؟ أ لأنهم أكثر أدباً وشعوراً بالذنب منا، أم لأنهم أكثر منا خطايا؟ أو لأننا لا نخطئ أبدا في حق بعضنا وفي حق غيرنا، أم لأننا نستنكف عن الاعتراف بالخطأ، كل مهما كان حجمها والتي انقسم الناس في إدراك خطورتها إلى أصناف وأنواع عديدة وكثيرة. حيث نجد منهم من ملك التأهب والشجاعة الكافية لمراجعة النفس مباشرة بعد وقوع الخطأ فيسارع للاعتذار عنه بلا مماطلة. ونجد الذين يبدون الرغبة في تصحيح السلوك بعد مراجعة النفس ومحاسبتها.. لكن مع بعض التلكؤ والثقل فيدبرون اعتذارات مغلفة وغير مباشرة لقلة العزم وضعف الشكيمة.أما الصنف الثالث والخطير والذي يشكل الغالبية العظمى من الناس والذين لا يحاسبون أنفسهم ولا يقبلون المحاسبة الذين يكابرون ويعاندون ولا يعتذرون لأحد رغم إدراكهم لحجم وفداحة أخطائهم، بل يطالبون الناس بكل صلف أن يتقبلوهم كما هم بأخطائهم وزلاتهم. وهذا النوع من الناس الذي يعاني بلا شك من ضعف في الشخصية، وقلة في القدرة على مواجهة المواقف، والعجز عن تحمل المسؤولية، يتمركز جلهم مع كل الأسف في المجتمعات العربية والإسلامية. بخلاف غيرهم من الغربيين الذين إذا أخطأ أحدهم-مهما كان مركزه ولو بدرجة رئيس الدولة- في حق الآخرين ثم كابر ولم يراجع نفسه ولم يعتذر، فإن الإعلام الحر والقضاء المستقل والمجتمع الواعي بكل منظماته وجماعاته وجمعياته المدنية والعسكرية يقوم بالتصدي له ويضطره للاعتذار وعدم تكرار الخطأ. فمن يقرأ صحفنا ويتابع ردود أفعال سياسيينا وإنتاجات كتّابنا وقرائنا، ليصاب بالذهول تجاه كمّ الاختلافات والتناقضات بيننا حول مفهوم الاعتذار والتسامح وقيمته، ولو كان في مصلحة الوطن والصالح العام، فإلى أي وجهة يجب أن نسير لنتشبع بهذه الثقافة المؤدية للتقدم والتنمية والعيش الكريم، وما دور الدين واثر التربية والتعليم في حياتنا العامة؟.

 لا أود أن أكون مبالغا أو طوباويا في الوصف أو مفتونا بظاهرة أوباما بقدر ما ارغب في اشارك القارئ الكريم في هذه التجارب والعبر التي تكمن في أن التحديات والإشكالات التي واجهت الرئيس الأميركي، لم يتم مواجهتها بتكريس ضعف الإدماج الاجتماعي، أو الاحتماء بـ"شرنقة" التبريرات كما يحدث في بلداننا المتخلفة. بل بالاعتماد على الإجماعات الوطنية، والنظم الثقافية المهيمنة والمبادئ والقيمة التي تحول دون تعدي الأشخاص على الحقوق والقواعد والقيم العامة المتعارف عليها، التي تمنع نزوع الناس عند الأزمات إلى ثقافتها الخاصة على حساب فكرة المواطنة. لذا لا يمكن بحال من الأحوال، توجيه اللوم والعتب لاوباما، فالرجل أمريكي حتى النخاع رغم أنف الجميع سار ويسير على نهج جميع الرؤساء الآخرين الذين عملوا بإخلاص لصالح وطنهم أمريكا، فلم يحاول الاصطياد في الماء العكر والمتاجرة بمشاعر الاستياء والرغبة في التغيير، بل خاطب في الناس القيم المشتركة والمبادئ والمثل التي تجمعهم، وربطهم بتلك المثل والقيم المقدسة التي صنعت أميركا، ولم يخضع للرغبات الانتخابية (استقالته مثلا من كنيسة شيكاجو) أو يخاطب الغرائز الانقسامية، كما لم ينشر خطابا ضحويا -من الضحية،والذي كتبت فيه مقالة تكشف حال سياسيينا الشكائين وكان عنوانه " الشكوى من الحكومة"- يتباكى فيه على ظلم البيض للسود، بل طرح منذ اليوم الأول أن أميركا للأمريكانيين ودعا الجميع للعمل للرفع من قيمتها بين الدول، رغم أنه يعرف كأي رئيس أميركي، أنه لا يعمل في فضاء مستباح لصنع

اعتذار الرؤساء، أوباما نموذجا.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى