انعقد بعد الزيادة في المحروقات
تلبية لدعوة الكثير من زملاء درب النضال النقابي القديم -الذي اعتزلته مند سنوات للتفرغ للكتابة- وعلى رأسهم العصامي العنيد والنقابي المشاكس السيد عبد المالك حريوش، رئيس اللجنة التحضيرية للمؤتمر الأول للجامعة الديمقراطية للنقل الوطني والدولي، الذي انعقد بمدينة فاس يوم السبت 2 /6 / 2012 والذي شاءت الأقدار أن أحضر، قبل خمس سنوات تقريبا، جمعها العام التأسيسي بمدينة الرباط.
وتحملاً لأمانة كلمة الحق، وهى أسمى أمانة يجب أن يؤديها ذووا الأقلام، وجدتني مدفوعًا برغبة كاسحة للكتابة عن هذه الملحمة النقابية السامية بأخلاق وسلوكيات منتسبيها، ومجرورا بالشعور العارم بواجب تجسيد هذه السافونية الرائعة التي أبدعتها شلة أرى فيها مناضلين صادقين أكفاء، انصهرت معهم، في زمن مضى، في نضاليات النقابة الجادة والصاقدة، والتي ما أحسب قلمي، مهما حاول، سينجح في نقل بعض مشاهدها الاحتفالية، والأخذ من معين انطباعات من حضروا عرسها النقابي، إلا بمقدار ما يأخذه منقار الطائر العطشان، من ماء غدير جارٍ.
وللصدقية والأمانة، حاورت نقابي خدوم محنك، ممتلئ بالحياة والديناميكية، شرب خمرة النضال والفكر والقيم حتى الثمالة النقابية، راغب في التحرر، طامح إلى الحق والعدل والرفاه. لا يصانع في حقوق القطاع مهما ضرسته الأنياب ووطأته بالمنسم، كما قال الشاعر، ولا يبدي امتعاضًا أمام ازدحام المشاكل، ولا تبرما من الأزمات التي يقابلها برباطة جأش وعزم قويين حادين ولهجة نارية هجومية مختومة بابتسامته ذكية، تذكّرني بالأيام الخوالي من حياتي النقابية حيث كنت كمن يحارب طواحين الهواء دفاعا عن حقوق العمال.
لم أطرح على محاوري تلك الأسئلة التعريفية المعتادة، لأنه يرفضها كما يرفض الشهرة والأضواء فبدأت معه هذا الحوار الذي لا اخفي القارئ الكريم أنه أعادني إلى أيام النضال الخوالي ما وأصابني بالحزن الشديد على حال بعض نقابات ونقابيي بلادي - صمام أمان الهزات الاجتماعية و الاقتصادية -التي يتم ذبحها وسلخ أحلامها على عتبات ومذابح غايات جبابرة النقابات التابعة للأحزاب السياسية والذين ليسوا سوى عبارة عن شخصيات ورقية كارتونية تعتبر نفسها ضرورة مجتمعية واقعا لا بد منه.
س: السيد عبد المالك... لماذا نقابة جديدة في ساحة تعج بالنقابات، ألا يكفي الميدان ما عرف من التشتت والتفرقة؟
ج: أولا وقبل أي شيء أشكر لكم اهتمامكم بهذه الشريحة المقهورة وبعد ذلك أقول "الكل يعلم أن غذاء الجسد هو الطعام الذي يتناوله المرء، فإذا كان طعامه لا يتلاءم مع معدته فإنها لا يمكن أن تتقبله وسترفضه لامحالة وبسرعة عن طريق التقيؤ، والكل يعرف كذلك أن غذاء العقول هي الأفكار والتصورات والرؤى الصادقة، فإذا كانت هي الأخرى ملوثة وغير نظيفه وكاذبة، فمن دون شك أن العقل سيرفضها ويدحضها بسرعة ويستبدلها برؤى وأفكار جديدة مثله في ذلك مثل كل أعمال أو سلوكيات مستهجنة تمنع الغير من تحقيق مطالبه وحقوقه في العمل والترفيه وتؤدي في الغالب، بالكثير الى العزوف عن الانخراط في العمل الجماعي، بل والخوف حتى من الخروج للمشاركة في الحيز العام الاجتماعي، سياسي كان أو نقابي، ولا شك أن عقول ذوي الألباب النيرة يرفضونها كما ترفض المعدة الغث من الطعام، ويبحثون عن البديل الصالح لتعويض زيف النظريات الخاطئة وخطوطها الحمراء التي وضعها جبابرة النقابات للاقتصاص ممن تسول له نفسه رفض الفوضى النقابية وعشوائيتها، واقتراف المطالبة بالحقوق المشروعة، وعلى رأسهم العاملين في ميدان النقل الذين يشعرون بنوع من الاستقلالية، ولو نسبية، ويعون قيمة دورهم كمحرك حقيقي للاقتصاد في صانعة الرفاه الاجتماعي والحياة السعيدة للشعوب والمجتمعات، كما يدل على ذلك الشعار الذي انتقيناه كعنوان لمؤتمرنا الأول هذا والذي يأتي بعد خمس سنوات من التأسيس والعطاء.
س: كيف تقيم العلاقة بين الأحزاب والطبقة العاملة ومنظماتها ونقاباتها، وهل لعبت الأحزاب دورا في تقوية النقابات العمالية؟
ج: في الحقيقة يمكن القول بأن الأحزاب المغربية على اختلاف توجهاتها وتنوع أيديولوجياتها لم يكن لها الدور الكافي في تعبئة الجماهير وخاصة الطبقة العاملة منها، ولم تلعب دورا فاعلا يكفي لأن تأخذ الطبقة العاملة دورها الحقيقي في عملية التغيير، فلم تكن هناك تعبئات كافية ولا توعية جماهرية فكرية متكاملة، -وحتى فاتح ماي قد دب إلى احتفالاته الفتور والفولكلورية ولم يعد يوما تأطيريا تحسيسيا بسبب الاحتقان السياسي السائد- ولا يعود سبب ذلك التقاعس لعدم وجود الدعم المالي الكافي الذي تتحجج به افتراء الكثير من المركزيات، لأن ميزانيات بعضها تفيض عن حاجياتها المنطقية لتسيير دواليبها والتأطير، لكن هناك أسباب أخرى أشد وقعا، أذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر: 1ـ تأسيس نقابات مسيطر عليها كليا من قبل الأحزاب الحاكمة ورجالاتها .2 ـ عدم التفكير بجدية بإدماج الطبقة العاملة في حركات التحرر. 3 ـ اعتماد جل النقابات النظام الأبوسي المرتكز كلية على الرمز الأوحد، والقائد الفذ، والفارس الهمام، ذي الطموح الجامح إلى الامتياز على الآخرين، والرغبة المجنونة باحتلال المرتبة المتفوقة ولو بغير حق، الذي لا تناقش قراراته وترد اختياراته والمبنية في غالبيتها على مصلحته ومصلحة المقربين منه الحزب الذي ينتمي إليه.
س: تطرق الكثير من المتدخلين أثناء الجلسة الافتتاحية لمؤتمركم الأول إلى أوضاع القمع والتسلط الممنهج الأعمى وغير المبرر المسلط من بعض الجهات المتسلطة على العمل النقابي والنقابيين الشرفاء، وإلتهاء زبانية وسماسرة بعض النقابات الوهمية بمصالحهم الشخصية وتنفيذ الغايات والنوايا المسيئة للعمل النقابي والمبيتة، هي السبب الرئيسي في تشتيت الوحدة النقابية والإساءة للطبقة العاملة، فكيف يمكن مواجهة ذلك وما هي الحلول المناسبة للخروج من هذا الوضع؟
ج: نعم كانت جل التدخلات مليئة بالغضب على الفساد علمة والنقابي خاصة، لكن كل المتدخلون كانوا أكثر حرصا على إنصاف كل الشرفاء والمخلصين، وتكريم أصحاب الإنجازات القمينة بالرفع من مستوى العمل النقابي وتحسين معيش المنتسبين له، من حرصهم على محاسبة الفاسدين ، ولم يحاول أي من واحد منهم الخرج عن التوجه الذي رسمته نقابتنا، ويرسم صورة رديئة للعمل النقابي بذهن المواطن المغربي، وكأنه وكر للسرقة والنصب وخيانة الأمانة، لأنه رغم وجود الفاسدين الكثير من الأجهزة النقابية –كما هو حال الكثير من المؤسسة- فإن ذلك لا يمكن أن ينسينا مئات، بل آلاف المخلصين الشرفاء الذين يذكروننا بأننا لسنا أمة فاسدة أو مجتمعا لم يحكمه إلا السارقون وقُطاع الطرق وأكلة اموال الناس والدولة, بل لدينا عشرات القوائم من القادة ممن حملوا الالقاب وتولوا المواقع وكانوا عبر عقود من التاريخ النقابي المغربي -وغيره من الميادين- وما زالوا يشكلون الاغلبية الساحقة التي شكلت رمز النزاهة والشرف, وقدموا لوطنهم كل ما لديهم من جهد وخبرات لتعبئة الطبقة العاملة وتوعيتها بحقوقها وواجباتها. ولذلك فإن المواجهة في هذه الظروف الصعبة والمحن الكثيرة التي يعيشها النقالة، وبالرغم من كل التحديات التي تطفو على الساحة، يجب أن تكون عبر التعبئة الفكرية والمعنوية وجعل الطبقة العاملة تتفهم أن مستقبلها سيكون، بالتأكيد، زاهرا لو تتمكن من التكتل والانتفاض ضد سوء وضعها المفتعل والذي لا تريد له بعض الدكتاتوريات المتسلطة الخروج منه ولا الفكاك عنه، ولا تسمح لمكوناته بكل أطيافها وطبقاتها من موظفين وعمال وفلاحين وذوي الدخل المحدودة والطبقات المسحوقة من المجتمع بأن تترفه- والذي جد ممكن والبدائل كثيرة ومتوفرة- لأنها تخاف حدوث ذلك خوفا عميقا لمعرفتها بأن ذلك لو حصل، وارتقى وضع العمال، ووعوا بدورهم وحقوقهم الذي لاشك سيساهم في تنمية أحوالهم وأحوال دويهم وعاشوا في رغد، فسيكون ذلك بداية نهاية المتسلطين وكراسيهم المهزوزة، كما حدث مع اغلب ثورات العالم التحررية التي كانت بؤرتها الطبقة العاملة الباسلة، التي بدأ مطافها ببعض التحسن في أوضاع العمال تلته مباشرة الوعي بالحقوق المشروعة والمطالبة بها، وانتهى بالانتفاضات العارمة التي لم يستطع إيقافها أي شيء حتى حققت أهدافها المرسومة.
والتأكيد ستحصل تغييرات في منظومة قيم الميدان النقابي بالمغرب، -وقد بدأت- لكن هذه التغييرات لن تتحقق بالصدفة أو بطريقة ميكانيكية، فلابد من دفع الثمن، وربما يكون ذلك الثمن غاليا وعبر مخاضات صعبة معقدة، ولكن النتيجة النهائية تكون، بالتأكيد، لصالح العمال ونقاباتهم التي جاءت بناءً على إرادة العمال عامة، والعاملين في ميدان النقل التي يراد لها أن تكون هيآت خاوية ومغلوب على أمرها- لخدمت مصالح النقالة بشكل شمولي يضم كل الميادين والنشاطات التجارية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية والتوعوية ويؤكد على العدل والمساواة بينهم وبين باقي المواطنين الآخرين كواجب وطني لا يجوز لأي مؤسسة عمالية التهرب منه.
س: اعتبر رئيس الحكومة زيادة درهم في اللتر الواحد من الكازوال وزيادة درهمين على البنزين، زيادة طفيفة لن تؤثر على أسعار المواد الاستهلاكية وعلى الوضع المعيشي للمواطنين عامة وعلى النقالة خاصة، كيف استقبلتم ربط الزيادة بمبرر إعانة المطلقات وتخصيص راتب شهري للمعوزين والفقراء.
ج: ما كان أحد من المشتغلين بالنقل -المعتمد كلية على المحروقات وتبعاتها التي إلتهبت أثمانها بعد الزيادة مباشرة- يتصور أن تقدم الحكومة الجديدة على ما أقدمت عليه في هذا الظرف الحرج وكيف تتصور هذه الحكومة أن يعمل النقالة على نقل المواطنين ونقل البضائع والمؤن بنفس التسعيرات السابقة ويؤدون الفرق من جيوبهم الخاوية أساسا، في ظل الزيادة الجديدة التي فاقت 13% في سعر الغازوال واقتربت من 20% في سعر البنزين، ولا يعتبرون ذلك ضربة موجعة لمصالح النقالة وقدراتهم التنافسية - حتى لو كانت الزيادة مبررة بأسباب إنسانية وفي مصلحة فقراء المواطن اوأرامله- في مثل هذه الظروف المتوترة والمزدحمة بالمشاكل البنيوية التي يعرفها ميدان النقل المغربي في كل المناحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتي لاشك ستدفع حتى بالعقلاء والمتعقلين إلى الاستياء والغضب والسخط والاحتجاج والتشنج الاجتماعي الذي سرعان ما يتحول إلى سمة مسيطرة على هذا القطاع الذي كانت مختلف مكوناته تنتظر من الحكومة الجديدة أن تحقق بعضا من آماله، وتحل ما يتخبط فيه من مشاكل مزمنة أو على الأقل التخفيف من حدتها ، فإذا بها تفاجئهم بإجرائها الخطير الذي شد الخناق عليهم وألحق بهم وبدويهم الضرر الذي سيعيد الكثير منهم إلى عتبة الفقر أو تحتها بدعوى محاربة الفساد وإعانة المعوزين.
فالنقالة كأكثرية المغاربة، لا تهمهم شروح أسباب الزيادة، بقدر ما تهمهم التدابير الحكومية التي من شأنها أن تحول دون تأثيراتها على قدراتهم الشرائية بشكل عام.
وبالطبع -نحن مع فقرائنا الذين نحن منهم-، ورغم كل ما يموج ويروج من التحديات الساخنة في الساحتين السياسية والنقابية، فإنه لزاما علينا أن نتحلى بروح التضامن مع فقراء بلادنا وأراملها ومعوقيها، لأن التضامن يدخل في صلب وأساس العمل النقابي الذي نسعى إليه، والذي يحدونا التفاؤل بأن اليوم الذي سيتطهر من جميع ما شابه من سوء التدبير والتصق به من شرور التسلط المعرقل لمساره ومسار البلاد نحو التنمية الرقي والتطور، آت بلا ريب، ليغير أحوال المجتمع المغربي، بقيام منظمات سليمة تحتكم إلى المبادئ الديمقراطية، تمثل وتعبر عن أحلامه المقهورين والنقالة منهم وتحقق أمانيهم، وتتجاوز الرؤية الأبيسة، وتستحضر بدلا عنها، النفس الإنساني المبني على المردودية والكفاءة التي تتشكل معها السلطة السياسي على أسس تنافسية بين جمعيات تطرح نفسها وبرامجها لتخليص المغاربة من كل من يخادعهم ويضحك عليهم بالوعود الكاذبة والبرامج الوهمية التي لا تساهم إلا في اضمحلال هذه الطبقة التي تشكل صمام أمان أمام الهزات الاجتماعية والاقتصادية والتي هي اليوم مرهونة في عالم الفقر والعوز.
س: كلمة أخيرة.
ج: بكل صراحة، إني أحمد الله عز وجل أن عشت هذا اليوم، الذي طالما تمنيته، ومنّ علي عز وجل بمنةِ أن أصبحت -لا لفضل لي، ولا لكرامة خاصة- واحدًا وسط هؤلاء الرائعين المكونين لهذا القطاع الحيوي، الذي سأبقى والكثيرين مثلي اعمل ما بوسعي لأجل تطوير النهج الديمقراطي الذي اعتقده والذي سيدفع العمل النقابي للأمام ليأخذ موقعه الحقيقي في خارطة النقابية البعيدة عن الرؤى الخاصة والضيقة المحكم فيها بالقرارات الحزبية البيروقراطية، وبنفس المناسبة أتقدم بتهانئي الحارة والنابعة من القلب لكل قدماء النقابيين –الذين تمت تكريم ثلة منهم في هذا المؤتمر- الذين ساهموا في استقلالية العمل النقابي وتحريره من عبودية وظلم المتسلطين.