ولم يسقط الإسلام؟
لا أخفيك سرا -أيها القارئ الكرام - أنني أعيش مند تولى بعض التيارات الإسلامية الحكم مصر وغيرها من البلدان تونس والمغرب وليبيا، ، حالة من الربكة الفكرية المرهقة، وأحس بالحزن الحقيقي، وأشعر بالغربة الشديدة، وتخالجني مشاعر غريبة كلما حاولت تفسير ما يحدث حولي من تناقضات، أو جربت تحليل النظريات التي يضعها منظرو البنى الدعوية والفقهية –و التي أشعر أحيانا كثيرة أنها لا تعيش معنا على هذه الأرض- لاستغلال والتحكم في الكثير من القضايا والمظاهر السلبية التي تعتري المجتمعات العربية والمغاربية، والتي لا تمت للإسلام بصلة ولا علاقة لها بالواقع الذي يعيشه الناس البسطاء به والبعيدة كل البعد عن موروثات ما يمتلكون من مقومات الأصالة الدينية ،والعمق التاريخي العظيم.. لتبرير نزوعات تأبيد وجه الاستبداد السلطوي المتمثل في كل القوى الإسلاموية، السلفية والجهادية والإخوانية وغيرها من الاتجاهات والتوجهات المحيِّدة للواقع والمتناسية له تماما.. وذلك لاستعراض ملكات صلاحهم وحدهم ، واثبات قدراتهم على القيام مقام كل البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والإنمائية، عبر الخلافة الإسلامية التي اتسعت رقعة الحديث عنها مباشرة اتساع رقعة النشاط السلفى -القائل بأنها فريضة يأتم من لم ينهض بها- ـــ وبعد ركوب التيارات الإسلاموية على كل الثورات العربية ، وفوز الإخوان المسلمين بأغلبية حزبية في مجلس الشعب تؤهِّلهم لتشكيل الحكومة، والذين رفع مرشدهم الدكتور محمد بديع صوته مبشِّراً بقرب تحقيق هدف مؤسِّس الحركة (حسن البنا) "الخلافة الإسلامية" التي نادى بها منذ عام 1928م أي بعد بضع سنوات من انهيار الخلافة العثمانية على يد الزعيم التركي (العلماني) مصطفى كمال أتاتورك عام 1924م، والتي نادي بها حمادي الجبالي الأمين العام لحزب النهضة التونسي هو الآخر في خطاب له أمام أنصار حزبه في سوسة كـ"خلافة سادسة". هذه التصريحات الخطيرة، لاشك تدعو لإثارة الشكوك في نوايا هذه الجماعات وأهدافها وغاياتها التي ليست لها علاقة -مهما ادعت من انفتاح وتحرر أو وسطية أو اعتدال- بصلاحية ما يطرحون من نظريات يحاولون إيجاد معالجات ناجعة لها لإيهام الناس بضرورتها كحل وترياق شافي لكل إشكالات واقع المجتمعات العربية والإسلامية بكل تنوعات تفصيلاتها، الدينية والدنيوية، ووجوب الإيمان بأنها شعيرة من شعائر الإسلام وفريضة من فرائضه التي لا مناص منها، والتي يجب على كل مسلم الدعوة لإقامتها بكل الطرق والوسائل حتى المحرمة منها كالديمقراطية المبنية في أساسها على العمليات الانتخابية التي لم يكن الإخوان المسلمين ولا غيرهم- قبل عقدين فقط من الزمان- يؤمنون بها، وكانوا يحرمونها ويعتبرونها غريبة عن الإسلام وأنها من مخترعات الغرب واليهود "وكذبة من أكاذيبهم،" رغم أنها كانت وراء سبب زخم وجودهم مع بدء الثورات والانتفاضات والهبات الشعبية.
وأرى أنه من الأليق قبل أن أمضي في هذا الموضوع الحساس الذي لا أزعم أنني أمتلك القول الفصل فيه، ولكنها محاولة مني لفتح حوار حوله ربما ينهض به من هم أجدر مني بفهمه والإحاطة بأمره، لابد لنا من تعريف لغوي واصطلاحي لـ"الخلافة" -التي يصرف لفظها كل حسب المجازات التي يريد، والتي تخدم ايديولوجيته العقائدية فتكسبها قدسية إلهية تحت سقف نفس الدين- فنقول مع القائلين أنها لغة: الخلف ضد قدام وخلفه يخلفه: صار خلفه، وخلف فلان فلاناً إذا كان خليفته يقال خلفه في قومه خلافة، وفي التنزيل "وقال موسى لأخيه اخلفني في قومي" والخليفة الذي يستخلف ممن قبله ويخلف من قبله والجمع خلائف وخلفاء، أما اصطلاحا فإنها: تعني عند الكثيرين وفي شائع القواميس: "أنها هى رئاسة عامة للمسلمين فى كل الدنيا" لإقامة أحكام الشرع الإسلامي، وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم بمعنى "أنه لا يجوز لبلد أو جماعة من المسلمين أن ينفردوا باختيار الخليفة، بل يتعين أن يبايعه المسلمون فى كل بقاع الأرض، ومن لا يبايعه يكون آثماً...بل إن من مات وليس فى عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية" ويستند الكثير من دعاة الخلافة و"الإمامة" أيضا، والتي الخليفة فيها هو المستخلف والسلطان الأعظم" إلى الآية الكريمة "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله" النساء- 105. وقد كان مقتل عمر بن الخطاب هو ما فتح الباب واسعاً أمامها و أسال لعاب الكثيرين حول سلطانها، وكان أول من قال بها وأدخل بالمسلمين إلى عالمها، هو الخليفة معاوية الذي كان يزعم: "والله ما أردتها لنفسى لولا أنى سمعت رسول الله يقول: يا معاوية إن حكمت فاعدل"، وقد توالى بعده الخلفاء الواحد تلو الآخر، ولكل منهم رأيه ورؤيته وممارساته التى تختلف حسب المصالحة الشخصية والقبلية لكل منهم، ما جعل الخلاف يسيطر على المختلفين ويتسع ليخلق صراعات سياسية وقبلية مكتسية فى كل الأحوالها الطابع الديني الذي يضفي عليها ما يكفي من القدسية التى تدفع بالإنسان للقتال والتضحية بحياته من أجل فكرة الخلافة، ما اضطر الكثير من الخلفاء قديما للبحث الدائم عن السند الديني الذي يبرر تفرعنهم وظلمهم وقهرهم للرعية وإملاء إراداتهم عليهم بحد السيف، وعلى سبيل المثال، نورد اجتهادات وفتاوى بعض أصحاب السلطة الدينية لتزكية أفعال السلطان "الخليفة" وتبرير قهره لرعيته ومن أشهرهم أبو بكر الطرطوشى الذي جعل في ظلم الحاكم منفعة عظمى لمحكوميه حيث يقول: "وإذا كان الخليفة قاهراً لرعيته كانت المنفعة به عامة، وكانت الدماء فى أُهبها محقونة، والحرم فى خدورها مصونة، والأسواق عامرة والأموال محروسة".
ولم يقف الطرطوشى عند هذا الحد، بل تمادى في البحث عن مبررات أقوى لاستبداد الخليفة، فجعل الإنفراد بالسلطة والسلطان دليلا على وحدانية الله سبحانه وتعالى، في قوله: "فالله سبحانه وتعالى جبل الخلق على عدم الإنصاف فمتى لم يكن لهم سلطان قاهر لم ينتظم لهم أمر، ولم يستقر لهم معاش ومن الحكم التى وردت فى إقامة السلطان أنه من حجج الله على وجوده سبحانه، ومن علاماته على توحيده. العالم كله بأسره فى سلطان الله كالبلد الواحد فى يد سلطان الأرض "أبوبكر الطرطوشى- سراج الملوك- الباب السابع- ص159.
ــ أما الشعراء وهم رموز الثقافة فى ذلك الزمان والذين يتبعهم الغاوون، فقد أمعنوا فى تملق الخلفاء ووضعوا كل موهبتهم فى خدمتهم كما نقرأ عند أحدهم:
إن الخليفة قد أبى وإذا أبى شيئاً أبيته.
وأيضاً:
أبوك خليفة وكذاك جدك وأنت خليفة وذاك هو الكمال.
والفرزدق يقول:
فالأرض لله ولاها خليفته وصاحب الأرض فيها غير مغلوب.
ويتفوق عليه جرير فى نفاق الخليفة قائلاً:
ذو العرش قدر أن تكون خليفة وملكت فاعل على المنابر واسلم.
أما ابن هانئ الأندلسى فيتفوق على الجميع فى نفاق يصل إلى حد الهرطقة:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار.
فكأنما أنت النبى محمد وكأنما أنصارك الأنصار.
ولم يخرج مرسي وغير ممن يحلمون بالخلافة عن هذا نهج القدامي ، فوضفوا هم أيضا الدعاة والوعاظ الذين أكثروا لهم من الفتاوى التي تبيح لهم قتل الشعوب من أجل كرسي الخلافة ،ولاشك أن الدعوات التي سلطها وغاظ مرسي في أحد مؤتمرات التجهيل والتي وصلت في بعضها أن أحد كبار وعاظة قال أنه رأى النبي في جمع غفير من المسلمين وحل وقت الصلاة فطلبوا من الرسول أن يؤم بهم ، فأبى وقال : بل يصلي بكم محمد مرسي . وغير ذلك من الخزعبلات التي يؤمن بها من غيب عقله وأصابه عمى الحقيقة ..
ولعل هذه السلطة المطلقة التي بررها الفقهاء بفتاويهم وتغنى بها الشعراء في قريضهم، قديما وحديثا ، هى التى أطمعت الكثير من الإخوة وأبناء العمومة وحتى الأمهات فى الاستيلاء على مواقع الخلافة عبر المكائد والغدر وسفك الدماء كما توضح ذلك النتائج الرقمية التي حفظها التاريخ ، فمن بين 14 من الخلفاء الأمويين، و22 من العباسيين، أي 36 خليفة في المجموع، قتل منهم 17 غيلة في صراع كانت في غالبيتها شخصية أو قبلية تخطت كل الحدود المعقول، حيث كان جل قتلاها، إخوة أو أبناء عم، بل إن إحدى الأمهات اغتالت ابنها الخليفة لأنه لم يقتسم معها السلطة لتأتى بابن آخر ضعيف حتى تتمكن من التمتع بشهوة السلطة، وتحكي قصص هذا الصراع الكثير من الغرائب التي من بينها أن عثمان بن عفان نفى أبا ذر الغفاري إلى (الربذة) عندما كرر المناداة بأنّ ما في بيت المال هو مال المسلمين وليس مال الله. وقصة عبد الملك بن مروان الشاب الذي انتقل إلى المدينة وأقام فى مسجد الرسول يقضى يومه وليله يصلى ويقرأ القرآن، حتى سموه "حمامة المسجد"، واستبشر الناس خيراً إذ تولى الخلافة، فإذا به يقول ما قال: "والله ما يأمرنى أحد بتقوى الله بعد مقامى هذا إلا ضربت عنقه"، ولم تكن حال يزيد بأقل غرابة وخطورة من هؤلاء ، فقد أباح «المدينة» لجنده ثلاثة أيام يقتلون ويسلبو وينهبون، ويقال إنهم افتضوا بكارة ألف فتاة، ما جعل وجه يزيد يتهلل فرحاً ويرتد إلى قبليته ذات الصبغة الجاهلية، فيذكر موقعة بدر حيث وقف سكان المدينة من الأنصار (الأوس والخزرج) مع الرسول فهزموا جيش أبى سفيان جد يزيد وأنشد:
ليت أشياخى ببدر شهدوا فزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلوا واستهلوا فرحاً ولقالوا ليزيد لا فشل.
ورغم محاولات فقهاء السلطان تبرير فكرة الخلافة، فإنها تبقى صناعة إنسانية تستهدف مصالح دنيوية لا علاقة لها بالدين ولا تهدف إلا إلى جلب المكاسب المادية وتلبية شهوات السلطة والتسلط للداعين إليها، ما دفع بالكثيرين من الصحابة تجنب الوقوع فى فخوخها، أمثال الصحابى الزاهد أبو ذر الغفارى الذي اضطرته شدة رفضه لها إلى الصياح قائلاً: "والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هى من كتاب الله ولا سنة نبيه. والله إنى لأرى حقاً يُطفأ، وباطلاً يحيا، وصادقاً مكذباً وأثرة بغير تقى".
ورغم حقيقة المواقف الفقهية من الخلافة والتي نقرأ منها على سبيل المثال لا الحصر: ما قاله الشهرستانى فى كتابه "نهاية الإقدام": "إن الإمامة ليست من أصول الاعتقاد"، وما قاله الجرجانى فى "شرح المواقف: "إن الخلافة ليست من أصول الديانات والعقائد، بل هى من الفروع المتعلقة بأفعال المكلفين"، وما قاله الإمام الغزالى فى "الاقتصاد فى الاعتقاد": "الإمامة ليست من المعتقدات"، وما قال أبو حفص بن جميع فى "عقيدة التوحيد": "إن الإمامة مستخرجة من الرأى وليست مستخرجة من الكتاب والسنة"، وقول الآمدى فى "غاية المرام فى علم الكلام": "واعلم أن الكلام فى الإمامة ليس من أصول الديانات، بل لعمرى فإن المعرض عنها لأرجى حالا من الواغل فيها، فإنها لا تنفك عن التعصب والأهواء وإثارة الفتن والشحناء".وهو ما حدث في مصر والكثير من البلدان التي حكمتها الجماعات الإسلامية ، عفوا: المتاسلمة..
وحتى لا أطيل أكتفي بهذا القدر من أقوال الفقهاء التي لا تعد ولا تحصى التي يستند فيها قائلوها إلى فهم صحيح لآيات القرآن الكريم وسنة النبي الشريفة والتي دفعت بالصحابى سعد بن أبى وقاص إلى رفض الاشتراك فى هذا القتال معلناً: "والله لا أقاتل حتى تأتونى بسيف له عينان وشفتان فيقول هذا مؤمن وهذا كافر"، وذلك بسبب بواعث "الخلافة’ البعيدة عن الشعائر الإسلامية، وأهداف سلطانها المفترضة والمتخيلة الأكثر بطشاً وإيلاماً والأبعد ما تكون عن واقع أنظمة حكم هذا العصر، والتي ينادي بها مع الأسف الشديد، بعض القادة الذين كنا نحترم تاريخهم النضالي الطويل الحافل بالمواقف المشرفة، وتميز علاقاتهم المتينة والمدهشة بأوطانهم وبأمتهم وما حملوه نحوها من آمال وتطلعات, والذين تحولوا فجأة بعد الربيع العربي إلى قادة وقيادات تسعى لبناء إمبراطوريات القهر والاستلاب التي تسيطر عليها فكرة القطب الواحد التي تنقل العالم العربي والإسلامي من سلطة الظالم اللاديني إلى سلطة الخليفة المطلقة باسم الدين، كما كان إبان الخلافة العثمانية والعباسية والأموية، والتي لاشك تنعدم جدواها في عصرنا الحالي أمام ما وصل إليه غيرنا من رقي وتحضر بدون اللجوء إلي هذه النوع من الحكم الذي يبقى اندفاع الإسلاميين نحوه مجرد ديماغوجية وانتهازية لا طائل ورائها، وشعارات سياسية/دينية تاريخية لا فائدة ولا جدوى ترجى من ورائها حتى لو كانت خلافة من البحر إلى البحر في ظل ما يعرفه العالم العربي والإسلامي من فساد سياسي وإداري وجميع أشكال الفقر المعرفي والمعيشي في كل مكان من البلاد، وأنها لن تُقدم ولا تُؤخر سوى دغدغة مشاعر بسطاء الناخبين، وقد تجلب سلبيات لا يؤمن جانبها، مادمنا لا نملك معرفة ولا صناعة، حتى البسيطة منها، فضلا عن الصناعات التقنية المتطورة.
فلماذا يا ترى هذا الإصرار على هذا النوع من نظام حكم يسعى -في عالم ثالثي متخلف - الى تقسيم الناس فيه إلى أقلية تملك كل شيء وأغلبية لا تملك حتى الماء الذي تشربه، وتعيش الحرمان والجوع والتلوث الفكري والديموقراطيات الفاسدة والزائفة ،وفي عصر لا تحتاج فيه عزّة الإسلام ورفعته إلى كيان دولة امبراطورية مسلمة ؟، بل إلى أوطان مستقرّة ناهضة يبذل فيها أبناؤها جهد طاقتهم للأخذ بأسباب الرقي والمدنية والحضارة العلمية والتقنية والمنهج العقلي المبدع، وتتحد في التمسك بالثقافة والروح والأخلاق الإسلامية، ولا تحول الحدود الجغرافية وأنظمة الحكم الوطنية دون مشاركتها في تطور هذه العناصر كلها بدل الانغلاق على الذات بشكل شره ومشوه وجاهل ..