ثلاثة محاور في قراءة قصة – النخلة المائلة – لمحمد علي طه
أولا النص:
النخلة المائلة [1]
" أعلم أن الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام،الذي هو أول جسم إنساني تكون، وجعله أصلاً لوجود الأجسام الإنسانية، وفضلت من خميرة طينته فضلة، خلق منها النخلة، فهي أخت لآدم عليه السلام، وهي لنا عمّة، وسماها الشرع عمة، وشبهها بالمؤمن، ولها أسرار عجيبة دون أسرار النبات".
أرض الحقيقة- الفتوحات المكية
محيي الدين بن عربي
وأخيرًا أعود أليك يا مبروكة بعد غياب طويل. غياب قسري. ملعون أبو الغياب وأبو الفراق. ما أمرّها! الشوق يقتلني.. وعلى كتفيّ محنة أيوب. صبرت حتى عجز الصبر. اغتالوني وأنا أصب قهوة الصبح في الفنجان. قتلوني مرات عديدة. نهضت من بين جثث الموتى كما قام المسيح.
هي خطوات وسألقى جسدي المتعب على صدرك مثل محارب عائد من الوغى ليرتمي بين ذراعي أمه.. ذراعي زوجه!
قبلاً سأقبّلك، لم يعرف الحب مثيلاً لها!
سوف تلسع جسدك حرارة أنفاسي المتقدة. نار مشتعلة منذ عقود. حرقت جسدي وأضوته.
هل تحتاجين إلى لحظات أو دقائق لتتعرفي عليه؟ عليّ؟ على ما تبقى مني؟!
كانت الحرب سجالاً. كرٌّ وفرّ.
ذقت حلاوة النصر أكثر من مرة وطعمت حنظل الهزائم مرات. وعلى الجسد يا مبروكة ندوب لا تحصى قد التأمت. وفي روح ندوب عميقة ما زال ينكأها الزمان صباح مساء!
هل ستتعرفين على شعري الأسود الطويل الذي كانت أمي تتمتع في تسريحه في أثناء زرقة الشمس؟
تركت أصابع الزمان على خصلاته بصمات!
هنا مر الإبهام. وهنا رجّلته السبابة والإصبع الوسطى! وهنا حك الخنصر والبنصر جلدة الرأس!
كان الزمان يسير..
وكنت أعدو..
ما قعدت يومًا وما عرفت القعود!
مستنشقًا هواء الفجر المضمّخ بعبير البرتقالة ساعة.. ومنتشيًا ببرودة نسيم البحر المنعش الذي مسحت وجهه الأسمر وعنقه المتجعد مشى!!
يقولون إن أيوب وصل إلى شاطئ البحر متحاملاً على جسده الواهي الناحل المقروح وألقى جسمه فيه وغاص لحظات فخرج سليمًا معافى.. جسدًا شابًا قويًا يتنشف بالنور!
كان يحاول أن يستنشق الهواء بشراهة لذيذة كأنه غير مصدّق أن هذا الهواء له. هذا الهواء كله له.
يعرف.. وما أدراك ما المعرفة؟ّ!
يعرف رائحة النسيم الذي تلبى عليه. يعني شذى الأرض!
الهواء فوق تراب "البيّاضة" بارد ومنعش في الصيف. ونسيم الصباح في "رباع الست" يذكر الفتى بعطر امرأة شابه تمرّ بجواره...
يتضرع في الجو ويملأ الخياشيم ويحرك الشهوات النائمة. وأما هواء "المراح" فيحمل رائحة الأنعام.. الأبقار والماعز والأغنام.
ويـغذ الخطى.
محمولاً على بساط من الشوق أعود إليك يا مبروكة. مرفوع الصدر. ذراعاي مثل جناحي نسر.
أسمعك. يا هلا. يا هلا!
ويسير.
نابشًا بليونة الفجر ذاكرته الغنية ليفتح خوخة الذكريات النائمة في أعماقها.
يتذكر أسماء مواقع الأرض. أسماء التلال والدروب والشعاب والسبل. سائلاً عن رائحة الهواء في هذه الهضبة في سويعات الصباح وعن نعومة النسيم فوق ذاك المنحنى.
قلب العاشق دليله.
من هنا!
يلفظها في سرّه مكويًة بالزفير.
على هذا المنحنى كنا نعدو مثل الحملان ونطير مثل الفراشات الملونة. نتسابق وراء عصفور بني الذنب. نتسابق على ورده برية شذت بلونها الليلكي عن أترابها الحمراوات. نعدو من زهرة إلى زهرة وراء طزيز.. من شجيرة قندول تفتحت أزهارها الذهبية وتمايست مع شعاع الشمس تراقص النسيم وقد لف ذراعه حول خاصرتها إلى شجيرة بطم ضحكت أوراقها للنهار وفاح عطرها في الفضاء. نتعثر بعود يابس استراح على الأرض ملتاعًا على الحياة.. بحجر خضبه التراب وبحجر لفعه العشب الطري. ننهض ضاحكين. تسخر منا الفراشات. يصفق الطزيز.
يركض خطوات. تتقافز الحشرات والهوام والطيور مذعورة تصفق له أوراق العشب.يلهث. يتعب. يقف.
لقد كبرت يا يوسف العلي وكبر الزمان معك، ورسم على وجهك خطًا بل خطين. وبنى سخام التبغ في صدرك مداميك سوداء مثل الغربة. ستون عامًا يربضون على كتفيك بما يحملون من الغربة والذل.. من الجوع والحرمان.. من المطاردة والرحيل.. من التحدي والإحباط.. من الكفر والإيمان..من الفشل والنجاح!!!
ما ضل صاحبك وما هوى!
يحفظ سفر الخروج عن ظهر قلب. رواه يوسف العلي للرفاق على سفوح جبل الشيخ. في الكهوف. في ليالي الشتاء القارس.يحكي عن آدم وحواء. عن قابيل وهابيل.القاتل والقتيل.الفردوس المفقود.
كان يروي السفر واقفًا.
كان يحكي مستلقيًا والبندقية بجواره.
وكان ينام وهو يقول.. ويقول..
يقولون له : كفى يا يوسف العلي! ألا تمل! ألا تضجر! إن كثرة الاستعمال للكلمة تقلل قيمتها وتفقدها جمالها!
ويردّ قائلاً : يقرأ المسلم صورة الفاتحة ثماني وعشرين مرة في اليوم فهل فقدت السورة بلاغتها وجمالها؟!
يرتشف شايه الساخن مع رفاقه في الفجر وهو يحدثهم عن حلم قصير راَه في المنام.
حينما أسندت ظهري على مبروكة وأغمضت عيني في غفوة لذيذة سمعت وحيًا يقول : وهزي إليك بجذع النخلة يتساقط رطباَ وجنياَ.
لماذا تضحكون؟
ليست معجزة!
مبروكة تعرفني. تحبني. تنتظرني.
أنا يوسف العلي ذو الشعر الأسود الطويل والقميص المزركش. كنت إرقص حولك مع أخوتي السبعة.
نقفز ونغني.ونرتمي عليك.
" مبروكة يا مبروكه
يا عين أمك وابوكِ!! "
تضحكون؟
لا يهمني. قولو ما شئتم! أنا.. أجل أنا يوسف مبروكة!وهل في هذا عار. لا عار إلا العار.والعار هو أن لا أنساها. لا أحلم إلا بها! ألا أتغنى بها..
قادمًا في ليل الغربة الدامس ممتطيًا جوادًا أصيلا ً من الشوق. في الصدر عشق. وفي الذاكرة حكايا.
كان أبي يسبح في لحظات الوجد ويقول إن الله خلق النخيل في الجنة وفي دار الإسلام. ولم يختر فاكهة سوى التمر لتتغذى بها ستنا مريم حينما وضعت سيدنا عيسى عليه السلام. كانت شاهدة الميلاد ولباه وحليبه!! والنخل ذات الأكمام. يا يوسف العلي.ليس كل ولادة ولادة.
وليست كل قابلة قابلة.كانت النخلة قابلة مريم ومن رطبها تلبى وليدها!
" مبروكة يا مبروكـه.
يا عين أمك وابوك
بالدم زرعناك
وبالدمع سقيناك
واجا الغربا سرقوك "
لو كنت معي يا أبي الآن!
لو تكحلت عيناك بنور الأرض الخضراء. بزهر القندول. بشقائق النعمان.بورق الشجر الطالع مبتسمًا من البراعم.
لو مشيت على سجادة خضراء نسجها مبدع قدير وزركشها بالأقحوان والنرجس والبرقوق وعصا الراعي ولفة سيدي وإبرة ستي وعين البقرة وعرف الديك.. تهمس لك : يا هلا يا علي.
ولكنك رحت. مت.
ضيعني أبي صغيرًا وحملني الهم صغيرًا!
اسمعها.. اسمعها تناديني. صوتها الرخيم يقول لي : تعال. أنا ما زلت على العهد. الحارة والزقاق. البيت والمدرسة.الحاكورة والبئر درب الملايات. السور والياسمينة المتعمشقة على حجارته العتيقة. البوابة وحذوة الفرس والخرزة الزرقاء. الخوخة. القنطرة..
" تعال.. تعال..
يا طيورًا طايره!
يا وحوشًا غابره
سلمو لي عَ يوسف العلي
وقولوا له :
تعال شوف مبروكه
كيف صايره!! "
غير مصدق ما ترى عيناه.
لا يعي ما تسمع أذناه.
واقفا ً مشدوهًا.
أين؟
يتمتم. يردد.
تخرج الكلمات من شفتيه الناشفتين.
أين؟ أين؟
البيوت. الزقاق.الناس. القنطرة. الخوخة. الياسمينة.
هل لجأوا معنا؟
هل انشقت الأرض وبلعتهم؟
أين آثار خطاي التي شاهدتها في أحلامي الوردية؟
أين الأمل الضاحك؟
ماذا بقي من الوطن؟
أين عصافير الدوري التي كانت تقفز حولي في ساحة البيت؟
أين ساحة البيت؟
أين البيت؟
ويحدق بعينيه المتعبتين..
ويجد مبروكة.
الشاهد الوحيد. لا شيء سواها!
يعرفها. يسير إليها. يمشي. يهرول. يقفز.. يعدو.
وأخيرًا أعدو إليك يا مبروكة.يا عشيرة الطفولة. يا وفية.يا من حافظت على العهد!!
أتذكرينني؟ أتذكرين أترابي وأخوتي ونحن ندور حولك نرقص ونغني. ونلهو نرتمي على جذعك.
محدقًا في جذعها العتيق باحثا عن بصمات أصابعه وآثار قدميه الصغيرتين حين كان يتسلق عليها.
مبروكة الباسقة. ذات الجذع الطويل العالي.
مبروكة التي مات أبوه وهو يحكي عنها. لا تنبت مبروكة إلا في بلاد المسلمين والجنة.
يعانقها.
تخزه أضلاعها الجافة.
ويتذكر فاطمة. فاطنة الحلوى. فاطمة الزهراء. بنت الجيران. كان يكتب لها الرسائل القصيرة ويدسها لها في جذع مبروكة لتأخذها حينما تأتي لتملأ جرتها من بئر الماء.
فاطمة اليانعة.. الخضراء.. جفت مثل عود يابس.
فاطمة التي دفنتها الطائرات في مخيم عين الحلوة تحت أنقاض البيوت الطينية.
باحثًا في جذع مبروكة عن فاطمة.
عن ورقة.
هل هي رسالته الأخيرة أم جوابها؟
وفيما هو يبحث تنبأ أن جذع النخلة مائل. مائل كثيرًا. مبروكة منحنية.
مبروكة مائلة.
وتراجع خطوات..
يا الله..
حتى أنت يا مبروكة؟
ما الذي حنى جذعك الباسق ؟
الحنين؟
الغربة؟
الزمان؟
قولي لي يا مبروكة. قولي لي!!
أود أن أسمع صوتك الذي سمعته في الليالي المعكورة.
أنا يوسف العلي.
أنا الفتى التي كان يقفز حول جذعك الباسق ويتسلق عليك؟
ما الذي حناك؟
هل انحنيت لتصمدي أمام الريح؟ أم انحنيت لتشمي رائحة أهل الأرض؟
" مبروكة يا مبروكه
يا عين أمك وابوك
لومي مش ع الزمن
لومي ع اللي راحوا وهجروكِ "!!
ثانيا:
ثلاثة محاور في قراءة قصة – النخلة المائلة – لمحمد علي طه
هذه القصة هي حكاية الحنين للوطن، للماضي، وللأحبة، فيها المزج الرائع بين الواقع والفانتازيا، وبين الصدمة والحلم، وبين الإنسان والأرض.
يوسف العلي في الستين من عمره يزور أطلال بلاده، حيث مرتع الطفولة وموطن الأهل، ولا يجد من معالم بلاده سوى النخلة " مبروكة "، فهي ما زالت راسخة. يعبر الراوي عن لواعج شوقه وحرقته ومعاناته بسبب الغربة التي نشأت إثر التشريد قبل خمسة عقود.
يخاطب النخلة فـ " يشخصنها " أو " يؤنسنها "، فهي "عشيرة الطفولة "، فلا بد إلا أن يحكي لها عن كل ما مر به من نكبات أو وثبات. فها هي الأرض /النخلة رسخت في وجدانه، حيث لا ينسى الروائح في الطبيعة، بل يعرف أسماء التلال والدروب والشعاب والسبل. ويراوح بين الماضي الجميل والحاضر الممض، ويسترجع أمامها غناءه لها، بل عشقه إياها، فقد ورث هذا العشق عن أبيه الذي مات ولم يفتر عن ذكرها. ويخيل له أن النخلة تخاطبه، وتؤكد له حفاظها على العهد، بل إنها ترد على أغنيته بأغنية، فيختلط الأمر على الراوي، ولا يكاد يصدق.
وفي خضم ذكرياته تطل شخصية فاطمة بنت الجيران التي كان يكتب لها الرسائل القصيرة، ويدسها في جذع " مبروكة " لتأخذها، ونتعرف من خلال تداعياته على مصير فاطمة التي لاقت مصرعها في مخيم " عين الحلوة ".
ها هو يبحث عن أَثر لفاطمة في جذع النخلة، وفيما هو مقبل على ذلك يتنبه إلى انحناء جذع النخلة – إنه مائل كثيرًا.... يتساءل عن سبب أنحنائها : أتصمد أمام الريح؟ أم أنها انحنت لتشم رائحة الأهل في الأرض؟ ولا يملك إلا أن يمضي في غنائه الحزين :
مبروكة يا مبروكـه
يا عين أمك وابوك
لومي مش ع الزمن
لومي على اللي راحوا وهجروك.
قراءة القصة :
سأعمد إلى هذه القصة من خلال ثلاثة محاور أو أنماط قرائية مختلفة، وذلك حتى أطل عليها من جوانب مضمونية وشكلية تؤلف كلاً قصيًا واحدًا، وإليك هذه المحاور :
أ - قراءة ما ورائية –نصية :
وهي القراءة التي تجمع الخلفية التراثية التي تواشجت في القصة، لنرى أن "النخلة" لم تنشأ في ذهن القاص من فراغ أو مجرد اختيار، وإنما هي مرتبطة كرمز في الوجود الفلسطيني، وإلى حد بعيد ومدى واسع.
النخلة_ أولاً - هي شجرة عشتار المقدسة " إلهة الخصب" _ويقال إن هناك علاقة بين النخيل وتوالي الولادة والاستمرار أو معنى "الفينيق" [2]، بل هناك من يرى أن طائر الفينيق هو طائر النخيل [3]، وتبعاً لذلك فقد كانت بلاد فنيقيا / بلاد كنعان وطنًا يكثر فيه النخل، مما أكسب النخل مكانة هامة تواصلت جيلاً بعد جيل.
أذكر ذلك لأن بداية القصة توحي بذلك. يقول الراوي :
" اغتالوني... قتلوني مرات عديدة، نهضت من بين جثث الموتى... "
أليست هذه الأقوال دالة على أسطورة الفينيق أو موحية بثباته أيضًا كالنخلة أو الفينيق؟
وإذا انتقلنا إلى لقطات أخرى، فإننا سنجد نخلة "نجران" التي عبدها بعض العرب، كما سنرى أن المسيح ولد تحت النخلة [4]، فخاطب القرآن مريم :
" وهزي عليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبًا وجنياً " [5].
ويرى بعض المفسرين أن الشجرة كانت قديمة العهد منذ أكثر من ألفي سنة " وكانت منحنية " [6] لاحظ تسمية القصة لدى الكاتب.
والوقوف على النخل ليس مستحدثًا في تاريخنا الأدبي، فهذا الشاعر مطيع بن إياس يقف على نخلتي حلوان، ويبكي أحزانه، ويتحدث عن الفرقة التي حالت دون اللقاء بهما، ولا أرى بعدًا كبيرًا بين معاني القصيدة وبين كثير من معاني الراوي ومعاناته.
يقول الشاعر :
أسعداني يا نخلتي حلوان
وارثيا لي في ريب هذا الزمان
واعلمـــا أن ريبه لم يزل
يفرق بين الألاّف والجيران
ولعمــــــري لو ذقتما ألم الفرقة
أبكاكما كمــــــا أبكانــــي
كم رمتني به صروف الليالي
من فراق الأحباب والخلان [7]
أما كاتبنا أو الراوي فيقف على نخلة واحدة هي رفيقته التي واكبت طفولته، وانتظرته حتى عودته، وهو يخاطبها من خلال التنفيس عن نفسه والتعبير عن ألم الفرقة الذي أبكاه، وعن صروف الليالي، وكيف " أتى عليه ذو أتى ".
إن وقفته تجعلنا نستحضر في أذهاننا كذلك وقفة عبد الرحمن الداخل أمام النخلة ، فقد رآها أمام قصره في الرصافة، فخاطبها قائلا :
نشأت بأرض أنت فيها غريبة
فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
وفي القصة الفلسطينية سبق أن قرأنا لنجاتي صدقي قصة " الأخوات الحزينات " التي كتبها في يافا سنة 1947، حيث يتحدث فيها عن خمسة جميزات يقفن في صف واحد، وكان يقابلهن بناء عربي قديم، وذلك من منطقة بيارات عربية. وإذا بالشجرات يصبحن ( تصبح ) أسيرات في عالم غريب عن العالم الذي نشأن فيه. يسند الراوي رأسه إلى جذع شجرة، ويحلم أن الخمس شجرات يصبحن خمسة شخوص أو أخوات يتذاكرن جوانب المأساة الفلسطينية. وتنتهي القصة أيضًا بمعنى الثبات والصمود : "وصحوت من غفوتي، وكانت رياح الخريف تعصف بشدة، فتهز كل شيء، إلا أنها لم تقو على تلك الشجرات، فقد ظلت راسخة كالطود [8].
أما النخلة في القصة التي نتناولها فهي باقية على العهد، صابرة، متحدية، ومشاركة، وقد اختار الشاعر هذا النوع من الأشجار بسبب صبرها على الظمأ وثباتها في الأرض، وحتى يكون مبرر لهذا البقاء وتواصل التاريخ وعودته كطائر الفينيق، فالنخلة لها معنى يختلف عن معنى الجميز، ووحدتها لها دلالة أعمق من اجتماع عدد من الأشجار معًا. وهي شجرة متفاعلة مع الحدث أكثر من سواها.
وإذا عدنا إلى القصة وتناصاتها فسنجد هناك الغناء الشعبي، كما نجد الآيات الكريمة غير مباشرة أو مستخدمة بتغيير ما في الكلمة لتلائم الموقف، فها هو يخاطب النخلة بجملة : "ما ضل صاحبك وما هوى " [9]، وهو قول مستقى من الآية : "ما ضل صاحبكم وما غوى " _ يفعل ذلك ليستخدم لفظ صاحبك - أيتها النخلة - وما هوى سواك ولا أحب إلا أرضك.
أما قول امرئ القيس
" ضيعني أبي صغيرًا ، وحملني دمه كبيرًا "
فيحوره الكاتب إلى " ضيعني أبي صغيرًا وحملني الهم كبيرًا "
كما أنه ينقل تجربة أيوب، ويتحدث عن " الفردوس المفقود " بالمعنى الحرفي للوطن، أو سنة الخروج _ ويعني سنة التشريد أو التهجير. بالإضافة إلى الاقتباسات الأخرى المباشرة، من القرآن : [ والنخل ذات الأكمام ]، يا يوسف العلي... كانت النخلة قابلة مريم ومن رطبها تلبي وليدها " [10].
يمثل هذا الحشد الزاخر من الإيحاءات أو المرجعيات منطلقًا للقصة، فترتفع النخلة بسموقها القصصي، وهي بالتالي توصلنا إلى لوحة تتجلى فيها النخلة مرسومة، أو يتجلى فيها المتلقي الصابر، أو المهاجر الذي عاد للنخلة الصابرة - سيان. هي لقطة من مصورة يقف القاص فيها مسترجعًا، مستوحيًا، مستلهمًا ، وبانيًا لعالم من الواقع والخيال معًا.
ب_ قراءة أسلوبية - نصية :
إن الخطاب الأدبي يقدم نفسه من خلال اللغة. واللغة بإشاراتها الخفية والظاهرة ترتبط لدى الكاتب بواقعها الاجتماعي ومؤشراتها البيئية ، ولما أن كانت اللغة هي الفاعلة في النص فإننا سنجد أنها تغوص في الأرض وتنداح عليها، ذلك أن المعجم اللغوي الدال على الأرض ومفرداتها وما يستخرج منها ظل المكون الأول والفعلي لحبكة النص.
قدمت اللغة في القصة قدرة سردية من استرسال العبارات وتلاحق المعاني، كما مزجت بين تعابير من التراث وأخرى من واقع الحال، واستعانت بلغة غنائية متصلة إلى حد مكين بمشيمة المعنى.
لنلج إلى دوالّ من ذلك :
يقول الكاتب : "يفتح خوخة للذكريات النائمة في أعماقها... " ( ص 8 ) ، فهو لم يقل مدخلاً، أو بوابة أو بابًا وكلها جائزة له، ولكنه استحضر " خوخة " ليتواصل مع ماض وواقع.
ويقول : " يتنشف بالنور، " ما قعدت يومًا ولا عرفت القعود " ( ص 7 )، " ملعون أبو الغياب وأبو الفراق "، " في أثناء زرقة الشمس " ( ص 6 ) ... الخ.
ومثل هذه التعابير مستسقاة من اللغة الدارجة هي أقرب ما تكون لمحاورة أو على الأقل لملامسة واقعية. فإذا قال " من شفتيه الناشفتين " ( ص 12 ) فهو يتعمد الوصف حتى نستسقي صورة التشقق على هاتين الشفتين، وإذا قال " ولكنك رحت " فهو يعني الموت وما هو أكثر منه، يعني كذلك الحسرة عليه، ويعني الزمن الذي تلا ذلك. وتورد القصة أسماء للأماكن ( البياضة، رباع الست، المراح.. الخ ) وأسماء لنباتات، وأخرى لطيور، وتصب هذه كلها بمعنى التشبث بالوطن، حتى لتدل هي بذاتها على معنى الوطن. إن الراوي خبير كذلك في الروائح بالوطن، وها هو يحبب لنا حتى " هواء المراح " الذي يحمل رائحة الأنعام _ الأبقار والماعز والأغنام، فيحول بذلك رائحة القرف إلى حالة التشوق والارتباط، إذ أن قلب العاشق دليله، والراوي
" يعرف " رائحة هذه الهضبة في سويعات الصباح، ويعرف رائحة النسيم فوق ذاك المنحنى
"، ولا عجب فالمكان راسخ في وجدانه، وما المكان إلا البيت الذي أشار إليه غاستون باشلار : " وهكذا فإن الكون الفسيح يصبح إمكانية لكل الأحلام عن البيوت. الرياح تنبعث من قلبه، والنوارس تطير من نوافذه. إن بيتًا يملك هذه الدينامية يتيح للشاعر ( القاص ) أن يسكن في الكون... أو يفتح نفسه للكون ليسكن فيه، ولكن في لحظات الطمأنينة يعود الى قلب هذا المأوى - كل شيء يتنفس من جديد " [11].
أكاد أقول إن الكاتب جند لهذه القصة كل ما تحتضنه طبيعة الأرض الفلسطينية وعاداتها ( نحو حذوة الفرس، الخرزة الزرقاء ) ، وبناياتها ( نحو الخوخة، القنطرة... )، وهي - على العموم - تضفي هذه الواقعية بشحناتها المؤلمة.... فتحديد الطبيعة التكوينية يسوق إلى تبيان يساعد الشخصية المحورية - هذه الشخصية التي قد تكون هنا :
أ_ الراوي ، ب_ النخلة، ج _ المكان بتفاصيله وجزئياته. فكل من هذه الافتراضات له / لها سيادة في إنتاج النص. وتأتي أهمية المكان في كل افتراض كمية وكيفية، ذلك لأن الكمّ هنا مخفي، فقد كانوا وعاشوا وسعدوا وراحوا وهلكوا.أما على مستوى الكيف فيبدو أن للمكان طاقته الاختيارية في تعميق العلاقة بينه وبين الراوي، وقبل ذلك بينه وبين الوالد علي ( يلاحظ أن اسم والد الكاتب هو علي؛ وهذا من شأنه أن يقودنا لحالة المطابقة بين الفن والمرئي )، فمشاركة المتلقي في إنتاج النص تأتي من توقعه بأن الكاتب قد عاش حقًا- بصورة ما - أو على الأقل أن له معايشة وجودية ونفسية - هي معايشة الرؤية العميقة الشاملة المتحركة من زمن إلى زمن وصولاً إلى زمن آخر.
اللفظة على المستوى الكمي والكيفي تكتسب قوة وإيحاء، فإذا قرأنا قوله " ستون عامًا يربضون على كتفيك بما يحملون من الغربة والذل... "(ص9) فإن استخدام لغة الجمع المذكر ليدل بذلك قصدًا على القوة والتسلط والعتو.
أما استخدام الحال - نحويًا - في بداية الجملة فقد كان دليلاً على منطلق الراوي الأولي :
– " مستنشقًا هواء الفجر المضمخ بعبير البرتقال ساعة... "(ص7)
– " محمولاً على بساط من الشوق أعود إليك يا مبروكة "(ص7)
-" نابشاً بليونة الفجر ذاكرته الغنية " (ص8)
-" قادمًا من ليل الغربة الدامس ممتطيًا جوادًا أصيلاً... "(ص10)
وعلى غرار ذلك كان يقدم ( خبر كان ) وكأنه نوع من بيان الحال :
" محدقًا في جذعها كان يتسلق عليها "(ص13) أو يقدم المصدر : قبلاً سأقبلك، بل إنه يحذف أحيانًا الفعل الذي يجعل الاسم منصوبًا نحو :
" واقفًا مشدوهًا
– أين؟ "(ص12)
( بدلاً من " وكان واقفًا مشدوهًا "... )
أو
" باحثًا في جذع مبروكة عن فاطمة "(ص13)
بدلاً من " وكان...... "
وهذه النماذج وغيرها تؤدي إلى التوصيل البدئي. إنه يبدأ بالحالة الأهم - وهي مدار الحديث أو الحدث. وهذا التقديم كان مصاحبًا لغنائية لفظية...وكأنها ترانيم حزن في مبنى النص.
وما دام الكاتب يسترسل في أداء العبارات ملاحقًا المعنى بالمعنى فإنه يخلق نوعًا من الدرامية؟ فإذا سأل " أين؟ "(ص12) فإنه يواصل ذلك بتكرارية نعهدها في الشعر الحديث _ وبصورة بارزة، فكل سؤال بلاغي يحمل إثارة، كما يحمل شحنة من استيحاء الماضي. فكانت أسئلة " أين... " تدور حول المادة المحسوسة والمعنى، وهذه كلها تصب في إرض الوطن، في أرض النخلة.
ثم إن الجمل المتصلة المتراسلة تأتي في القصة بغية التوضيح أو إلقاء ضوء آخر معبر، وذلك على غرار :
" يعرفها. يسير إليها.يهرول. يقفز. يعدو(ص12). "فهذه الأفعال المتعاقبة هي حركية تدل على معناها، وبالتالي فهي انفعالية. وعلى نحوها :
" مبروكة تعرفني. تحبني.تنتظرني "(ص9)،
" يلهث، يتعب، يقف "(ص98)، ومثلها كثير.
أما التشبيهات فقد كانت تُستقَى غالبًا من جو المكان والبيئة :
"ذراعاي مثل جناحي نسر"(ص7)،
" فاطمة جفت مثل عدو يابس "(ص13)،
" نعدو مثل الحملان، ونطير مثل الفراشات الملونة "(ص18)،
" يتعثر بعود يابس استراح على الأرض ملتاعًا على الحياة " (ص8)،
ففي هذا النموذج الأخير نجد في آلـية النقل من حالة الراوي إلى حالة العود اليابس، وهو تشبيه فني وإسقاطي _ حسب مفاهيم علم النفس.
وهذه التشبيهات من واقع الحال نجدها كذلك في قوله :
" وبنى سخام التبغ في صدرك مداميك سوداء مثل الغربة " (ص8)، فسوداء مثل الغربة هو نقل حاسة إلى أخرى.... وتراسلها على صياغة ما اصطلح عليه في البلاغة الحديثة " الحس المتزامن.
وإذا أضفنا إلى لقطات الواقعية سردًا على النحو " وهو يقول... ويقول " أو نقل التساؤل المعبر " لماذا تضحكون؟ " ( ص 9 )، فإننا ندرك أن هذه القصة وظفت لغويًا بما يعكس المضمون، وشحنت المعنى بواسطة المبـنى المعبّر والموصِل.
ج - _ قراءة تأويلية - نصية :
التقديم أو " الفرش " الذي سبق القصة مستقى من " أرض حقيقية - الفتوحات المكية لابن عربي "، حيث أنه يعمد إلى بيان فضائل النخلة إلى درجة كونها أختًا لآدم - خلقت من فضلة التراب الذي خلق منه فهي لنا " عمة ".
كمان يمكن أن أقبل هذا النص مقصورًا على المستوى الثقافي المحض، ذلك لأنه ليس موظفًا على المستوى الفلسطيني خاصة، بل هو وارد في سياق ديني أو إسلامي قِيمي أو صوفي.
فالحديث " أكرموا عماتكم النخل "، يشرحه القزويني : " إنما سماها عماتنا لأنها خلقت من فضلة طينة آدم عليه السلام "، ومضى بعد ذلك يشرح مبلغ التشابه بين الناس والنخلة:
"... ولو قطع رأسها لهلكت.. ولها غلاف كالمشيمة التي يكون الجنين فيها... ولو قطع منها غصن لا يرجع بدله كعضو الإنسان، وعليها ليف كالشعر يكون على الإنسان... وإذا قاربت بين ذكران النخل وإناثها فإنه يكثر حملها لأنها تستأنس بالمجاورة " [12]، فأنسنة النخلة لدى الكاتب كان موقفًا، كما أن اختيار الصفة " المائلة"، يُعيدنا إلى نخلة مريم "المنحنية"،وبالتالي فالنخلة هي رمز فلسطيني كنعاني هو الفينيق- رمز التجديد والانطلاق، ورمز الصبر والثبات مهما تناوحت الرياح وكانت هوجاء.
ويجيز خطاب الحداثة أن يحمل العنوان ما قد يفترض من أن المبدع يتعامل مع اللفظة بقدر من الحساسية،لذا فإنّ النفاذ إلى أعماق اللفظة وكنهها والتغلغل في احتمالات أبعادها من شأنه أن يتجه بنا إلى الجوهر – هذا الجوهر المشحون بكثير من الموروث النفسي والتاريخي سواء كان المبدع على وعي بذلك أم لا.
إن النخلة المائلة بكل ما تحمله من مصابرة ومرابطة ترتبط بصبر الراوي - أو لنقل بصبر الفلسطيني المشرد. فالصبر كان مترددًا –موتيفًا –لازمًا، يمثُل تارة بصورة مباشرة، وطورًا بالرمز "أيوب"، الذي ذكر في القصة في سياقين مختلفين:
أما الأول فقد كان مباشرًا ووصفًا مجردًا، و أما الثاني فقد ورد على صورة حكاية قصيرة جدًا تقول إنه تقاوى على نفسه...حتى وصل إلى البحر فخرج معافى. فلا بدع إذن أن يصل الراوي إلى مسقط رأسه، وإلى النخلة حتى يعود أيوب الجديد معافى كذلك.
يتمثل الراوي في أثناء عودته أن الهواء كله له، أنه يشم التربة، يستجلي محاسن الأرض، يعانق النخلة فتخزه أضلاعها الجافة. ولكن لا بأس! (ص13). يربط بين تكرارية علاقته بالنخلة كتكرارية قراءة الفاتحة وما من ملل.(ص9)، والتساؤل (أين؟) جزء من المبحث عن كينونته، فأين طيور الدوري التي كانت تقفز حوله في ساحات البيت؟ ولكن أين البيت؟ (لاحظ هذا التدريج أو التدرج في المبنى المتناقص).
ثم "أين فاطمة اليانعة الخضراء التي جفت مثل عود يابس؟"؟ - وفاطمة مثال لهذا الضياع الفلسطيني المريع.
وتظل القصة تؤكد هذا الحنين الرومانسي حتى في تصميم الراوي الذي كان يستلقي في المنفى وبندقيته إلى جانبه.
النخلة المائلة إذن هي منحنية أمام الصدمات والنكبات، وها هو يتساءل عن سر انحنائها، ويضع لذلك ثلاثة احتمالات كلها تصب في مراح واحد، وكلها تعكس مشاركتها الإنسان في عذابه ووصبه، وكذلك في أشواقه وحنينه.
إن هذه القراءة في المعنى التأويلي هي احتمالية أو افتراضية، وإن صدق الزعم فإنّ لكل موضوع دال - عددًا أكبر من المعاني،وبعضها يتداخل فيما بينه. وبالتالي فإن الكتابة إذا انطلقت مجازية أو استعارية فهي تدل على حشد من الصور، وعلى طاقة بنائية خلاقة- وهي خلاف الكتابة الواقعية المجردة التي تنشأ من فراغ.... أو تؤدي إلى فراغ.
غير أن القصة تفاجئنا في السطر الأخير بهذه الحدة الموقفية:
"لومي مش ع الزمن
لومي ع اللي راحوا وهجروكِ "
إن هذا الخطاب حتى ولو ورد في صورة أغنية قد يحتمل معنى أن نتهم –مباشرة وغير مباشرة- مثل هذا الولد المعذب يوسف ومثل أبيه علي - الذي ظلت أحلامه تعانق النخلة حتى رمقه الأخير، فأغفى وهو يحتضنها، وهو يتلمس كل رائحة من تلك الأرض التي نزح عنها، وبالطبع فهذا الموقف في الأغنية هو آني وعاطفي وعابر.
المصدر:
طه، محمد علي: النخلة المائلة، دار الهدى، كفر قرع، 1995.
المراجع:
- القرآن الكريم
- الأصبهاني، أبو الفرج: الأغاني، ج 13، دار الثقافة - د.ت.
- باشلار، غاستون: جماليات المكان(ترجمة غالب هلسا)،ط3،المؤسسة الجامعية، بيروت-1987.
- بيومي مهران: دراسات في الشرق الأدنى القديم، دار المعرفة الجامعية، القاهرة،1997.
- الثعالبي: ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، دار المعارف،القاهرة، 1985.
- خان، محمد: الأساطير والخرافات عند العرب،دار الحداثة، بيروت-د.ت.
- شوقي،عبد الحكيم : موسوعة الفولكلور،مكتبة مدبولي، القاهرة-1995.
- القزويني:عجائب المخلوقات،ج1، دار التحرير للطباعة والنشر، القاهرة،د.ت.
- ياغي، عبد الرحمن: حياة الأدب الفلسطيني الحديث، منشورات المكتب التجاري للطباعة، بيروت-د.ت.