الأحد ٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠
في حوار مع الكاتب طلال حماد:
بقلم توفيق عابد

ثمني هو الوطن

يأسرك بدماثته وسعة ثقافته.. اعتقل وجاع وافترش مطارات عربية أياما وليال. يستفزه الظلم وفقدان البوصلة.. يعشق الحرية ويعتبرها مفتاح الإبداع. له ثلاث مجموعات قصصية تدق أحداثها بالقدس هي “شهادات على باب القدس” و”مطر على النافذة” و”موت غامض وتفاصيل أخرى” ورواية بعنوان “وجوه وأقنعة”. باختصار هذا هو الروائي الفلسطيني طلال حماد الذي يصنف بأنه من أبرز مؤسسي المسرح الفلسطيني بعد نكسة حزيران 1967. “الحكواتي” و”بلالين” وهما أشهر فرقتين مسرحيتين بالقدس وضعتا أساسات المسرح الفلسطيني.. في هذا الحوار يتحدث عن تجربته.

◆ أثناء زيارتك للوطن الفلسطيني كيف رأيت المشهد الثقافي؟

◆ أثناء زيارتي للوطن التقيت مسرحيين ومثقفين وجرى حديث عن الوضع الذي يعيشونه ويعايشونه ففهمت أن الوضع صعب ومضغوط فهم يعانون من صعوبة تنفيذ أو إنجاز مشاريعهم الثقافية والفنية عامة والمسرحية بخاصة وبالذات في منطقة القدس، فكثير من النشاطات الثقافية بالمدينة المقدسة تمنع من قبل سلطات الاحتلال حتى حفل توقيع كتاب.. وقد عانى المسرح الوطني الفلسطيني “الحكواتي” من مضايقات الاحتلال لدرجة أن السلطة المحتلة كانت تلاحقنا حتى في المراكز الثقافية لسفارات أجنبية حيث منعت إقامة عرض مسرحي في المركز الثقافي الفرنسي.

ومن خلال الأحاديث الكثيرة، هناك كثير من مثقفينا عاجزون عن بلوغ المستوى أو مواكبة الواقع وتجاوزه من خلال الكلمة والكتابة والإبداع بشكل عام، وبعضهم يحظى بما لا يحظى به كثيرون، لكن هذا لا يعني أنهم برغم ما يتمتعون به ينتجون ما هو مطلوب في مواجهة الوضع الأليم الذي تعيشه فلسطيننا المحتلة.

الوحيدون الذين ينشطون ويكتبون ويصرخون بصوت عال هم أدباؤنا وشعراؤنا في فلسطين 1948.

فالواقع الصعب عام وشامل، فبعضهم يحتفظ بالاسم ويحفظ له وآخرون يسعون بألم للبحث عن هامش من الحرية للكتابة، فإذا لم تكن حرا فإنك لن تنتج أدبا حرا.

ومنذ عام 1994 حتى الآن أفادني كثير من الشعراء والكتاب من الداخل الفلسطيني بأنهم انتظروا عودة كتابنا ومثقفينا من الخارج من الرحلة التي سميت برحلة العودة، بأمل كبير لأن يساهم ذلك في نهوض ثقافي يدعم ويدفع إلى أعلى مستوى الصورة الثقافية الفلسطينية التي كثيرا ما شغلت الساحة الثقافية الأدبية والفكرية العربية وامتدت فروعها لأكثر من مكان، لكنهم اكتشفوا أنهم وهم الذين كانوا يعيشون تحت الاحتلال أن عليهم هم الارتقاء وحمل المسؤولية كما كانوا سابقا وأكثر.

لن أسمي أسماء غابت في الحياة أو الموت فمن الواضح أن الثقافة الفلسطينية والأدب والشعر الفلسطيني فقد قامة كبيرة كانت تسمى وسيظل اسمها محمود درويش، وقبله آخرون كغسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا وتوفيق زياد وأميل حبيبي.

هناك أمران، الأول معجزة الكتابة في زمن الرقابات بما فيها الذاتية التي قد تتجاوز أحيانا الرقابة الرسمية أو السائدة للسلطة أو الاتجاهات الأيديولوجية المختلفة، والثاني هو الانكسار الناتج عن واقعتين هامتين في التاريخ العربي المعاصر هما زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات للقدس واتفاق أوسلو الذي أضر بقضيتنا ونتج عنه اتساع الهجمة الاستيطانية ومحاولة إفراغ الإنسان الفلسطيني من ماهيته وهويته وثقافته وانتمائه لمحيطه العربي.

الحرية والواقعية

شخصياتك واقعية قوية منكسرة أم خيالية؟

◆ شخصياتي في مجملها واقعية وقوية من حيث دورها في الواقع الاجتماعي السياسي الفلسطيني كون المجموعات الثلاث تدق أقدامها في القدس المحتلة وأستطيع أن أزعم أن “شهادات على باب القدس” هي رواية انتفاضة لا تذكر كانت قد انطلقت في كل فلسطين احتجاجا على ما حدث في مخيمي جسر الباشا وتل الزعتر 1976.

والسؤال بعد أحداث لبنان وما يجري في الوطن الفلسطيني الذي جعل الكاتب أو الأديب أو الشاعر أمام مأزق الخيار هو ماذا يكتب وعمّا يكتب وكيف؟ أين وفي أية ظروف وإلى متى يمكن لكاتب أن يستمر في الكتابة عن الألم والظلم والاستلاب والتغريب والتهويد ويتنفس بعضا من هواء أكثر نظافة.. هواء يمكن أن يسمى هو حر أيضا.

◆ يقال بأن الكتابات عن القدس كانت “كتابة سياحية” كما يرى وليد أبو بكر ما رأيك؟

◆ رغم احترامي للروائي والباحث وليد أبو بكر أعتقد أنه يغالي ويظلم أدباء وكتابا مقدسيين بذلوا كثيرا من النفس والمعاناة كمحمود شقير والمرحوم خليل السواحري وآخرين من أبناء القدس الذين يكتبون من جرح القدس في جرح القدس ويحبون المدينة كما لم يحبها أحد.. نحن نكتب عن القدس وللقدس التي فينا ونحن منها ومجبولون بترابها وطينها وحجارتها وهوائها وغبارها وما تعرضت له من اغتصابات وحشية منذ سقوطها تحت سطوة الاحتلال الصهيوني وهؤلاء الكتاب الذين أشاركهم محبتها رغم أننا نرى أنها تذهب منا جميعا كلما رأينا تحجيمها وتهويدها واقتلاعها كما يقتلع القلب من الجسد بسكين.

فالقدس ليست مدينة أو مكانا يزار بل هي الروح وقد تكون الحائط الأخير لفلسطين فإما أن يهوي الحائط الذي يحاصرها أو نهوي جميعا.

فقدان البوصلة

◆ ما الذي يحفزك أو يستفزك باتجاه الكتابة؟

◆ ما يثيرني ويحفزني على الكتابة هو الظلم والاستغفال والاستبداد والتيه وفقدان البوصلة عند اليمين واليسار والجوع والقمع والتكفير والحنين إلى القدس والوطن ويستفزني أكثر أن نكون كفلسطينيين على صورتنا هذه :”من منا هابيل ومن ترى قابيل وعلى ماذا مقعد مكسور تحت الاحتلال؟”.

◆ بعض المثقفين رفعهم موقف أو حزب.. ماذا بشأنك؟

◆ على ما حييته فقط لم يدعمني ولم يقف معي أحد، لا تنظيم هنا ولا حزب هناك، “أنا أنا”، إنني أرى وأراقب وأسمع وأحس وأعيش وأكتب.. لم أكتب يوما لأحد ولم أنتظر أن يكتب عني أحد ولم آخذ شيئا من أحد، لا بل كثيرا ما أخذ ما هو حق ليّ ولم أفكر لحظة أن نضالي يجب أن يكون مدفوع الثمن وممن وكم ولماذا!.

فقد ناضلت واعتقلت وجعت وتشردت ونمت على مقاعد مطارات عربية أياما وليال. دون أن أطلب من أحد تعويضا.. ثمني هو الوطن.. هو القدس ولا شيء آخر ومن لديه فاتورة فليأتي بها.

ما رأيك بواقع حال النقد الأدبي عند العرب؟

◆ أعتقد أن النقد الأدبي الحقيقي خارج الأكاديمي ليس نقدا للأدب المكتوب كأدب فالنقد السائد اليوم إما هو صحفي (مقال صحفي باسم النقد) أو أنه شللي (أكتب عني أكتب عنك) فهناك أسماء أدبية بحاجة لأن يقرؤها نقاد محايدون منشغلون بالأدب ويهتمون به بهدف الارتقاء وليس نقد مجاملاتي.

◆ ..وماذا عن منفاك؟

◆ أقيم في تونس منذ ثلاثين سنة، فهي منفى ممتاز، تستطيع أن تتحرك فيه كما تشاء، وقدر ما تشاء، فتونس بلد جميل بأهله وطيبة قلوبهم وأنت عندما تسقط في منفى فيه قلب يحميك أو يرتفع بك إلى سطح الأرض كي تمشي عليه.. هذه تونس بالنسبة ليّ.

ولا بد أن نعترف بأن الشعور بالمنفى لا وطن له وقد تشعر بالمنفى حتى في وطنك وكثيرا منا شعروا به في فلسطينهم.. أشعر في بعض الأحيان بالوحدة والتخلي والنكران من الأقربين وهذا هو منفى لكن بلدا تختاره لظروف قاهرة أو طوعية كي تعيش فيه يكفي أنه يرضى بك فارض به!.

عصرنة اللغة

◆ بعض المثقفين يطالبون بـ "عصرنة اللغة” ما رأيك؟

◆ ماذا يعنون بعصرنة اللغة؟ لماذا لا يقولون لغة العصر؟ فاللغة ليست صناعة بل هي إحساس بحياتك وواقعك وما يحيط بك فنحن لا نعيش في منطقة مجهولة من العالم.. نتأثر بالهواء عندما نشعر به ولا نراه يمر من أمام النافذة وحديث جانبي في مقهى لامرأة وابنها أو عاشقين أو لنادل وهو يقف أمامك ليسألك ماذا تريد!

وإذا كان المقصود بعصرنة اللغة هو إدخال مفاهيم ومصطلحات التكنولوجيا الحديثة عليها فإننا لا نستطيع بدون اللغة فهمها.. اللغة هي الأصل والوعاء والوسيلة للفهم والتعبير.. نكتب بلغتنا في زمن لم يعد هو الزمن السابق.. زمن تقدم بنا وعلينا ونحن نسير معه رغم أنه يقفز عنا لكن علينا أن نراه وإلى أين يصل بنا فإما أن نصل نحن أو لا نصل والوصول ولو متأخرين عن قاطرته خير من لا نصل!.

أعتقد أن ما ينقص كثيرين من مثقفي هذا الزمن المعصرن هو الأمانة فيما نكتب ونحكي ونروي لا ندعي فيها لأنفسنا ما هو لغيرنا وهذه بحد ذاتها أمانة نحملها في أعناقنا، والمطلوب من وجهة نظري من المبدع بشكل خاص أن يمتلك حريته في علاقاته مع الأطر والمؤسسات والأنظمة السائدة.. نحن نريد أن نخدم الوطن وننهض به مثلما يدعي الآخرون فلنكن في دواخلنا أحرارا كي نقول ما نعتقد أنه حر. "أن نسقط قيودنا" ربما بذلك نساهم في تعميم الحرية للإنسان والأوطان وفلسطين، وفي هذا الإطار تحتاج لمثقف حر من التبعية والقيود فالالتزام الحقيقي في نظري هو للقضية والشعب وليس لهذا الحزب أو الفصيل أو المجموعة.

( عن الاتحاد الإماراتية/ الخميس 02 سبتمبر 2010).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى