السبت ١٥ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١
بقلم توفيق عابد

موسى حوامده: العشق عبودية

موسى حوامده شاعر مشاكس ومواقفه في صعود على الدوام، لا ينحني فسلالته هي الريح كما يقول في واحد من دواوينه المشتعلة.. ففي ديوانه الأخير «موتى يجرون السماء» الصادر عن دار ارابيسك بالقاهرة، يقلب المفاهيم المألوفة ويعري واقعنا الاجتماعي والسياسي بإسقاطات منا وفينا، لكنه يقدمها بصياغة مبتكرة تحفز القارئ على مراجعة مفاهيمه ومدخلات تفكيره ونمط تعامله مع الآخر.

فمن وجد الدلفين يراقص الغراب، ومن شاهد أو اكتشف أن الحمامة تأكل عين الأسد، ومن شهد حادثة أن النعامة تلدغ الأفعى، أو أن السعدان أي «القرد» يمط رجليه في وجه الحصان!.

وأي فلسفة يريد الشاعر الذي فاز بجائزة استرالية رفيعة قبل أيام قلائل أن يقدمها لنا؟ وأي إسقاطات أو إيحاءات يوحي بها ولا يشي بها صراحة، فهل يريد القول إننا نعيش زمن الضعفاء والأنذال والذكورة وليس الرجولة والخنوع عوضا عن الفروسية.

في هذا الحوار يبوح موسى حوامده بالكثير.

◆ الموت حاضر في دواوينك الشعرية وآخرها «موتى يجرون السماء» فهل تعيش هاجسه أم وصل بك بؤس الواقع إلى أنه الخلاص الوحيد من عالم مزيف مهزوم؟

◆ الموت سيطر على قصيدتي منذ عام 2003 صار الموضوع الأقرب إلى نفسي وإلى قصيدتي، رغم أني لست من مؤيدي الكتابة عنه ولا أحب ذكره، فهو هادم الملذات كما يقولون، لكن عام 2003 كان عاما مأساويا مليئا بالموت فحين مات أبي في الأول من مايو من ذلك العام لحقت به الوالدة بعد سبعة عشر يوما، أدركت وقتها أنني لن أعود كما كنت وأن موتهما تباعا لم يكن حادثا عرضيا أو صدفة بل تخطيط مدبر ومرتبط باحتلال العراق وكسوف الشمس في شهر وفاتهما. لم يكن موتهما فقط موت أب وأم، كان بالنسبة لي انهيار جدار كبير أتكئ عليه، موت وطن كان يزغرد في ذاكرتي، أراه أخضر مثل مرج ابن عامر شمال الضفة الغربية المحتلة ما الذي تبدل؟ ما الذي تغير؟ كنا صديقين أيها الموت، كنت أطل عليك، وتطل علي، أداعبك وأتقبل حلولك ومجيئك بصدر رحب، مع أني لم أفهمك حينما خطفت أخي الأصغر وهو طفل ولم اعترض حين أخذت صالح صديق طفولتي لأني لم أدرك حينها معناك.

ويخاطب الموت بقوله: أتريد مجادلتي؟ إنني جاهز سأحاورك ولن تستطيع إسكاتي فلست ممن يخافونك.. سأتحداك وأواجهك حتى أجعلك لعبة أطفال أو خطبة قائد عيي لا يتقن الخطابة حتى لو هزمتني وكسرت ظهري أو طحنت روحي.

الأكثر تأثيرا

◆ لماذا جعلت الموتى مصدر الفعل اي الفاعل فهل تريد القول إنه لا فائدة من الأحياء لغيابهم أو تغييبهم عن مسرح الحياة؟

◆ الموتى الذين رحلوا أحب إلي من كثيرين.. كثيرين أراهم كثبان رمل متحركة وقطعانا بلا فائدة، الموتى الذين سطا عليهم الغياب ما زالوا يسمعون ويفعلون أكثر بكثير ممن يعيشون ليملأوا معدهم وأمعاءهم بالطعام والشراب، جنتي هناك معهم، حقيقتي هناك بينهم، أما الكثير ممن يتحركون على سطح الأرض فهم الأموات.

الفعل الذي يفعله الأموات أبلغ بكثير من فعل الأحياء، وهذا يعطيك مثلا ساطعا على ان الموت ليس نهاية بل درجة في سلم طويل وعمر مديد، كثيرون ماتوا لكنهم مازالوا قادرين على التأثير أكثر من الأحياء، قل لي من المؤثر أكثر المسيح أم البابا الحي؟ علي بن أبي طالب أم الحوزة في قم؟ ومن المؤثر أكثر الفلاسفة الأموات أم الأحياء؟ انظر الى تأثير الأموات في الفكر والأدب والفلسفة والشعر والمسرح واللغة والأديان والفيزياء والرياضيات ترى أن الأموات هم الذين يحكمون العالم وليس الأحياء.

ومن وجهة نظري فالحياة لا تقاس بالنفس ولا بالصحة وطول العمر، بل بالأثر ولذا ما زال جيفارا حيا وما زال عبدالناصر حيا وما زال الشهداء أحياء.

لا ألوي نصوصي

◆ مارست طقوسك في الكتابة القائمة على المخالفة واختراق المألوف وكأنك تريد توجيه إشارات أو رسائل جديدة لجهات ما “أن شجرك ما زال أعلى” كتأكيد على مواقفك السابقة في مواجهة تهديد ما؟

◆ لا لم أسع لذلك، أنا أكتب ما أفكر به ولا ألتفت فعلا لمن حاكمني أو حاربني على قصيدة أو فكرة أو قول لا احتقارا لإنسانيته او تهميشا له ولكن لأنني منسجم مع نفسي.

وسواء سار ما أفكر به باتجاه مختلف او اتجاه مؤتلف مع غيري فذلك لا يعنيني، كل الناس يسعون اليّ مؤيدين ومعجبين لكني لا ألوي نصوصي وأفكاري لكي أنال إعجاب الناس أو الجماهير، ومقابل ذلك لا أنتقي ما يثير استفزاز الاخرين ويغيظهم، لا أتعمد ذلك أبدا، أنا منبت عما يفكرون، ماض وحدي في مقاربة الكون، وفي خلخلة أركانه وفي طمأنة الغيوم، وفي الإيماءة للقمر أنني أراقب حركته واعرف مداره وأثره، أما النجوم، فلا أتوانى عن التفكير فيها ومتابعة خرقها للعتمة، وللسماء الحق في الاسوداد والظلمة، كما لي الحق في النور.

لا شيء يغريني باليقين الا النظر الى المختلف، والشك في كل شيء من موروث ومن قيم ومن تقاليد، يقتلني الجمود، والخوف من الحوار ومن السؤال، السؤال باب مشروع، وحق مقدس، ومن حقي أن أسأل، وأن أحاور، وأن وأرتب الكلمات وفق قناعتي، لا خشية من أحد أو خوفا من مؤسسات مهما كانت قوتها وسلطتها. أتراني أغرق في العزلة، والفردانية، وحب الذات، أم أعبر عن ذاتي، ولا أطمع بجماهير ومصفقين، ولا أثير حفيظة النحل لكي يطير باتجاهي.

◆ في قصيدتك “حين يأتي الموت” حولت الأحياء إلى ديدان صفراء فأي إسقاط ترمي إليه؟

◆ حين يأتي الموت سأبصق في وجه الحياة وأقنع نفسي أن الدنيا بائسة والناس ديدان صفراء دليل أنني لا أراهم كذلك ولكن لحظة الموت سأقول لنفسي: انس البشر فكلهم ديدان صفراء، وهذا يعني أنهم ليسوا كذلك حاليا ما دمت حيا وإن شئت الحقيقة، فالمعنى في بطن القصيدة هي تريدهم كذلك سياسيا واجتماعيا ومن كل النواحي، لكني لا أحرمهم من أن يكونوا بشرا أسوياء إن رغبوا وصادقين ورائعين، غير أنهم ليسوا كذلك في لحظة الموت وتعرف أن عدو الميت هو الدود الذي يأكل الأموات حتى لو وضعوا داخل توابيت محكمة فترى أين هو الدود؟ هل هو الدود الذي سيأكلني حين أموت وأكل أولئك الأموات الرائعين والذين ما زالوا أحياء أو لا تتقبل الذاكرة فكرة موتهم.

أما الدود الذي تركته على وجه الأرض وهم البشر ومعنى ذلك أننا نهرب من الدود إلى الدود كما قال عمر بن الخطاب حين قرر الهروب من عمواس “نفر من الموت إلى الموت” نهرب من دود الحياة الى دود القبور.

أثق بالهجاء

◆ قلت في واحدة من قصائد الديوان “ليست لي حاجة إلى مديح ناقص” فهل فقدت في ضوء تجربتك الشعرية والحياتية الأمل أم ترفض النفاق الذي يعتبر عنوان مرحلة حاليا؟

◆ لم أفقد الأمل لكني بت أثق بالهجاء أكثر من المديح وبالشتيمة أكثر من الإعجاب ولذا أرتجف أمام هذا النفاق الذي بلغ درجات لا تطاق وبات الكل يتفنن في طريقة عرضه وتقبله وصار جواز مرورك لكل شيء في الحياة، فعليك ان تنافق لبائع البطيخ وشرطي السير وحارس المقبرة وسائق التاكسي والحلاق ومديرك في العمل وحتى حارس العمارة وعامل النظافة، وحتى لأولادك وأسرتك، وعليك أن تتقبل النفاق الذي يمارس لك حتى باتت الحياة قائمة على فن النفاق وتقبله وبدونه لا تستطيع أن تمضي سحابة يوم بلا كذب ولا ادعاء.

لم يعد النفاق للحاكم والزعيم فقط، ولم يعد في الإذاعة والتلفاز والصحف القومية ولم يعد في المساجد والكنائس بل بات حتى في المطابخ وغرف النوم وأسلوب حياة ولم يعد ظاهرة مكروهة وبات مقبولا بل مطلوبا.

والغريب أنني لم استطع ترويض نفسي لتقبل ذلك، مع ان العيش بات يتطلب ذلك انه مرض طبيعي للبشر لم استطع أن أصاب به ولا أجدني قادرا على تمثيله ومن الجرأة أن أنفر من نفسي قبل غيري لو قيل لي شيء مبالغ فيه أيضا.

◆ يستشف من بعض قصائدك مساءلة الماضي او على الأصح محاكمته، فما جدوى المحاكمة او الهروب للماضي على حساب الحاضر والمستقبل؟

◆ لدي مشكلة كبيرة مع التاريخ.. لم أتقبله ولم أستسغه ولذا أحاول دائما جره من قرنيه ومحاكمته والتاريخ هنا ليس فقط التأريخ والأحداث بل أيضا الموروث كله فهو جزء من التاريخ وهو لم يمض كما قلتَ بل هو حاضر بيننا يؤثر فينا ويفعل فعله بنا.

أما إضاءة الشموع فهي ليست مهمة الشعر ربما تكون وظيفة من يحبون إشعال الشموع في حفلات أعياد الميلاد لكنني لا أحب هذه الوظيفة.

وليس صحيحا أنني لا أكتب الا عن الماضي بل أكتب عن الحاضر أيضا، والموت فعل حاضر يجري كل يوم، أما الأمل الذي قد يطالب البعض الشاعر بالتمسك به فهو ليس ضرورة إبداعية أو شعرية ولا أظن أن مهمة الشعر أن ينير الخرائب ويبشر بانتصارات لن تحدث.

العشق عبودية

◆ هل حقا أن العشق يوصلنا إلى التحرر “حررني العشق” في زمن الانكسارات والهزائم أم أنها دعوة من شاعر مجروح إلى قليل من الرومانسية؟

◆ هذا المقطع جاء في نص صوفي وسؤالك معقول ومنطقي فالعشق وإن بدا تحرريا لكنه ايضا عبودية، لكن في النص ذهبت إلى أن العشق أفضل من التلقين والتبعية وقلت أن تبعية العاشق قد تكون أجمل من تبعية العبد، ولكن ربما تساؤلك صحيح فالتبعية تبعية الا إذا ثار المريد على شيخ طريقته وقلب الطاولة عليه واختط لنفسه مسربا خاصا لمناجاة الله.. هل يحتاج الوصل اليه خارطة طريق؟ لعلنا بالحب وحده لا نحتاج الى علاج فهو الوسيلة والغاية.

◆ في بعض قصائدك تدمير للصورة التقليدية “النعامة تلدغ الفعى” و”الحمامة تأكل عين الأسد” ماذا أردت قوله بالضبط؟

◆ نعم هذه في قصيدة “هناك في أعالي الجنة” لا أعرف ماذا أرادت القصيدة أن تقول، لكن الناقد المصري مجدي ممدوح قال إنني أريد تغيير صورة العالم، هل يمكن أن أفعل ذلك، هل لدي رغبة مميتة وقاتلة لهذا التغيير، أم هي محاولات لقلب الصورة فقط ولا أسعى بقصد الى قلب شيء لكن القصيدة تظهر على الشكل الذي تريد ومهمتي أن أحرر القصيدة من مخاوف النشر ومحاولات سوء الفهم ولتكن ذاهبة لتدمير الصورة النمطية هذا شيء جميل فقد مللت من التقليد والنمطية وما هو أمر واقع أو مكرر.

◆ في ضوء ما أطلق عليه “الربيع العربي” هل تعود القصيدة ملهمة للمشاعر الوطنية ومثيرة للحماس أم أن شعراء السلاطين سيبقون في المقدمة؟

◆ إذا نجح الربيع العربي في إحداث ثورة حقيقية وليس مجرد تغيير في رؤوس أنظمة الحكم فربما تتغير الصورة، لكني أشك في قدرة الربيع العربي على التغيير لسبب بسيط وهو أن اتجاهات التغيير لا تسير إلى إحداث ثورة حقيقية في المفاهيم العميقة للناس ولا في الثقافة.

ولذا لا أتوقع أن يتغير المشهد الشعري العربي كثيرا وسوف نسمع الكثير من القصائد التي تتغنى بالربيع العربي والثورات ولكن الاتكاء على القصيدة لتكون ملهمة حماس الجماهير يعني فيما يعنيه أن تظل الصورة النمطية لوظيفة الشعر قائمة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى