حب أخضر ـ القسم الأول
مقدمة الرواية
دعوة للتطهر بالحب
تدخلنا هذه الرواية في ألفة السرد الغنائي ،ونجد أنفسنا نسبح في فضاء رومانسي قائم على التناظر والتناغم بين الإنسان والمكان بين البشر والكائنات الأخرى ، من حجروشجروأرض.. وأخيرا بين الشخصيات التي تتوزع الأدوار .
إن مصدر حيوية هذه الرواية الشيقة التي تشد القارئ منذ بدايتها رغم أنها قائمة على حبكة معقدة أو غير معقدة أو على حدث درامي .. مصدر حيويتها يتأتى من العلاقات المسرودة على لسان الشابات الثلاث الجامعيات في السكن الجامعي ، تحكي كل منهن قصتها الخاصة ، قصة حبها وما تحمله هذه القصص من تفاصيل وتفرعات في حياتهن الاجتماعية وعلاقة ذواتهن بالخارج بالإضافة إلى الأفكار حول المجتمع والقانون والحق الذي جاء على لسان إبراهيم في قصة سوزان ، ثم العلاقة مع جماليات المكان من أرض وطبيعة وبشر على لسان ماهر شقيق سلاف .
إن لكل شخصية دورها الوظيفي في السرد ودورها الفكري في القول حول الحب بالمعنى الشامل ، أو لخدمة السياق العام الذي قامت عليه الرواية التي دلّ عليها العنوان : حب أخضر.
يتساوق في هذه الرواية الغنائية والتحليل العقلي اللذان يتناوشان بشكل غير تصارعي مع القدرية . إذ تقوم الرواية على تأكيد روح الإيجاب في الإنسان وفي الطبيعة ومقدرة هذه الروح على احتواء السبب وانتزاع عدوانيته وبالتالي إلغاء
التصارع الثنائي لعدم وجود التكافؤ ، أو الندية بين السلب والإيجاب ، فالخير أو الحب هنا أقوى وهو الأقدر على الاحتواء ..
والقدرية هي نفسها ليست عاملا مأساويا لأنها متوافقة مع الروح الإيجابية التي أراد الروائي أن يؤكد عليها لأن الرواية هي رواية حب لكل شيء وإبراز لطاقة الإنسان على الحب ، وأن يرى الأشياء كلها بعين الحب ، هذا الحب الأخضر المتجدد،حب الطبيعة بسهولها وجبالها ، قراها ومدنها وبحرها، حب لحكايات الناس ولعاداتهم الطيبة ومعتقداتهم ونزوعهم الفطري نحو الحب والتعاون .. واقعية طهرانية لا ترى الأشياء إلا بعين العشاق المحبين على مبدأ : كن جميلا ترى الوجود جميلا .
إنها رواية الامتلاء بالطاقة ، بالشباب ، بالحيوية والوفرة..
وهي تدفع القارئ بهدوء إلى التأمل والإصغاء ثم التفاعل وتعطي للحب الدور المفصلي في التغيير والتطهير ..
ناظم مهنا
-1-
طلّ من سرة الشرق ، تدرجت معه ملامح عديدة مع هالة موشورية في المجيء المحير الذي راح يكشف رويدا رويدا عن فسحة كانت مخبأة في طيات الجانب المهمل من الفضول .. إطار لأفق برونزي ، قرويون وقرويات .. أصحاب غبطة.. أزقة ووهاد ، مصافحة ولهفة .. واحد نظراته من فطيرة الوعد.. وآخر تحُوْطه قبضة هيئة واجمة يتوعد باستكشاف لغز دون المضي إليه ، وثالث حضوره خطف النظرات .. أنهضوا بلدة بحالها من وعكة ترقب مشوش وأقحموا حواسها في رهبة، تحسست أحدهم حسناء لاتخلو تصرفاتها من شجاعة بدائية ، دارا أمام أنظار الجميع حول مرج صغير كطفلين يذوبان في اللعب .. تابعتهما العيون التي جعلا منها جزءا من مغامرتهما التي مشت على دهشة .. استلطاف ورعشات عائمة من عابر ..
نزل رابع على درج من شفق مكدود- ( جنتلمان ) بثوب أبيض- ملأت طلته فسحة أوسع من المكان الذي يشغله بكثير.. اقتربت منه الشرفة كبساط ريح يزور ثريات اليقظة : دهشة وجه ، لسعة برد ، مناشير غسيل ، بجامة رطبة معلقة على مسمار طويل ، جهاز راديو عتيق ، قطعة قماش شلحتها ريح في زاوية، سؤال واقف في حنجرة الصمت كطفل خائف .. ومباشرة مع كل هؤلاء دخل في حوار جرئ .. أوحت إشاراته إلى تواضع لافت .. فاض بجوع قصي للنظر وكأنه يغيب في وعي مبرمج .. خصخص ملكيته للوقار وجعلها تنداح حتى مع غصن زهرة جوري يابس مرمي جانب أصيص.. خلع ما تبقى من التباطؤ عن مسيرة أيام خلت بشيء من المبالغة .. وقف كصديق قديم يستعجله رفقاؤه الذين سبقوه في تسجيل حضورهم المبكر للذهاب إلى مكان آخر ، بحجة أن هذه الشرفة الضيقة ذات الصدى الخافت تخلو ممن يرنو إليهم .. والجرأة فاسدة كعلبة سردين تجاوزت تاريخ صلاحيتها.. والانتظار هنا كالضحك على اللحى.. وضع صديق يده على صمته الفائر من اقتراحات متكررة واعتبرها عشوائية ، وترك الآخر يعبر عن جواه كأنه يجالسه لأول مرة ، من بين أكوام العتب والاعتذارات الشفوية وجد فرصة للراحة والمماحكة .. وبعد ثرثرة انتهت بلَوْمٍ .. وضع ختما بالشمع الأحمر على حمرة خده منتظراً، ودون أن يبدي أي انفعال أو جلجلة متوقعة منه ، جانبهم الجلوس باحترام ، حدث همس من جهة جليسه :" ستبقى يا عزيزي كساعي بريد يحمل الرسائل ، لا يهمه أن يعرف ما فيها .. أنت كمضرب عن التمتع بأشياء متاحة له، ولغيره على عكس أصحاب المطالب ، ينتقد نفسه بأنه قليل التحمل ، بينما هو كمثل جندي مجهول .."
تجاوزت الشرفة حدودها لتضم إليها قوافل مستعارة من شحنة الفراغ وحيز الضوء والانضباط والدوافع ونظائر الأشياء .. وكأن العالم اختصرته بقعة بوسع موطئ كلمة .. غابت مقطورة المدى مع أول نجمة غاربة كطفل أسكته ثدي أمه الممتلئ.. غالبَ فرص التدخل غير المناسبة.. تسربلت الوجوه بطلة مترامية الأسئلة ، صداع كاد يشب : زفرة استمالتها نعوة ، وانزواء لعبرات في جوف الحراك ، وقبل أن تختفي المشيئات بقطرة رحمة من وجه حسن ، أشاع غنج حسناء رؤية متشابهة لدى الجميع ، مما دفعها إلى المزيد من التألق الممزوج بأجوبة على أسئلة طرحت نفسها بقوة ..
تكلم مولول وهو يمشي على فرح ، وكأنه في موقع للدفاع عن أمر خفي لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه .. اكتفى بهز رأسه أمام أحدهم .. و شرح لآخر بأن الرسول لا يمكنه المرور إلا بعد استئذان وليس بجندي يقتحم ، ووظيفته الأساسية في هذه اللحظة هي الصبر والهدوء عند قدمي العاشقين .. تحمّل مشادة حول تهمته بالصبر .. تجنب ما يدور كتعامله الرزين مع نجمة آفلة ينتظر عودتها ، وبقي كعادته لا يتدخل إلا عندما يُتاح له ، بشّر بنزهة جميلة دون أن يبين الأسباب ، أتهم بتحمل أعباء يقظة في وقت غير مناسب ، وبأنه يحمل أحيانا مناظير ليلية للتجسس، ورؤية ما لا يجوز رؤيته.. ابتلعت خبراته كل هذا الاستعجال ، وترك مهمة الإقناع لآخر متفهمٍ ، والذي وضّح صراحة : ليس له علاقة بالقصص السيئة ، ولا بأي شخص يحمل سلاحا أو أفكارا خلاسية .. وتوجد حرية للجميع بـ.. و ما العيب في أن ينزل على هيئة شيخ لملاقاتنا ..؟
حدث رد لا يخلو من تهكم :
– عن أية حرية تتكلم مادامت الخطوة التالية تستعد لترحيلي بغض النظر عن المكان شرفة كان أم باب ؟
– لا توجد خطوة تالية .
– قصدك أنني غير موجود ؟!
– أقصد الخطوة التالية موجودة فيك ، أنتَ الخطوة التالية..
تداخلت خطوط غير بيانية ، متشعبة كأغصان برق محموم.. استباحت راحة البال للحظات ..
كاد الحوار يطول لولا تدخل شكل غريب لبنية غير مألوفة لها رائحة زواريب ضيعة منسية ، انحنت إجلالا ، ثم التفت إلى شفق بدا على بعد لمحة بصر من جهة ميسم الشرق ، وبعيد عن العتمة التي تبصبص من وراء النافذة مسافة دهر ، تهيأ له ذلك المشهد الذي يتكرر كلما ألحت عليه الضرورة بشيء من المودة، أو طلب منه جليس آخر بلهفة المستعجل والمدفوع من الخلف للعبور ، وكأنه تحت سطوة ما، أوتحثه رائحة آتية من ورع ، عبّر عنها أحد مريديه :" سيبقى هكذا ، كما عهدته، يتخلف عن اللحاق بنفسه، من أجل أن نعبر ، يمضي من حولنا، ومعنا ، يتلهف .. ينتظر.. يتعب منه الفضول .. لكنه يزودنا بدفئه حتى أثناء بعده عنا.. يقدم للكسول كما للنشيط فنجان القهوة و لا يشرب معهما ، يقدم لهما الجريدة ولا يشاركهما القراءة .. يمشي كيفما نشاء حافياً، بعد أن يوقظنا برفق، ويدفعنا للمسير منتعلين .. ونمشي برفقته دون أن يشعرنا بذلك كي لا نزعل منه أو يشعرنا بأنه يتعقبنا، فهو كحارس أمين ، أو كعسس عصري بياقته المهيبة ، لكنه غير مهتم بجمع المعلومات ، وليس لديه مكتب لتحليل الأخبار.."
طلَّ وجه آدمي أليف.. يعتاش على الأمل ، أوت إلى جاذبيته النظرات ، ملأ الشرفة حضورا حسيّاً.. أخرج من الموقف حيرة بلون القيح ، طرح جدلا بصمت .. أومأ برأسه مجيبا على أسئلة عديدة .. وكانت النتيجة الأشبه بجواب تام " ذلك كان في الأمس وحسب.. أما الآن ، فهي تحب الجميع .."
حدث لغط ، دون أية إثارة، واستضافت الشرفة رغم ضيق مساحتها عددا منهم ، التفتوا إلى بعضهم البعض بهدوء كمن ينتظر موعدا مع قارئة طالع ستقول كل الأسرار .. شبّ الفجر واقترب من موعد الوقوف على رجليه، والمشي للمرة الأولى هذا اليوم.. تحّمل الوقوع أكثر من مرة قبل أن يخطو.. حطّ عصفور دوري على سلك معلق إلى الجدار القريب .. زقزق بعناد.. أحدث توازنا غير منتظر .. جاء عصفور آخر ، كأنه يدعوه لوليمة قريبة فطارا .. وجد الصبح المطلي بغيم داكن نفسه على موعد مع فتوته ، ضمد عبوره من كدمة الانتظار وضرب موعدا مع الغد في مثل هذا الوقت .. وقبل أن يغادر قال بصوت جلي : " كالعادة، ينتظر الضوء بجوار الباب حتى يفيق التلاميذ من نومهم ، يسبقهم إلى الصف ، يفتح لهم الأبواب والنوافذ ، ويقدم لهم وجبة التعليم كأنك المدرس الآخر الذي لا يمل .. ويخرج معهم إلى الباحة.. يلعب الكرة، وينط أكثر مما ينطون بفرح غاو، و .."
حدثت جلبة تلاها تلصص غير بريء من وراء شق صغير تتنفس منه النافذة ، استفزت الأشياء التي تسترخي على عجين الوقت المعطر بالهيبة ..
وقبل أن يبتعد آخر .. ردد " : لا أقبل أن أكون مخفرا متقدما لصالح أحد، حتى ولو كلفني الأمر قطع أصابعي.."
فاقت سلاف من هذا الحلم الطويل لليلتها الأولى في حضن غرفتها بعد وصولها من الضيعة ..
خرجت مباشرة إلى الشرفة على رؤوس أصبع قدميها وكأن هيبة المنام لاتزال تهوم بها ، وتثقل أنفاسها بحامض العتمة ، وقفت في المكان نفسه الذي كانت واقفة فيه طيلة نومها الكابس على راحتها .. وضعت يدها إلى جبينها كمن تتحسس حمى ، متوجسة من كل ما تقع عليها نظراتها التي راحت تجتر الترقب الفاجرلأبسط الأشياء ، نظرت إلى الشمس الطرية ، وهمست :" هذه هي التي رأيتها في الحلم .. لكن ماذا عن الأفق والضوء والشفق والخطوط والأشباح ؟ وهل كان الوجه الأليف هو وجه ماهر ؟ وهل كان مضطرا للقول بأنها تحب لجميع ؟!.. ماذا يجري من حولي ، أم هو مجرد حلم ؟ .. "
سحبت جسدها الملفف برفات القلق للداخل ثانية تحت تأثير مغناطيس الارتباك ، و أعادت كل شيء كما كان : الستارة ومعها العتمة والأسئلة .. استرخت مع خميرة اللحظة العابرة كمن تستريح من منازلة شاقة مع تعب تغلغل في مسامها كعرق يستعد للرحيل..
وكان النوم ذلك الزميل الذي لا يزال يروّض مشقة أيام خلت ، وتركت له حرية التصرف، ولراحتها فرصة تناولها كفتاة تنتظر هذا الكم من الاسترخاء ..
أعادت هؤلاء من جديد وتركتهم يديرون حوارا تحت تأثير
رغبتها بالبقاء معهم ولو لجزء من أمنية قادرة على التقاطها بطرف جفنيها ، وبقاء هذا الحلم الذي وقف فيه ماهر وسط الشرفة يطارح أفقها كأنها على موعد فتي مع جذوته .. ومع أفكاره التي ناقشتها معه قبل أيام مستوحيا رؤيته من الضوء والمغامرة وعشقه للطبيعة .. ولتحس بأن منامها هو تكثيف لتلك الأيام التي أمضتها مع ماهر والقرية وأبت أن تمر دون أن تزورها كزائر ليلي أيقظ لديها حكاية كموجة صبا انبجست من آية شكر عذري .. أبقت عينيها مغمضتين تحت تأثير أحداث منامها التي غزت نومها كفارس تقّصد إثارة ليلها ونقلها إلى عوالم لاتزال على مقربة منها ، ومغمسة بطعم وجوه العمة والجدين والأسرة والضيوف .. ورائحة شجيرات الطيون، ووخزات شوك البلان وشوك العليق وعصافير أبو حن وأبو ذيل والبط البري .. عوالم أشبه بطير في قفص تتحكم ببوابته ولديها حرية أن تتركها تطير قبل أن يتحرر نظرها من عشه المبني من جفون تروج للفرار بعيدا حتى عن الحرية نفسها ..
دعكت عينيها بهدوء ، قدمت ورقة انتساب إلى طفولة النهار، ثم نهضت بتروٍ ، و لديها رغبة في استمرار هذا الحلم الذي وُلد من رحمه أسئلة غير مقنعة حول أسباب وجود وجوه عديدة بالقرب منها ، وإدارتهم لحوار لا تمت إليه بصلة مباشرة، و ملاسنة ماهر كأنه يدافع عنها من حاسدين ، أو محاولة منه للبقاء إلى جانبها كما تتمنى في الواقع على اعتبار أن المنام يتبع أحداثاً خلت .. جزأت ما حدث لها إلى نصفين : براءة وفوضى غير محسوبة .. أحاكت ميلودراما من الحدث وهي تقارنه مع سهرة تلفزيونية مؤثرة شاهدتها مؤخرا ، كما سبق لها أن فعلت مثل هذه المقارنة أكثر من مرة .. تمنت أن تكون أمها قريبة منها كي تسألها حول بعض المواقف ، وما مردها ومغزاها .. همست : << كانت ستقول إن هيئة الأفق تشير إلى حكمة ، ولها فأل خير ، والرجل الذي حاوره هو صديق وفي وغيور ، والخطوط والغشاوة والشكل الهلامي تعبر عن فوضى أو أمر غريب سيحدث ، والخلاف بينهما .. العياذ بالله منه .. والزعيق نبوءة فيها بعض الخوف .. أعرف أنها ستقول كعادتها : أما الشرطي، فهو ملاك أو مؤمن ، والأفعى عدو .. والبياض فسحة أمل أو عرس .. إلى آخر الاسطوانة .. >>
تنهدت مبعدة احتملات الشك ، وانبرت كقطة تخربش على صفحة نفورها من الحرج ، وتساءلت بتردد فيه أنفاس ذكرى : " قالت أمي ، إن أحلام أول الليل غير صادقة وتصدق عند وجه الصبح .. حلمي صادق ؟! .. لكن ما معني الاختلاف ؟ .. هه .. كان الصبح ورديا .. ولن أنذر أي نذر للخلاص من عقباه .. خير اللهم اجعله خير .."
توقفت على حدود شرود افتعل موقفا غير مهذب معها .. تركته يسيح كقطعة ثلج بفعل إهمالها العفوي ..
منحها ذلك قوة وتدبر كيفي من أجل إدارة اللحظات التالية .. على الفور تراءت لها صورة عمتها وشبهتها بالضوء الذي انتظر عند الشرفة ، تمنت أن تبقى تحت وقع هذا الحوار الذي فرّ من داخل ردهة مخفية في أعماقها كوطواط .. هونت الأمر وطوت تنهب فصاحة عمتها : " لقد حكت لي عمتي حكاية مشابهة عن شيخ نام مساء ومع الصباح تحول إلى فتى بفعل الضوء.."
تعكزت همتها قليلا على رغبتها في استرجاع تفاصيل حلم للتو تسلل إلى بهو تخمينها الحسابي غير الدقيق ، كادت تستسلم لهذه الرغبة لولا وقع نداء خفي لكزها من مشاعرها المحاذية لطرف هدوئها الخام ، عرّتها شحنات متتالية من ذكريات بدت طازجة بفعل الفتوة وبفعل وقائع امتزجت مع أهوائها بأن تخوض أول خطواتها مع سكينة تنتظرها في لحظة استعداد لإنجاز مهمة تعتريها ضرورة استخدام الفطنة الندية ..
استند جسدها المرن على طرف ذراعها لبعض الوقت ودون أية مبادرة منها للتفكير بعمق .. اندفعت نحو زاوية الغرفة قاطعة أية محاولة لاستجواب أفكارها .. أزاحت الستارة كأنها تستدعي أحلام يقظة بالدخول إلى غرفتها .. فتحت النافذة بشكل جزئي .. اندلق العالم الخارجي دفعة واحدة إلى الغرفة.. قدمت اعتذارا غير مقصود لنفسها عن فوضى أشيائها بطريقة لا تخلو من الخجل الوردي ، وكأن العالم الذي ينتظرها للسلام لم تجهز له بعد قهوة الهمة .. أزاحت عن عينها أشلاء النعاس بالماء البارد ، واغتسلت من بقايا تعب واخز.. حسبت أنها تأخرت عن الدوام .. رتبت سريرها نصف ترتيب ، نظرت إلى ساعة الحائط غير المضبوطة.. أزاحت التقويم المهمل جانباً ، وتركت أوراقه تلاعبها ريح نصف شتوية ، وانطلقت ناسية نصف أغراضها التي ترافقها في مثل هذا المشوار ..
استعدت للخروج في يوم دراستها الأول تحت تأثير مبدئها المقدس " الدراسة أولا .."
تركت الستارة نصف مفتوحة ، وسلمت النافذة لعبثية الهواء المنتمي إلى شتاء بدأ يشيخ ..
وهي تغلق الغرفة التي تفوح منها رائحة جسد يتخمر ، اشتعلت نظراتها بشيء يشبه حلما طارئا ، خرج معها ونزل الدرج أمامها كطفل ليترك الظل في الغرفة ، وهو يردد :
– لن أبقى في الغرفة وحيدا ، في غرفة نافذتها متروكة للريح ، وتقويم مهمل ، وساعة تكاتها عشوائية ..
– هي متعبة ..
– وهل هذا مبرر كي ..؟
– نعم .
– لقد فتحتَ لها أبواب الكلية و..
– لا منية لي في ذلك ..
– أما أنا ، فأختلف عنك ..
– أنت حر ..
– حرية من هذا النوع تجعلني أصدقك أيها الضوء ..
تركت إهمالها والضوء وظل الوحدة السكنية يتحاورون في الفسحة الجانبية للسكن والمحصورة بسياج لشجيرات مقصوصة الروؤس حديثا ، ومضت مسرعة ..
تملكتها همة تسربت إلى أوصالها من روح تراب بستانهم التي أشعرتها بوجود والدها يكدح فيه الآن، ودفعتها للمضي .. تمشي على وقع ضربات منكوشه كأنها ترسم لها خطواتها ..