

حقّ لا يمكن.. سلبه!
انتبه وهو يخرج إلى اليافطة الزرقاء، بالكتابة الحمراء، على مجسّم أمام المحلّ: اشترِ خمس عبوات واحصل على السادسة.. مجّاناً. كان قد اشترى أربع عبوات ودفع ثمنها وغادر المحل.
خطر له أن يعود ويشتري الخامسة ليحصل على السادسة المجّانية وهكذا يوفّر على مَن ينتظرونه في الورشة ثمن واحدة في اليوم التالي. عندما وقف أمام "الكاونتر" ليدفع ثمن العبوة الغازية الجديدة، ابتسم له الآخر ابتسامة متعبة ومتحايلة معا وهو يدخل بأصابع محترفة أرقام العملية التجارية الجديدة إلى "الكاش". لعلّه فهمه، فتغاضى عن انتظاره كأنّه لا يلحظ وقوفه.
هكذا هم جميعاً، لن يتوانى أحدهم عن سلب الآخر إن لاحت له فرصة. تبسّم بدوره محدّقاً فيه بأدب صفراوي كغلاف قديم، منتظراً.. وأدار له الآخر أصابع راحته غامزاً له بعينه اليسرى: ما الأمر؟
– لو سمحت: السادسة.
وأشار إلى اليافطة الخارجية التي على المجسّم.
– لكنّك اشتريت واحدة فقط؟
– خطأ: اشتريت خمساً..
رفع له الكيس البلاستيكي الكبير الذي يحتوي على العبوات البلاستيكية، سعة لترين، وأراحها على الكاونتر حيث الخامسة التي لم يتسّلمها بعد.
اتسعت ابتسامة البائع على ما يحدسه آتياً من شروحات هي، في الحقيقة، تبريرات. طيبة عريضة، نعم، لكن حدودها واضحة له وتبدو محدودة، حادّة أو جادّة.
يبدأ عمله صباحاً آملاً أن يحدث شيء جديد ذو معنى في يومه المرهِق، فلا يحدث. زبائن متعبون، وصاحب محلّ ذو قرابة، القرابة لا تعني شيئاً، لأنّه عندما سيحاسبه في وقت متأخر ليلاً، لن يغفل عن قرش واحد، وعند الجرد الأسبوعي سيزن حتى التسالي ويسجّل عليه أقل فرق بين المبيعات والموجودات، وكثيراً ما طلب منه ألا يتغافل عن أقل اختلاف في الوزن، لصالح المشتري، بل عليه أن يفعل العكس، إن استطاع..
وما أن تتعامد الشمس على ظلالها حتى يكون قد أنهك وفقد تركيزه لولا آلية عجيبة تدب فيه، فيصير شخصاً آخر، آلياً. وما يفعله هو أن يقتصد قدر الممكن أثناء المعاملات، والفارق يستعمله عند النقص. وبين مشترين متباعدين فقط، يستطيع أن يجلس، ليريح ساقه المتخدّرة من فرط الوقوف على ألم كالشلل، هذا إن انتقوا مشترياتهم وحدهم ولم يتعبوه باستفسار هنا أو جلب وإحضار، وأحياناً بتوصيل إلى السيارة أيضاً، هناك..
تنهّد بصبر، ليكرر ما يكثر من قوله:
– اشتريت أربع عبوات أولاً، ثم عدت للخامسة بعد وقت.. لم تشترها كلّها معاً لينطبق عليك شرط السادسة.
– بينهما دقيقة واحدة، وربما أقل؟
– ولو.. هكذا الاشتراط: اشتر خمساً وأحصل على السادسة..
– يا أخي، اعتبرني اشتريتها كلّها معاً..
– أو أعتبرك -يا أخي!- زبونين..
أمرٌ غريب. لا يقتضي الأمر منه سوى تجاهل الدقيقة.
لم يعرف ماذا يقول. في الموقف شيء يكرهه: الاحتكام إلى سلطة ذاتية، وليست موضوعية. شيء يكرهه في كل المقاولين والأعمال والأشخاص الذين يضطر للتعامل معهم: عليه أن يلتفت لشخوصهم، في مواضع لا أهمية لها فيها، كأنّهم يحدسون هذا ويأبون إلا استغلاله، لا يجدون لشخوصهم قيمة إلا في أمور من خارجها، وهنا عليه أن يراعي حتى مزاجهم الذي قد يحدد الأمور..
وهناك حرج في أن يطلب لنفسه يدفعه لتجاوز الأمر والخروج، فعبوة غازية هي من الصِغار لا تستحقّ التوقّف أو الالتفات. ويبذل بالفعل عدة خطوات توصله ثانية إلى الباب لولا أن شعوراً أكبر من الحرج يتدّفق فيه: الانتقاص.
يبذل الخطوات ذاتها، لكنها أقوى، ليعود أمامه واقفاً، ضاغطاً بوجوده صامتاً في آن، طالما الكلام، أو عدمه، وبانفعالات هادئة لا تحرج، صعباً.
ويبادره البائع، مدافعاً مهاجماً:
– ليس لك شيء عندي..
– هل أنت صاحب المحلّ أم البائع؟
خطرت له الفكرة لأن سلوكه، تجارياً، ليس طبيعياً، والذي يجب أن يعتمد على أن الزبون أهم دائماً من مشترياته في يوم.. من ردة الفعل والارتباك علم الجواب الفعلي، مع أن الرجل أجاب، بفخر، "أن صاحب المحل قريبه"..
هكذا إذن؟ تتدبر القليل لنفسك يا منحوس من هنا وهناك؟؟!
وربما قالت ملامحه ما كان يفكّر فيه، أو ربما سقطت كظل وصارت مرئية له. تبسّم على أية حال ضاغطاً بوجوده ثانية، لأن البشر إن كانوا أكلة لحوم وجزّارين، يحقّ للمرء، له هو، أن يستلّ سلاحاً في وجوههم..
وكأن الآخر فقد أعصابه أو على وشك فقدانها، سأل بانفعال:
– ما الذي تقصده؟!
الذي قصده وصلك وعلمته.
– لا شيء.
– هل تريد شيئاً آخر؟ أريد إقفال المحل لفترة وتنظيفه وترتيبه..
– أريد حقّي: عبوتي السادسة..
– ليست حقّك.. واسأل مَن تشاء!
– بلى، فلتسأل أنت..
يشعر في الحقيقة أن الموقّف تكشّف ولم يعد بحاجة لايضاحٍ أو جدال.
لا أحد يكترث بالحق أو الذي يجري أو حتى منطقه، فالمهم هو ما يتم الحصول عليه.. صار صراعاً قد يقتضي شيئاً آخر غير منطق يضعه صاحب السلطة أو الأقوى ويقبل به الأضعف المحتاج مع أنّه لن يكون، بالتأكيد، في صالحه.
وهنا لا يقبل أن يخسر، شخصياً، بتاتاً. يضعون الشرط وآلية تنفيذه أيضاً، ثم لا يقبلون مناقشتها.
وتمشّى بين الصفوف وأخذ يعاين موجودات ومعروضات هناك وهناك. دفعة واحدة -عند اللزوم- ويتسبب له بخسارة مالية قد تطرده من عمله إلى الأبد، ويرى حينها إن كان القريب الذي يتفاخر به، يأبه لقرابته أم لا، أين منها عبوة سادسة مجّانية تلتصق دائماً بخمسٍ تُشترى، ربما يريد اللعين بيعها..
– إن آذيتني، أو آذيت المحلّ، شكوتك.
لا تخيفه شكوى أو تلويح بها. في الحقيقة يريد فقط أن يريه ما الذي يستطيع أن يفعله إن احتكم، مثله، إلى منطقه الخاص مستغلاً قوّته، نقطة قوته الأقوى.
عاد ليقف أمامه ضاغطاً بوقوفه أو صمته، فبادره الآخر، على تهدئة ما أو تخلّصٍ ربما من المأزق:
– تستطيع إعادة مشترياتك إن رغبت، والشرّاء من مكان آخر.
– وهو كذلك.
تفكك الموقف العدائي وانتهى الصراع، فغابت المشاعر المعادية، المتحفّزة. مع ذلك، وهو يوشك على الخروج من الباب، سمعه يقول له مؤنّباً بطريقة غريبة جداً، شخصية جداً:
– إن كانت العبوة السادسة من حقك، فوحدي الذي يقرر هذا.
فردّ مباشرة، بطريقة شخصية أيضاً:
– إن كانت من حقّي، فلا يهمّني قرارك.
حين تأمّل ما جرى في الشارع أدرك أنه إن كان حقّاً فعلاً، فهو حق في الاتجاهين: لا يمكن سلبه.. ومضى ليبحث عن مكان آخر يشتري منه، فقد تأخّر عمن ينتظرونه في الورشة.