الخميس ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٥
بقلم سعيد مقدم أبو شروق

حكايات أبي (8)

الوقت شتاء، حاول أبي ثلاث مرات أن يشعل ناره التي يخدر عليها الشاي حتى استطاع أن يضرمها في المرة الرابعة.
قال وهو يضيف إليها الورق والخوص ليسعرها: الحطب مبلل ورطب.

قلت له مقتضبًا: هلم نشتري لنارك نفطا من محطة البنزين.

وجلب معه برميلا بلاستيكيا ونسميه في الأهواز (دبة) وسرنا إلى المحطة.

وعند وصولنا قال أبي للعامل: صب لي من (نفيطتنا)¹ 20 ليترًا.

سأل العاملُ بلا اكتراث: (نفيطتكم)؟! ... ثم تابع في صوت متقطع: عليك أن تدفع 40 ألف ريال.

ورجعنا إلى البيت، وبخ أبي حطبه بالنفط ثم وبعود كبريت واحد تسعرت النار، فغلى الماء بعد لحظات
واستوى الشاي تفوح منه رائحة (الهيل)²، فارتشف منه فنجانين.

ثم شرع يحكي لي حكاية من حكاياته القديمة:

(حكاية دايخ)

كان رجال الشرطة قبل سبعين عاما، يخرجون من مقرهم إلى القرى، ويتصدق عليهم القرويون
بخمس ريالات، أو بقليل من السكر، أو بطبخة من الشاي، أو بحفنات من القمح، أو بكتلة من التمر؛
فيرجعون إلى وكرهم، وكأنهم سألة!

وبعضهم خبيث نذل، بل معظمهم؛ طالما يبحثون عن حجج واهية من العرب البسطاء ليجبروهم
على دفع الأموال أو البضائع أو الغنم.
وكان (غلوم) أحد هؤلاء العسكريين والذي كان يزور القرية دائما حتى أنه تعلم العربية بلكنة.
وأصبح كصديق لبعض الشباب فيباسطونه ويمازحونه وهو يبادلهم المزاح والهزل.
وكان (دايخ) أحد هؤلاء الشباب الذين كانوا يظنون أن غلوما أمسى صديقا لهم وأي صديق.
وذات مرة أضحى دايخ سارحًا بغنمه في الصحراء ومر عليه غلوم راكبا بغلا؛ فاعترضه دايخ يريد
أن يمازحه ويتسلى معه كالمعتاد.

فقال له غير جاد: سأجردك اليوم من سلاحك لتجلس معي وتسلي وحدتي.
وما إن أتم دايخ جملته حتى نزل غلوم من بغله وقيده ثم ربطه إلى البغل كالأسير وسار به إلى
القرية طالبا من أهله فدية.

وكان شيوخ القرية في كدحهم، منهم من يغزل، ومنهم من يبرم، وآخر من يعلف الأحمال مما
حشه بكرة، وهناك من ينام القيلولة.

وفجأة صرخت زوجة دايخ بعد أن رأت زوجها يدخل البيت مقيدا والشرطي يجره يمنة ويسرة:
يا للأهل والأعمام! فهبّ شيوخ القرية وشبابها ونساؤها وأطفالها ليروا ما حل بها من مكروه،
ووجدوا زوجها مقيدا أمام أطفاله والشرطي جنبه.

وبعد أن سمعوا ما جرى لهما من الشرطي حاولوا أن يذكروه بالملح والخبز وأن يقنعوه بأن دايخا
كان يمازحك، لكنه أصر على مكيدته ناكرا الجميل مدعيا أن دايخا يريد أن يقتل رجل الأمن
ويسرق بندقية الحكومة.

فاضطر أهل القرية أن يفاوضوه؛
طلب ألف ريال، ثم اقتنع بمئة.
وبعد أن فُك وثاق دايخ ضرب الأرض بقدمه غيظا، ثم ركض نحو غنمه التي بقت في الصحراء
دون راع، وانصرف الشرطي مسرعا دون خجل نحو وكره.

عندها التفت شيخ طاعن في السن إلى الشباب ورفع إصبع إشارته وقال في شيء من الحدة:

ألم أحذركم أن لا تصاحبوا غلام الديوان ولا مأمور الحكومة؟! هؤلاء مجبولون على النكران والغدر والخيانة.
والشباب أجمعهم أطرقوا وآثروا السكوت.

1- نفيطتنا : نفطنا، هكذا أنثها وصغرها أبي

2- الهيل: الهال أو الحبهان


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى