حوار مع الأديب الدّكتور مصطفى يعلى
* موجز السّيرة الذّاتيّة للضّيف:
– مصطفى يعلى من مواليد سنة 1945، بمدينة القصر الكبير في المغرب.
– حصل على دكتوراه الدولة في الأدب العربي الحديث، من كلية آداب الرباط في السنة الجامعية 1992/1993.
– عضو في اتحاد كتاب المغرب، ورئيس سابق لفرعه بمدينة القنيطرة.
– نشر مقالاته وقصصه بمختلف المنابر المغربية والعربية.
ـ شارك بإنتاجه في معظم الأعداد الخاصة بالأدب المغربي من المجلات الوطنية والعربية.
– صدرت له المجموعات القصصية التالية:
1- أنياب طويلة في وجه المدينة، مطبعة الأندلس، الدار البيضاء، 1976.
2- دائرة الكسوف، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، سوريا، 1980.
3- لحظة الصفر، البوكيلي للطباعة والنشر والتوزيع، القنيطرة، 1996.
4 ـ شرخ كالعنكبوت، البوكيلي للطباعة والنشر والتوزيع، بدعم من وزارة الثقافة المغربية، القنيطرة، 2006.
5ـ رماد بطعم الحداد، مطبعة الأمنية، الرباط، 2015.
6 ـ الأعمال القصصية: خمسة وخميسة ـ خمس مجموعات قصصية، منشورات باب الحكمة، تطوان، 2023.
* وهذا نصّ حواري معه:
- حصلتَ على الإجازة في الأدب العربي سنة 1968، ومن ثمّ بدأتَ العمل كمدرّس، إلى أيّ مدىً أفدتَ من دراسة الأدب العربيّ في مسيرتك الإبداعيّة الأدبيّة؟
علاقتي بالأدب العربي تمتد إلى ما قبل الدراسة الجامعية. لكنها تمتنت عند الالتحاق بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، التابعة لجامعة محمد الخامس بالرباط، فرع فاس. وبالطبع فإن تلقي هذا الأدب دراسة وتاريخا وتذوقا ونقدا، من لدن أساتذة أكاديميين متمكنين من المغرب والمشرق العربي، عمق تشبعي بهذا الأدب، مما أفادني في تلقينه لتلامذتي في الثانوي وطلبتي في الجامعة.
على أن لهذا الأدب تأثيرا مهما في توجهي الإبداعي في حقل القصة القصيرة، التي كانت مهيمنة على الساحة الأدبية العربية، خلال الستينيات والسبعينيات من القرن المصي، خصوصا بعد اطلاعي على أمهات الكتب السردية العربية، قديمها وحديثها، أمثال البخلاء والحيوان للجاحظ، وأعمال أبي حيان التوحيدي وأهمها كتاب (الإمتاع والمؤانسة)، ومقامات الهمذاني والحريري، وألف ليلة وليلة، والسير الشعبية من مثل حمزة البهلوان وسيرة عنتر. ولا غرو، إذ توجد في تلك الأعمال نصوص قصصية متوفرة على المعايير الفنية المطلوبة، وأذكر في هذا الصدد قصة (القاضي والذبابة) للجاحظ، و(المقامة البغدادية) للهمذاني مثلا وليس حصرا.
وبالنسبة للكتابات الحديثة والمعاصرة، فقد قرأت لمعظم كتاب القصة القصيرة، في المشرق والمغرب، أمثال يحيى حقي ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف الشاروني وإدوار الخراط وجيل الستينات والسبعينات في مصر، والعجيلي وزكريا تامر من سورية، وعبد الرحمن مجيد الربيعي من العراق، وعبد المجيد بن جلون وعبد الكريم غلاب وإبراهيم بوعلو من المغرب. وغيرهم كثيرون.
وكل ذلك ساهم دون شك، في بلورة شكل وأسلوب قصصي، لا سيما من جهة تمثل ملامح الهوية العربية، ومن بينها تقاليد القصص الشعبي العربي، فضلا عن معالجة ظواهر واقعنا المأزوم. وبالطبع لن أنسى تأثير قراءاتي في المتون السردية الأجنبية، لدى أمثال إدجار آلان بو وتشيكوف وغوغول وجي دي موباسان وإرنست همنجواي وأو هنري وإيطالو كلفينو وفرانز كافكا وخروخي لويس بورخيس وخوليو كورتزار، واللائحة طويلة.
- كانَ أوّل نصّ قصصيّ نشرتَه عندما كنت طالبًا جامعيًّا، بعنوان (سأبدأ من الصفر)، وذلك سنة 1966، الآن كيف تقرؤه كناقد، وكيف تصف تجربتك الإبداعيّة بعد كلّ تلك السّنوات؟
بالطبع كانت قصة (سأبدأ من الصفر) تجربة أولية، لها ما لها وعليها ما عليها، كأي محاولة أولى. فأكيد أنها وفق عنوانها هي مجرد نقطة انطلاق متعثرة، لن تستوفي كل الشروط الفنية المعيارية. والمهم أنني بعدها، تابعت بمثابرة تجربتي في كتابة القصة القصيرة، خلال أكثر من أربعة عقود، حققت فيها بعض التراكم في إبداع هذا الجنس السردي السهل الممتنع. وهكذا صدرت لي مجموعة (أنياب طويلة في وجه المدينة)، عن مطبعة الأندلس، في الدار البيضاء سنة 1976. ومجموعة (دائرة الكسوف)، عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق سنة 1980. ومجموعتا (لحظة الصفر) 1996 و(شرخ كالعنكبوت) 2006، عن دار البوكيلي للطباعة والنشر والتوزيع بالقنيطرة المغربية. ثم صدرت لي مجموعة (رماد بطعم الحداد) عن مطبعة الأمنية بالرباط سنة 2015. وقد توجت هذه الأعمال بصدور أعمالي القصصية تحت عنوان (خمسة وخميسة: خمس مجموعات قصصية)، عن باب الحكمة في مدينة تطوان سنة 2023.
وبالطبع فإن كتابتي القصصية قد مرت ببعض التطور، حيث تأثرت بالجو العام في السبعينات، إذ خضعت كغيرها من كتابات جيل السبعينات، من كتاب القصة القصيرة في المغرب، للاتجاه الواقعي المهيمن. على أنني فيما بعد لم أعد أعبأ بتوجه قصصي محدد، وصرت أتشرب مظاهر الإحداثيات في الواقع اليومي، والتعبير عنها جماليا وفق رؤيتي الذاتية ووعيي النظري لمفهوم القصة القصيرة، وطبيعة التجربة المعالجة، دون إهمال متابعة مستجدات القصة القصيرة عالميا، مما بدا في توظيفي للغروتسك والفانتستيك وتقنيات الفنون المجاورة، في قصصي وخاصة المتأخرة منها.
ولا يعني هذا أنني خضعت لإغراء مغامرة التجريب تماما، بل إنني كنت دوما مقتنعا بكون واقعنا الحضاري، لا ينسجم مع أمثال هذه التقليعات الأجنبية. ومن هنا عرفت تجربتي القصصية المتواضعة، تطورا حذرا منذ ثمانينيات القرن العشرين، مما وسمها بالاعتدال في التجريب، مع الاحتكام إلى الضرورة الفنية.
- يقول فرانك أوكونور" القصّة القصيرة هي فن المهمّشين".
ألا تعتني الرّواية بالمهمّشين أيضًا، وبالواقع الحياتيّ البائس؟
فرانك أوكونور حين اجترح في تنظيره القصصي مصطلح الجماعة المغمورة، التي تعيش على هامش المجتمع، كان قد انتبه إلى أن هذه الجماعة هي الموضوع المطرد في القصة القصيرة الحديثة والمعاصرة، حيث حددها في الموظفين العموميين عند جوجول، والخدم عند ترجنيف، والعاهرات لدى موباسان، والأطباء والمهندسين في قصص تشيكوف، والريفيين عند شيروود أندرسون، الخ...
ويمدنا أوكونور ذاته، بسبب تميز القصة القصيرة بهذه الجماعة المهمشة دون الرواية، ذلك أنه يذهب إلى فكرة توفر القصة القصيرة ضمن خصائصها، على الوعي الحاد باستيحاش الإنسان، وهو الوعي الغائب في الرواية. فالرواية نظرا لاتساع مجالها، مشغولة بالحياة، كل الحياة، وليس بمجموعة مهمشة معينة. ولا بأس أن نتذكر بالمناسبة، أن هنري جيمس سبق له أن تحمس في تنظيره للرواية، لفكرة كون الرواية صورة للحياة، على اعتبار أن موضوع الفن هو الحياة كلها.
وليس معنى ذلك، أن الرواية لم تعالج موضوع الجماعة المغمورة قطعا، بل إنها فعلت في إطار التعبير عن وقائع الحياة، وليس كتخصص القصة القصيرة، انطلاقا من مبدإ صلاحية كل الموضوعات للمعالجة الإبداعية في مختلف الأجناس الأدبية.
وتجدر الإشارة إلى أن نظرية فرانك أوكونور، المنجزة سنة 1963، تركزت على أعمال كبار الكتاب في الماضي، بحيث امتدت منتخباتها من جوجول إلى همنغواي، أي من القرن التاسع عشر إلى مطلع ستينيات القرن الماضي. لكن الملاحظ أن العقود التالية على نظريته، قد عرفت تطورات كثيرة للقصة القصيرة، عالجت موضوعات مختلفة تخرج عن دائرة الجماعة المغمورة.
- في كتابك (سحر الموروث السّرديّ) الصّادر عن الهيئة المصريّة العامّة للكتاب تتحدّث عن بعض تجلّيات تأثير "ألف ليلة وليلة" في الآداب العالمية، ما أبرز سمات هذا التّأثير؟
إن للأدب الشعبي العربي تأثيرا على المبدعات الغربية والعربية، لاسيما بالنسبة لألف ليلة وليلة. وإذا حصرنا تمثيلنا لذلك على ألف ليلة وليلة، ألفينا الاهتمام بها واسعا من لدن كبار الكتاب العرب والأجانب، أمثال طه حسين وتوفيق الحكيم وجيوفاني بوكاشيو وجيفري تشوسر وإدجار آلان بو وغارسيا ماركيز وخورخي لويس بورخيس وغيرهم.
إننا نجد مبكرا، في القرن الرابع عشر الميلادي، أديبين أوروبيين، هما جيوفاني بوكاشيو الإيطالي وجوفري تشوسر الإنجليزي، متأثرين إلى حد كبير بألف ليلة وليلة، فبوكاشيو يستعير بنية مجموعته الرائدة في القصة القصيرة (ديكاميرون)، من ألف ليلة وليلة، حيث تتكون من حكاية إطارية تتفرع إلى حكايات متفرقة، شبه مستقلة ومتعددة الرواة. بل إن الحكاية التاسعة في اليوم العاشر من الديكاميرون، قد استنسخت شكل وموضوع (حكاية المتلمس مع زوجته)، من ألف ليلة وليلة بحذافيرها، مع بعض الاختلاف الهامشي، الذي لم يفسد للأصل قضية. علما بأن كلا من متني الديكاميرون وألف ليلة وليلة، قد انطلقا من حافز جمالي واحد، متمثل في الهروب من الموت؛ شهرزاد من سيف شهريار، وأبطال الديكاميرون من طاعون فلورنسا.
أما جيوفري تشوسر فقد استفاد هو الآخر، في (حكايات كنتربري)، من نفس بناء ألف ليلة وليلة، القائم على ثنائية الحكي المؤطِّر والحكايات المتفرعة، على لسان رواة آخرين غير الراوية أو الراوي الأصليين. ففي طريقه إلى كنتربري من أجل الحج، أقام (تشوسر) الراوي في خان (الرداء الفضقاض)، حيث التقى بزمرة من الحجاج، هم رواة حكايات كنتربري التسعة والعشرين. وبعد أن عرَّف بهم، عرض حكايات هؤلاء الرواة كل على حدة.
وفي النصف الأول من القرن التاسع عشر، عمد إدجار آلان بو إلى كتابة قصة (حكاية شهرزاد الثانية بعد الألف)، مستلهما حكاية شهرزاد مع شهريار، وبعد أن عرض أزمة شهريار بسبب خيانة المرأة، وانتقامه اليومي بقتل زوجة كل يوم، إلا أن شهرزاد تمكنت من رده عن عادته الدموية. لكن إضافة إجار ألان بو الإبداعية في هذا الاستلهام، كونه بنى على ذلك تمديد حكي شهرزاد إلى الليلة الثانية بعد الألف.
وباختصار، فمنذ ترجمة أنطوان غالان ألف ليلة وليلة إلى الفرنسية، مطلع القرن الثامن عشر، انتشر هذا الأثر الإبداعي المدهش في كل العالم وخاصة في الغرب، حيث استمتعت بحكايات ألف ليلة وليلة أجيال وأجيال، وحكيت وقُرئت، وأخرجت كثير من حكاياتها مسرحيا وسينمائيا، كما في أفلام والت ديزني الساحرة مثلا.
- ما سبب اهتمامك بالقصص الشعبي؟.
وهل حقًّا كما يرى إنريكي آندرسون إمبريرت أنّ " القصّة القصيرة قد تناسلت من القصص الشّعبيّ."؟
أولا، ينبغي أن نتذكر بأن القصص الشعبي، كما كل الأجناس الأدبية الشعبية الأخرى، يعد من أمتع وأغنى الآداب تشكلا وحكمة، وقد تناول خبرات ومعتقدات وعادات، وعبر عن نبض الشعوب منذ القدم، مما جعله محط اهتمام مختلف الحقول المعرفية والاتجاهات المنهجية في عصرنا، لاسيما وأنه مبني على أشكال فنية دقيقة ذات عناصر جمالية وقوانين محددة ومضبوطة.
وثانيا، أكرر هنا ما قلته في عدد من الحوارات معي، عن علاقتي بالأدب الشعبي. فربما عاد السبب إلى مرحلة الطفولة، حيث وجدتني أولع بما كنت أسمعه في مدينتي العتيقة القصر الكبير بشمال المغرب، من حكايات شعبية، على لسان راويات في بيتنا وبيوت الجارات كل مساء، أو من الرواة في الحارة العامة عصرا. وطبعا فقد أثرت تلك المرويات الشائقة على توجهي هذا، إلى جانب الاستغراق في مرحلة الطفولة المتقدمة، في إدمان قراءة أمثال ألف ليلة وليلة وحمزة البهلوان وسيرة عنترة، وغيرها. وكانت نتيجة هذا الولع، أن توجهت إلى كتابة القصة القصيرة إبداعا، وإلى اختيار موضوع الأدب الشعبي دراسة، بما في ذلك إنجاز شهاداتي الأكاديمية العليا من ماجستير ودكتوراه دولة.
وعن تناسل القصة القصيرة من القصص الشعبي، وفق فكرة إنريكي أندرسون إنبرت، في كتابه التنظيري (القصة القصيرة: النظرية والتقنية)، يمكن القول بأن إرهاصات القصة القصيرة الحديثة والمعاصرة، وجدت في التراث الإنساني جميعه، وبالضبط فيما اجترحه من أنماط الحكي، عبر العصور. وقد أشار إنبرت إلى بعض أشكاله وأجناسه في الفصل الثالث من كتابه تحت عنوان (أصول القصة القصيرة).
ويدعم هذا الافتراض، كون معظم الدارسين والمنظرين للقصة القصيرة، يذهبون إلى أن (الديكاميرون) لبوكاشيو تعتبر منبع القصة القصيرة الحديثة والمعاصرة، بينما هي في حقيقتها مجموعة حكايات شعبية.
ومع ذلك، يمكن ملاحظة أن القصة القصيرة هي نوع حديث ومعاصر، مستقل بذاته، وله قواعده المخصوصة. وأما ما سبقها فقد كان ينتمي إلى أنواع سردية أخرى شعبية ورسمية، تعتبر مراحل ماضية من تطور السرد.
- تقول في حوار صحفيّ سابق عام ٢٠١٤:
"أما بالنسبة لمستقبل القصة القصيرة جدا، فيمكنني الذهاب بعيدا، فأعتقد أن المستقبل ليس للرواية ولا للقصة، بل للقصة القصيرة جدا".
الآن بعد مرور عشر سنوات، هل اختلفت الرّؤية؟
يمكنني أن أدعي أنني لا أزال مقتنعا بأن المستقبل للقصة القصيرة جدا. وذلك لاعتبارات حاسمة، أنتجتها وتنتجها المرحلة، بسرعة تطورها المطرد، ومنجزاتها المتلاحقة، مما يرشح القصة القصيرة جدا، لصدارة التعبير السردي عن إنسان الألفية الثالثة، باعتبارها أبلغ أدوات التعبير عن روح العصر، وأكثرها تلاؤما مع طبيعته. فإذا كانت الرواية قد صاحبت تطلعات البورجوازية الصاعدة المتنورة، بينما اهتمت القصة القصيرة بالجماعات المهمشة، فإن القصة القصيرة جدا هي الأصلح للتعبير عن الراهن الحضاري المتميز بالسرعة والكثافة، وذلك لما تمتلكه بلاغتها من أدوات جمالية، كالمفارقة المدهشة والعمق الكشاف والرمز النفاذ والتكثيف الخصب والبارقة الزمنية ودقة التقسيم وطاقة الإيحاء والترميز وشاعرية الأسلوب. إضافة إلى شدة قصرها، الذي يسمح بقراءتها في كل مكان وفي زمن أقصر. إذ في عصر السرعة المتلاحقة تتضاعف الحاجة إلى الإيغال أكثر في اللقطات الخاطفة وحسن التقسيم واقتصاد اللغة وبلاغة الإيجاز وعبقرية التكثيف وشدة التوتر وبراعة الانزياح وشفافية الترميز والإيحاء وعمق الدلالة. وكل ذلك يدعم نشر القصة القصيرة جدا على نطاق واسع، خصوصا في وسائل التواصل الاجتماعي، التي تتحكم في أحجام وأشكال الأعمال الأدبية، كما هو التغريد المركز بالتويتر، والتواصل في الفيسبوك.
وإذا كانت هذه الأفضلية للقصة القصيرة جدا مرهونة بالمستقبل، فإن حماسة إقبال القراء والكتاب عليها، وخاصة الشباب منهم، لمن شأنها أن تصب في تحقيق هذا الرهان مستقبلا.
- كيف كان وضع المرأة المغربيّة قبل فترة الاستقلال، هل كان لها حضور أدبيّ، وكيف وضعها الآن، وما أبرز الأصوات الأدبيّة النّسائيّة حاليًّا؟
+ كما في كل الأقطار العربية كانت المرأة في المغرب قبل الاستقلال مجرد زوجة وربة بيت، ولا حضور لها في المجتمع، وغالبا ما كانت أمية ولا مستوى ثقافي لها، ما عدا بعض الاستثناءات النادرة. لكن الأمر قد تغير مع حصول المغرب على الاستقلال سنة 1956، حيث دخل البلد في مرحلة مفصلية بين عصرين: الحماية الفرنسية والإسبانية للمغرب، واستقلال المغرب إلى الآن. ففي عهد الاستقلال خرجت المرأة إلى الحياة وتعلمت، واحتلت مناصب مهمة في البلاد، ودخلت البرلمان واستُوزِرت.
وتبعا للوضعية المتخلفة للمرأة المغربية، خلال فترة الاستعمار، فمن الطبيعي أن نفتقر لأصوات أدبية نسوية في المرحلة، مع بعض الاستثناءات التي لا يعتد بها. وأستحضر في هذا الصدد صوتين نسويين اثنين، كانت لهما محاولة في الكتابة السردية، أولاهما مالكة الفاسي، التي ربما لأنها كانت منخرطة في الحركة الوطنية، وهي المرأة الوحيدة الموقعة على وثيقة الاستقلال؛ كانت تنشر مقالاتها وقصصها منذ ثلاثينات القرن العشرين في مجلة (المغرب) وجريدة (العلم)، باسمها أو باسم مستعار هو (باحثة الحاضرة). والثانية هي الكاتبة والصحفية آمنة اللوه، صاحبة أول رواية نسائية في المغرب، تحت عنوان (الملكة خناثة)، الحاصلة على جائزة المغرب للآداب سنة1954.
ولم تعرف فترة الحصول على الاستقلال، الممتدة عشر سنوات منذ 1956، كاتبات ومبدعات مغربيات، إلى النصف الثاني من القرن العشرين، حيث ظهرت ثلاث كاتبات مبدعات، الأولى خناثة بنونة قصاصة وروائية، والثانية رفيقة الطبيعة قصاصة، والثالثة فاطمة الراوي روائية. ثم اطرد انخراط المرأة في الحضور الثقافي بالمغرب، كاتبة وصحفية وقصاصة وروائية وشاعرة، بزخم ملحوظ.
– قديمًا عاصرتَ متعة الكتابة الورقيّة، والقراءة من كتاب ورقيّ، الآن كيف تقيّم تجربة النّشر والقراءة الإلكترونيّة؟
إن الجيل الذي أنتمي إليه كان مهووسا بقراءة الكتب الورقية. ومن هنا تعودي على هذا النوع من القراءة، لما كان يتيحه من تركيز وبطء استيعاب للعبارات والفقرات والصفحات، وتلخيصها والتعليق عليها ونقدها. وإنك لتجدين في مكتبتي الخاصة كتبا يصعب عليك فهمها، وذلك بسبب ما فعله بها قلم الرصاص.
على أنني مسايرة للتطورات التقنية، انخرطت في الفضاء الرقمي، لما اكتشفته فيه من إمكانيات هائلة، بحيث أصبح مرجعا مسعفا في أي موضوع، وبأكثر سرعة، وأقل جهد. بل أتاح فرصا أكثر للنشر، كانت ضيقة في عالم النشر الورقي، إن بالنسبة للكتاب والأدباء الكبار، وإن بالنسبة للأدباء الشباب. لهذا صار من غير الممكن الاستغناء عن هذا الفضاء، من لدن الباحثين والطلبة وكل المثقفين. بيد أن ما هو أهم بالنسبة إلي في هذا العالم الرقمي، كونه يوفر معظم ما أحتاجه من المصادر والمراجع، التي ما كان في إمكاني أن أطولها، لولا هذا الفضاء المدهش.
لكنني في المحصلة، باعتباري مخضرما، عايشت ثقافة الكتاب الورقي أكثر، وأطللت على منجز العالم الإلكتروني، أفضل صراحة الورقي على الرقمي، وإن كنت أتطلع إلى أن تعم الثقافتان الورقية والإلكترونية معا، خدمة للفكر والأدب الإنسانيين.
- كونك أحد أعضاء أسرة التحرير في موقع ديوان العرب، حدّثنا عن بداية عملك، وهل من اقتراحات لتطوير الموقع؟
حين التحقت بأسرة المجلة الإلكترونية المميزة (ديوان العرب)، سرني أن تعرفت إلى مجموعة من الأساتذة الأدباء من مصر وسورية ولبنان، بإشراف الكاتب والمبدع عادل سالم، وأسندت إلى في إدارة (ديوان العرب) مهمة العلاقات الداخلية. وقد نشط عملي أكثر في هذه المجلة الإلكترونية النوعية، تفكيرا وتحكيما، خلال تنظيم المسابقات الأدبية، التي نظمتها (ديوان العرب)، عن الشعر والقصة القصيرة وقصص الأطفال، مما تُوج بمشاركتي في حفلات تسليم الجوائز على الفائزين بالقاهرة.
ولعل ما ينبغي الحرص عليه، لتستمر مجلة (ديوان العرب) العتيدة في تميزها، هو دأب الالتزام بمعيار الجدية والابتكار فيما ينشر بها، وكذلك استمرار النقاش الخلاق بين السادة أعضاء مكتب المجلة، حول كل الأمور الثقافية المرتبطة بتجويد فاعلية المجلة.
- من خلال خبرتك الحياتيّة والأدبيّة، ما النّصائح الّتي تقدّمها لجيل الكُتّاب الشّباب ولمن سيتقدّم للمشاركة في جائزة ديوان العرب في نسختها الجديدة؟
كما فعلت مرارا في مناسبات شبيهة، أقول إنني لا أحبذ شخصيا توجيه النصائح لجيل الكتاب الشباب، فكل منهم ينبغي أن يصنع شخصيته الأدبية، ويثري تجربته الإبداعية، وإنما أكتفي بتوصيتهم فقط بإدمان قراءة النصوص الجيدة في الجنس الذي يبدعون فيه، إضافة إلى التمكن من الوعي بنظرية ذلك الجنس الأدبي. وأكيد أن منهم من يتقدم للمشاركة في مسابقة ديوان العرب، كما يتضح من فحص نصوصهم، لكن منهم أيضا من يجرب حظه دون مستوى أدبي مطلوب.