حول اللغة في الكتابة الصوفية
الألفاظ ذائعة الشهرة والاستخدام يصعب الحديث حولها؛ لأنه بقدر ما يجعلها الانتشار معروفة للجميع يجعلها غامضة غير واضحة. ذلك أن توهم المعرفة الذي يصاحب كثرة استخدام مصطلح ما يصرف غالبا عن البحث وتتبع الحدود المخصوصة للكلمات والأشياء.
لعل أكثر الكلمات شيوعا والتي يمكن أن نطبق عليها هذه الفكرة هي كلمة الحب الصغيرة. وليس شيوع الكلمة وحده هو ما يجعلها تقع في هذه المنطقة. بل لأن الحب عاطفة تتصل بجميع البشر دون النظر إلى مكانهم من خريطة المعرفة أو الدراسة أو التفكير. وهي بذلك ملك للجميع ولا يُقبل أن يدّعي أحد امتلاكه وحده المعرفة الكاملة فيه. أو يرى تجربته أولى بالتعميم والاتباع.
الحب إذا تجربة خاصة يختلف منهجها باختلاف أقطابها وظروفهم. بل وتختلف معاني النتائج فيه أيضا. مقدماته المتشابهة لا تنتهي إلى نهايات متشابهة. ثم هي نتائج بالغة الخصوصية في العادة لا تمس إلا القائمين بالتجربة، وإن تعدتهم فبالقليل.
أبدأ هذه البداية لتنقلني إلى كلمة أخرى أكثر مسا وشيوعا وجدلا هي "الدين والتدين". ووجه الشبه هنا هو الشيوع أولا، ثم هو خصوصية التجربة للفرد. غير أن تجربة الدين ليست مطلقة المنهج، حرةً في دروبها كما هو الحال مع تجربة "الحب" من حيث هو عاطفة بين البشر، لا في الذين يدينون بالأديان السماوية ولا عند من يتبعون مناهج بشرية موضوعة.
الدين تجربة معلومةُ الخطوات والحدود، والمساحة المتروكة للتجريب الحر فيه ليست واسعة في العادة. وكلما قرُب الدين من تحقيق التوازن بين الرغبة الكامنة في البشر للمعرفة والتجريب وبين حدوده الصارمة الموضوعة لهم كان أكثر قبولا في النفس محققا لها الأمان الذي تنشده.
وعليه فإن البشر جميعا مشتركون في هذه التجربة على اختلاف معطياتها وخطواتها وما يتوقع أن تنتهي إليه في كل جهة من جهاتهم المختلفة. هذا الاشتراك يجعلنا نضع سؤالا هاما هنا: إلى أي مدى يحملنا التشابه في العلة والاسم ونحن ندرس هذه التجربة، وهل يصح التعامل معها جميعا بقيم واحدة ثابتة؟
لكي نجيب هذا السؤال نضع سؤالا آخر أولا: من أين ينبت الدين في النفوس؟
سأتجاوز كل النظريات التي وضعت في ذلك، إلى الاعتقاد الذي ندين به نحن المسلمون. وهو: "وإن كانت الحاجة للتدين فطرة وإن كنا نؤمن بأن البشر قادرين بهذه الفطرة على الاستدلال إلى ما ينبغي عليهم عمله إلا أن المناهج السماوية التي وصلت إلينا عن طريق الرسل لا يمكن إهمالها أو التعامل معها كأن لم تكن." وهي العبارة التي يقصر الحديث هنا عن إثباتها أو التدليل عليها اختصاراً.
ونحن بهذا نجمع كلا النهجين في التفكير في هذه القضية، المادي القائل بأن الدين غريزة موجودة بالفطرة والغيبي القائل برسالة سماوية هي الدليل وهي المنهج. الدين إذا تجربة معلومة الخطوات والحدود.
أقول كل ذلك لأنتهي إلى أن تجربة التصوف في الإسلام تجربة خاصة به وإن تشابهت مع تجارب إنسانية أخرى فلا يمكننا وضعها معها في نفس المنطقة أثناء دراستها والتعامل معها. فلا المعطيات ولا الخطوات ولا الغاية منها واحدة.
لقد قام التصوف في الإسلام على أنه تجارب روحية خاصة غايتها الوصول إلى الله من طريق الله. ولعل أبرز العبارات التي ينبغي التوقف عليها هي قول ابن خلدون في المقدمة:
هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين، طريقة الحق والهداية، وأصلها الوقوف على العبادة والانقطاع إلى الله والإعراض عن الحياة الدنيا والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه والإنفراد عن الخلق بالخلوة وكان هذا عاماً في الصحابة والسلف فلما فشى الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وجنح الناس إلى حب الدنيا اختص القائمون على العبادة باسم الصوفية
إنها تجارب قامت بمعدلات محسوبة في ظروف معلومة لم يتعد فيها منهم أحد وقد قال القشيري في أول رسالته:
لكننا مع ذلك نجد فيما وصل إلينا أحوالا عدها الفقهاء شططا وصل أحيانا إلى التكفير. ولعل في حديث ابن طفيل وهو يبدأ رسالته "حي بن يقظان" شيئا يعلل ذلك:
"غير أن تلك الحال لما لها من البهجة والسرور واللذة والحبور لا يستطيع من وصل إليها وانتهى إلى حد من حدودها أن يكتم أمرها أو يخفي سرها، بل يعتريه من الطرب والمرح والسرور ما يحمله على البوح بها. فإن كان ممن لم تُحذقه العلوم قال فيها بغير تحصيل، حتى إن بعضهم قال في هذه الحال: "سبحاني ما أعظم شاني"، وقال غيره : "أنا الحق" وقال غيره: "ليس في الثوب إلا الله". وأما الشيخ أبو حامد الغزالي فقال متمثلا عند وصله إلى هذا الحال بهذا البيت :
قد كان ما كان مما لست أذكره
فظن خيرا ولا تسأل على الخبر
فإنما أدبته المعارف وحذقته العلوم انتهى.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى ما وقع للناس من استغلاق الفهم لحديثهم في وصف أحوالٍ لم يعاينها الناس، واستخدامهم لغة لم يعهدوها. فتجد حول شخص واحد مثلا كتابين "تنبيه الغبي إلى كفر ابن عربي" للبقاعي، و "تنبيه الغبي في تبرئة ابن عربي" للسيوطي.
يصف ابن خلدون ذلك في المقدمة:
«ثم لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم واصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم. إذ الأوضاع اللغوية إنما هي للمعاني المتعارفة، فإذا عرض من المعاني ما هو غير متعارف اصطلحنا عن التعبير عنه بلفظ يتيسر فهمه منه فلهذا اختص هؤلاء بهذا النوع من العلم الذي ليس لواحد غيرهم من أهل الشريعة الكلام فيه. وصار علم الشريعة على صنفين صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتيا وهي الأحكام العامة في العبادات والعادات والمعاملات، وصنف مخصوص بالقوم في القيام بهذه المجاهدة ومحاسبة النفس عليها والكلام في الأذواق والمواجد العارضة في طريقها وكيفية الترقي منها من ذوق إلى ذوق وشرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك.»
التصوف ذوق، لذلك قالوا: من ذاق علم ومن لم يذق حرم. وحين حاولوا وصف ما ذاقوا أكسبوا اللغة صورة عذبة حية. مسوا منها الخفي من أنفاسها وكوامنها. وهو ما أتمنى أن نبحث فيه معا متذوقين مستمتعين.