الأحد ١٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٠
بقلم عاطف أحمد الدرابسة

حينَ أغيبُ..

قلتُ لها:

سأشربُ في هذا الزَّمانِ، حتى أشعرَ أنِّي بتُّ أرى كلَّ شيءٍ: الخرائبَ، الفسادَ، الكذبَ، المسلسلاتِ التُّركيَّةَ، الأفلامَ السِّينمائيَّةَ الأمريكيَّةَ، التي لا تعني لها الحياةُ شيئاً، الدُّولارَ المُزيَّفَ، العدوَّ الحقيقيَّ، أفكاريَ العاجزةَ، صوري المُشوَّهةَ، الحُفَرَ في الطُّرقِ التي تبدو كالقبورِ، المطرَ المُلوَّثَ بمصانعِ الحضارةِ، الألمَ المؤبَّدَ، الأشياءَ الغامضةَ التي تطوف حولَنا، دون أن ندري من أين تأتي، وإلى أين تذهبُ.

سأشربُ هذه اللَّيلةَ حتى أشعرَ أن دميَ يهدُرُ في شراييني، كأمواجِ البحارِ المَنسيَّةِ، سأبذلُ جهدي ألَّا أفقدَ الوعيَ، أو أن أغيبَ، فأنا أنتظركِ يا حبيبتي في هذا المساءِ الساحرِ، على مائدةِ العشاءِ، سأرقصُ معكِ حنى يتعرَّى هذا العالمُ أمامي، سأُقبِّلكِ حتى يعودَ الفرحُ إلى عينيِّ العاملِ والفقيرِ، سأضمُّكِ وأغيبُ، حتى تعودَ الحياةُ إلى الممالكِ، التي تُقيمُ تحتَ الأرضِ، سأحاورُ خصركِ حوارَ الفلاسفةِ والفنانينَ، والمُبدِعينَ، حتى يعودَ الضَّميرُ يعملُ، كما يجبُ أن يعملَ في وجدانِ السِّياسيِّينَ، وصُنَّاعِ القرارِ، ومُشعِلِي الفتنِ، وتُجَّارِ الدَّمِ، والحروبِ.

سأشربُ هذه اللَّيلةَ النَّبيذَ المُعتقَ، في الجِرارِ الفرعونيَّةِ، والإغريقيَّةِ، ليمتلئَ عقلي بكلِّ الأفكارِ الثَّائرةِ، وأغيبَ مُستغرِقاً في حالةٍ من التَّأملِ العميقِ، لأسمعَ ذلك الصُّراخَ الصَّامتَ، وأرى ما يحدثُ في اللَّيالي المُظلِمَةِ، كأنَّه يحدثُ في وضحِ النَّهارِ، ثمَّ آخذكِ لنجلسَ أمامَ موقدِ الحطبِ، نُصغي لصوتِ خريفِنا، لكسلِ عمرِنا، ثمَّ نتركُ الحبَّ يتصاعدُ فينا، كالدُّخانِ، كبخارِ قطارٍ قديمٍ، وأسمعُ ماذا يقولُ قلبي لقلبكِ، وماذا تقولُ شفتايَ لشفتيكِ، وأرى أصابعي تتسلَّلُ إلى عنقكِ المُعطَّرِ بشذى أنفاسي، وهي تشدُّكِ إليَّ، كأنَّنا بحرٌ ورمالٌ، مطرٌ وترابٌ، كلَّما قبَّلتُكِ أكثرَ، ازدادَ تجمُّر الحطبِ أكثرَ، وارتفعَ اللَّهبُ أكثرَ، ما أجملَ أن أغيبَ بين أحضانكِ ليلةً واحدةً قربَ الموقدِ، فأراني أحترقُ كما يحترقُ الحطبُ، وتُستنفَدُ طاقتي، كما تُستنفَدُ أحلامُ الشَّعبِ في المدنِ المقموعةِ.

سأشربُ الخمرَ هذه اللَّيلةَ، لأمتلكَ القدرةَ على تأمُّلِ هذا العالمِ الواسعِ، فأقرؤهُ حرفاً حرفاً، مدينةً مدينةً، وجهاً وجهاً، ثمَّ أطويه بين يديَّ كما تُطوى رسائلُ الحبِّ، وأحفرُ له في أقصى الرُّبعِ الخالي قبراً، بمساحةِ قلبكِ، وأدفِنُه هناكَ، كما تُدفَنُ حشرةٌ كانت تظنُّ نفسَها ذاتَ يومٍ مُهرةً أصيلةً، تنتمي إلى أعرقِ الخيولِ نسباً.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى