الثلاثاء ١٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٢
بقلم عاطف أحمد الدرابسة

قراءةٌ نقديَّةٌ في روايةِ «سوق الملح» للروائي اللبناني عمر سعيد

تُعدُّ روايةُ سوق الملح للروائي اللبناني عمر سعيد، من أشدِّ الأنظمةِ الروائيةِ تعقيداً، على مستوى المضامينِ، والشكلِ، فهي تجعلُ القارئَ الناقدَ يُعيدُ النظرَ في أجهزته النقدية، ومفاتيحه القرائية ؛ فالأعمال الفنيةُ المركَّبةَ كالأعمالِ الفنيةِ العظيمة، تتجاوز مفسِّريها، ونُقَّادها، وقُرَّائها، هذه الروايةُ جعلتني أُعيدُ النظرَ في استراتيجياتي النقدية؛ فالأعمالُ الابداعية الخارقةُ للعادةِ والمألوفِ، غالباً ما تثورُ على سلطةِ المنهجِ، وتتمرَّد عليه، كما أنَّها في الوقتِ نفسه تُسهم في إغناءِ البرنامجِ النقدي، وتفرضُ على القارئِ ابتكارَ مفاهيم نقديةٍ، أو أدواتٍ نقديةٍ جديدةٍ، تنسجمُ مع بنيتها المُعقدة، وإحالاتها المرجعيةِ المُكثَّفةِ.

إنَّ روايةَ سوقِ الملح هي أشبهُ بنسيجٍ عنكبيٍّ، أو أشبهُ بشبكةٍ طرقٍ مُعقدة التكوين، في مدينةٍ كنيويورك أو موسكو، فضلاً عن شبكة الأنفاقِ الداخليةِ المحتجبةِ عن أعينِ الناظرين.

إنَّ الأعمالَ الإبداعية المركبة، والمميَّزة، هي مَن تفرضُ شروطَ قراءتها، على مستوى الرؤى والأفكارِ والشكلِ، وهي في الوقتِ نفسه تفرضُ آفاقاً نظريَّةً جديدةً، دون الاعتمادِ على مُسلَّماتٍ نقديةٍ تقليديةٍ، تبدو مبتورةً إزاء عملٍ روائي بهذا التعقيدِ.

إنَّ روايةَ سوقِ الملح تطرحُ قضيةَ الهويَّةِ في بنية المجتمعِ العربي، وهو مجتمعٌ بُني على وعي جمعيٍّ، يُعلي من شأنِ الجذورِ والأصولِ، كأنَّه نازيُّ التفكيرِ، فالإنسانُ الذي لا ينتمي إلى أصولٍ قبليَّةٍ، وعِرقٍ صافٍ نقي، هو إنسانٌ بلا هويَّة، أي هو إنسانٌ من الدرجةِ العاشرةِ، مرفوضٌ اجتماعياً، مقموعٌ ثقافياً، مُهمَّشُ مكانياً، مهما بلغَ من العلمِ، ومهما نال حظاً وافراً من الثقافةِ.

يطرحُ الكاتبُ عمر سعيد مشكلةَ الهوية، والحفرَ في الجذورِ من خلال شخصيتينِ رئيسيتينِ: هما ماجد، وعلي، والمكانُ الذي تتحرَّكُ فيه الشخصيَّتان، مخيَّمٌ صَفحيٌّ، تبتلعه المدينةُ شيئاً فشيئاً، فيزحفُ نحو الأطرافِ، والأطرافُ لفظةٌ دالَّة على المناطقِ المُهمَّشةِ في الدولِ، وقد عُرفت هذه الفئةُ الاجتماعيةُ في الوطنِ العربي باسم (البدون)، وكأنَّ إدخالَ أل التعريف على عبارة (بدون)، أخرجها من شبه الجملةِ إلى الاسميةِ، فصارت وسماً لهذه الفئةِ الاجتماعيةِ، وهويةً جديدةً لهم، غير أنَّها هويةٌ مرفوضةٌ اجتماعياً وسياسياً، لا حقوقَ لها، ولا واجباتٍ عليها.

علي نحلَ شخصيةَ نوافٍ المريض، ابنَ اخته المتزوجة من مساعد العنزي، الذي يحملُ أوراقاً ثبوتيةً، فموتُ نوافٍ منح علياً هويَّته القبلية، فسافر إلى استراليا ليُكملَ دراسةَ الطبِّ، بوصفه طالباً ذكياً، وموهوباً، غير أنَّ علياً ما انفكَّ يعاني من ازدواجيةِ الاسمِ والهويةِ، وكأنَّه في حالةِ انفصامٍ، فالقشرةُ (نواف)، واللبُّ (علي)، وبقي هذا الانفصامُ يلازمه كظِّله.

أمَّا ماجد فهو شخصيَّةٌ عجيبةُ التكوينِ، نال حظاً من الثقاقةِ والمعرفةِ الذاتيتين، فقد اعتمد على نفسه في بناءِ عقله، وكان صديقاً لعلي، يحملُ على عاتقه همَّ البحثِ عن جذوره وأصوله، تلك الأصولُ التي انبجستْ في عقله، ووجدانه من روايةٍ شفويَّةٍ تتحدَّثُ عن سوارٍ من عظم العاجِ مطَّعم بالفضة، يُعدُّ دليلاً على نسبه، ويرتبطُ بجدِّه الأول (طراد)، غير أنَّ جدته لأبيه نفت هذه الرواية، وأخبرته أن جدَّه طراد مات غرقاً، بعد أن التهمه (أبو دريَّا)، وغرق معه السوار، غير أنَّ ماجد لم يقتنع برواية جدته ؛ لأنه مقتنع أنَّ جدَّه قد نجا، إذ كان يعتقد أن جدته سرقت السِّوار من قبيلتهم،، وأنَّها قد هرَّبته إلى أهل أبيها في قبيلتها، تدليلاً على أحقيتها بالسيادة (سيادة القبائل)، فيرحلُ إلى صنعاء القديمة (سوق الملح تحديداً) بحثاً عن هذا السوارِ ومآله، فيلتقي هناك بالمستشرق جان لامبير، والمهاجر الفلسطيني المعروف بالرَّقاش، وهو أيضاً شخصيةٌ فاقدٌ لوطنه وهويته، ولا يحملُ أوراقاً ثبوتية، وقد ارتبط بلامبير بعلاقة ثقافية وفكرية، محورها كتابٌ ألَّفه الرَّقاش، وطلب من لامبير أن يضع له المراجعَ والأصولَ، وينشره له، وبرغمِ أحداث اليمن المعاصر، وما حلَّ بها من تشتيتٍ وقهر، فقد وقع على ماجد رحلةَ البحثِ عن السوار.

وأمَّا علي فقد انتهى به المآلُ إلى سلطنةِ عُمان، في رحلةٍ طبية تطوعيةٍ لخدمة بعض السكانِ المحرومين منها، حيث انتهى به الأمرُ إلى السجنِ، بوصفه ناحلاً هويةَ غيره.

ما تقدَّم هو جذعُ الروايةِ، أو هو الحكايةُ (القصة)، لكن ما يعنيني هنا هو البناءُ الحكائي، أو الخطابِ الروائي مرويَّاً أو مكتوباً، وأعني هنا ببنيةِ الحكايةِ هو ذلك النظامُ الذي تشتغلُ فيه عناصرُ الروايةِ، ومعرفةُ عناصرِ البناء الروائي، وطرائق تشكيله لا يتمُّ بمعزلٍ عن الروايةِ نفسها، فلا شيء يمكن أن يكشفَ عن هذه العناصر أكثر من الروايةِ نفسها، فلكلِّ روايةٍ خصوصيتها من حيث البناءِ، وطرائقِ التشكيلِ، ولقد أجمع النُّقاد على أنَّ البناء الروائي يتضمَّنُ العناصر التالية: الشخصيات، والأحداث، والزمان، والمكان، والسرد، والحوار، والحُبكة، والراوي، واللغة.

والواقعُ أنَّ السردَ هو الركن الرئيسُ في الرواية ؛ فالرواية ببساطة تحكي حكايةَ قصةٍ، فأيُّ رواية لا تقوم بدون سرد، فهي العامل المشترك في الرواياتِ كلِّها، ويُمثِّل العمودَ الفِقْريَّ لها، وعلى العمومِ فهذه العناصرُ هي عناصرُ ثابتة في العملِ الروائي، باعتبارها عناصرُ بنائية، تنهضُ على اللغةِ، واللغةُ هي أهمُّ ما ينهضُ عليه البناءُ الفني للرواية، وكلُّ هذه العناصر تُقدَّم من خلال هذه الرؤى، وأمَّا العناصر المُتغيرة فهي تلك العناصرُ التي تُشكِّل فضاء الرواية، وما ينطوي عليه هذا الفضاء من عناصرَ إضافيَّةٍ، يغتني بها المتنُ الحكائي، والفضاءُ الروائي يكشفُ عن شخصيةِ الكاتبِ، وعن شخصيَّةِ الراوي.

وهنا لا بدَّ أن أفصلَ بين مفهومينِ: مفهومِ الكاتبِ، ومفهومِ الراوي، فالكاتبُ هو الكاتبُ بالمطلقِ، أي الذي يحترفُ الكتابةَ، وله حياته الاجتماعيةُ الحقيقيةُ، وأمَّا الراوي فهو الكاتبُ النِّسبيُّ لا المطلقُ، أي لحظة كتابةِ الرواية، والسؤال الذي يدورُ في ذهني كقارئٍ حقيقيٍّ للروايةِ: هل قدَّم عمر سعيد نفسه هنا كاتباً أم راوياً ؟ إنَّ الإجابةَ عن هذا السؤال كامنةٌ في الفضاءِ الروائي.

إنَّ الأمرَ اللافتَ للانتباه في رواية (سوق الملح)، هو اتِّساع الفضاء الروائي، فالحيِّزُ الذي يشغله المكانُ واسع، على مستوى جغرافيته، إذ يبدأ من المخيم الصفحي في مكان ما في الجزيرةِ العربية، فيتمدَّدُ نحو استراليا، اليمن، فرنسا، عُمان، الشارقة، تشيلي، ألمانيا، فلسطين، لبنان، زنجبار.

كما أنَّ الفضاءَ الروائي للشخصياتِ شديدِ التعقيدِ، ووراء كلِّ شخصيَّةٍ قصة، إمَّا ظاهرةً وإمَّا مُحتجَبة، فالشخصياتُ المرتبطةُ بعلي، يمكن التعاملُ معها وفق منهج (فلاديمير بروب) أو وفق منهج (غريماس)، إذ لكلِّ شخصيَّة وظيفة، وكلُّ شخصية تُشكِّل متواليةً بنيويَّة مع علي، وكلُّ متواليةٍ تنطوي على حدثٍ.

أمَّا شخصية (ماجد) الشخصية الموازية لعلي، فقد بَدَت أكثر غنىً، واتساعاً من شخصيَّة علي.

إنَّ اتساعَ جغرافيةِ المكان، وازدحام الرواية بالشخصيات المُساعدة، والمُضادَّة، والموازية، قد أسهمَ في تعدُّد الأحداث، وأفضى إلى تعدُّد الأصواتِ، وتعدُّد الوحداتِ الوظيفية، ممَّا أغنى البنية التحتية للروايةِ، التي اتَّسمت بالتَّعدد والاختلاف، وكانت مكوناتُ البنيةِ التحتيةِ على نحوٍ ممَّا يلي:

١. المُكوِّن الأيدولوجي.
٢. المُكوِّن التاريخي.
٣. المُكوِّن الميثيولوجي.
٤. المُكوِّن الديني.
٥. المُكوِّن النفسي.
٦. المُكوِّن الاجتماعي.
٧. المُكوِّن الاقتصادي.
٨. المُكوِّن السياسي.

إنَّ كلَّ هذه المكوناتِ هي جزءٌ متصلٌ بالحدثِ الروائي، ولكلِّ مكونٍ آفاقُه الدلالية، يفرضُ على الناقد أن يحفرَ في أعماقه، ليكونَ مداراً للتأويلِ، ينتجُ عنه جدلٌ حادٌّ بين المُتلقِّي، والراوي.

إنَّ هذه المكوناتِ على اختلافها، هي مجموعةُ رؤىً مستقلةٍ، جاءت من الخارجِ أو من المحيط الخارجي، لتدخلَ في النظامِ الروائي، وتشتغلُ معه، وهنا يبدو لي أنَّ الكاتبَ قد حضرَ في الروايةِ أكثر من الراوي، فاحتجبَ وراء تلك المكوناتِ، ووراءَ تلك الشخصياتِ ليُقدِّم وجهةَ نظره هو، لا وجهةَ نظرِ الشخصياتِ، ربَّما أكونُ موفقاً أكثر لو قلتُ: أنَّ مجموعَ هذه المكوناتِ هي أقنعةٌ أو انعكاسٌ لرؤى الكاتبِ، فالكاتبُ يختفي وراء سوقِ الملح ليأخذَ موقفاً من الرأسمالية، ويحتجبُ وراء الشخصية التاريخية (تُبَّع)، ليُعيدَ النظرَ في تاريخيةِ الخطابِ الديني، كما أنَّه وظَّف شخصية علي وجو، ليُقدِّم وجهةَ نظرٍ أيدولوجية، تُعيدُ النظرَ في تجلياتِ الخطابِ الديني، على مستوى الطوائفِ والمذاهب، ثمَّ وظَّف المستشرق (لامبير)، وشخصية (إيزابيل)، وشخصية (الرقاش) ليكشفَ عن أزمةِ الهويَّةِ، فالهويةُ عنده مرَّة مرتبطةً بفكرةٍ اسطورية (اسطورة السوار)، ومرَّة هي وثيقة أو ورقة، ومرَّة هي لغوية أو مكانية، كما أنَّه سعى من خلالِ وظيفةِ الشخصياتِ إلى بلورةِ مفهومِ الهوية من خلالِ المكان، فاستراليا مثلاً القيمةُ فيها للإنسان لا للورق، (فإيزابيل) مثلاً من أب ألماني، وأم تشيلية وتُقيم في استراليا، (ولامبير) يُقدِّم مفهوماً للهوية مرتبطاً للمكان، ومتصالحاً مع المكان، فالهويةُ عنده ألا تشعر بالاغتراب، أي أنَّ مفهومَ الهويةِ عنده فهم الإنسان، أمَّا (الرقاش) فقد أصرَّ أن يضعَ (لامبير) مراجعَ وأصولاً لكتابه، ليكونَ لهذا الكتابِ هويَّةً، وكانت مراجعُ الكتابِ عالمية، تتمازجُ فيها الثقافات، وكأنَّ (الرقاشَ) ينحو بالهويةِ منحىً معرفيَّاً، فالمعرفةُ هي أساسُ الإبداعِ، والمعرفةُ لا هويةَ لها.

إنَّ عمر سعيد يحاولُ أن يُحطِّم النماذجَ، وأن يكسرَ ما هو قارٌّ وثابت، وهو هنا يُمارسُ فعل التفكيكِ كفلسفةٍ ومنهج، وأعني هنا تفكيكَ ما هو عَقَدِي، وما هو أيدولوجي، وما هو تاريخي، وكأنِّي به يدعو إلى إعادةِ النظرِ في ما نحسبُه قارٌّ وثابت، أو هدمِ ما هو موروث، وإعادةِ إنتاجه من جديد.

وأمَّا على مستوى البناء الروائي، فإنَّ الكاتبَ كان يبني الروايةَ، وهو على علمٍ كاملٍ باستراتيجيات السَّردِ الحديثةِ، وأساليبها، فقد كان مُلتزماً بمفاهيمِ الروايةِ الحديثةِ، ابتداءً من العتباتِ النصيةِ كما وردت عند (جيرار جينيت)، ووظائفِ الشخصياتِ كما وردت عند (بروب)، ومفهومِ العواملِ كما وردت عند (غريماس)، كما أنَّه على وعي حقيقي بما قدَّمه (باختين) عن (تشيسوفيسكي)، خصوصاً في الروايةِ المتعددةِ الأصواتِ، وقد لامس قضايا اجتماعيةً معاصرةً، مرتبطةً بالتحولاتِ السياسيةِ، والاقتصاديةِ، كالخصخصةِ، والعولمةِ، والاقتصادِ الحرِّ، كشف فيها عن جملةٍ من القضايا المُعقَّدة، كما عكست هذه الروايةُ وعيَ الكاتبِ النقدي بمفهومي: المتخيلِ، والواقعي، فعكسَ البِنى الاجتماعية ببِنية الرِّواية.

غير أنَّ الأمرَ اللافتَ للنظرِ، أنَّ الكاتبَ كان يُوجه شخصياتِه، ويملكُ زمامَ تفكيرهم، فاتَّخذهم أقنعةً للرؤى التي يحملها عن المكانِ، والزمانِ، والإنسانِ، فغيَّبَ التعددَ اللغوي، وبدَت لغةُ السردِ ذات مستوىً شعريٍّ عالٍ، فالملفوظُ لا يعكسُ جوهرَ الشرائحِ الاجتماعيةِ، فظهرت شخصيَّةُ (العود)، ولغةُ (جدة ماجد) تُشبه لغةَ (لامبير)، ولا يمكنكَ أن تفصلَ بين لغةِ (ماجد)، ولغةِ (لامبير)، فكلُّ شخصيةٍ من شخصيَّاته تعكسُ لغتها وعيه الأيدولوجي، ووعيه التاريخي، ووعيه الديني، ممَّا انعكسَ على بِنيةِ السردِ، فكنَّا إزاء ثلاثةِ أنماطٍ من السردِ: المباشر، والاستذكاري، والتاريخي، لذلك بدا الكاتبُ وأنَّه يتقمَّصُ شخصية الراوي الواصف، والرواي المُفكِّر، والراوي والناقد.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى