«لاعب الظِّل» القصصيَّةِ للكاتبة التونسية عواطف محجوب
لا يمكن لأيِّ ناقدٍ أن يقرأَ هذه المجموعةَ القصصيَّة دون أن يُحيلها إلى مرجعٍ، والأمرُ اللافتُ للانتباهِ أنَّ هذه المجموعةَ القصصيَّةَ التي تتكوَّن من ستٍ وعشرين قصَّةٍ، جاءت مُجتمعةً في كتابٍ واحدٍ، تحت عنوانِ (لاعب الظِّل).
إنَّ هذه النصوصَ القصصيَّة لا تشتغلُ وحدَها، ولا تنفصلُ عن ذاتِ كاتبِها، أو عن ثقافتِه، فكلُّ بِنيةٍ قصصيَّةٍ مُتعلِّقةٌ بأنساقٍ ثقافيَّةٍ، أو أنساقٍ أسطوريةٍ، أو أنساقٍ واقعيةٍ تكشفُ عن عميقِ ثقافةِ الكاتبِ أوَّلاً، وعن البِنى الأولى، أو البِنى البَدئيَّةِ التي نهضتْ عليها هذه القِصصُ.
وارتباطاً بعنوانِ هذه الأمسيةِ (أسطرةِ الواقعِ المُتشظِّي، وشعريَّة الخطابِ السردي في مجموعةِ لاعبِ الظِّل)، نلحظُ أنَّ الكاتبَةَ تدخلُ في حالةِ تعالُقٍ مع نصوصٍ أخرى بطريقةٍ مباشرةٍ، وواعيةٍ، وتبدو مهمةُ الناقدِ هي الكشفُ عن الكيفيةِ التي تعالقَ بها نصٌّ سابقٌ مع نصٍّ لاحقٍ، فالنصُّ السابقُ مرتبطٌ بالزَّمنِ، وسؤالِ الزَّمنِ أو سؤالِ التاريخِ، والنصُّ اللاحقُ مرتبطٌ بالواقعِ، وسؤالِ الواقعِ، وهنا لا يبدو أنَّنا نسعى إلى الأدبيَّةِ في ذاتِها، وإنَّما سيتسعُ السؤالُ أكثر حول الغايةِ الأدبيةِ، أو الغايةُ من دراسةِ الأدبِ.
ربَّما هذا السؤالُ يأخذنا بعيداً عن الجماليَّةِ، ولكن لا بدَّ من الإقرارِ أنَّ ثمَّةَ غايةً نفعيَّةً للأدبِ، ربَّما كلمةُ نفعيَّة قد تكونُ مرفوضةً عند البعضِ، لكن يبقى السؤالُ شرعيَّاً: ما الذي يمكنُ أن يُقدِّمه لنا الأدبُ؟
بالعمومِ لا يوجد أدبٌ بريءٌ، ولا يوجد أدبٌ خالٍ من رسالةٍ ما، أو من معنىً ما، وهنا تُصبح مهمةُ الناقدِ الدُّخولُ في علاقةٍ مع النصِّ، هذه العلاقةُ تبدو كحوارٍ بين وعيينِ: وعي البِنية، ووعي القارئِ، فالكاتبُ الآن أصبح خارج هذا الحوار، فالقارئُ لم يعُدْ يُحاورُ كاتباً، بل صار يحاورُ نصَّاً، أو صار يحاورُ الكتابةَ، هذه الكتابةُ لا تأخذُ معنىً نهائياً، ولا تأخذُ شكلاً نهائياً.
إنَّ النَّصوصَ المُتعاليةَ، والتي تدخلُ في علاقةٍ بنيويةٍ مع نصوصٍ سابقةٍ، تكونُ على الأغلبِ مفتوحةَ الدلالةِ، ومفتوحةً على غيرِ قراءةٍ، ويبدو لي أنَّ عواطف محجوب كانت على وعي عميقٍ بموروثها الأسطوري، هذا الوعي بالقيمةِ الرَّمزيةِ للأسطورةِ جعلها تحولُّها إلى دالٍّ، هذا الدَّالُ يعكسُ ماهيَّةَ الشَّخصيةِ التي تقومُ عليها القصَّةُ، وقد ظهرَ هذا الأمرُ في قصَّتها (شارون)، فشارون هو إلهُ الموتِ، وقد جاءت هذه القصَّةُ لتُعبِّرَ عن فلسفةِ الموتِ، وعن ثقافةِ الموتِ، من خلال السُّؤالِ الوجودي: ما معنى الموتِ؟
ونلحظُ هنا أنَّ فكرةَ الموتِ جاء من خلال الطُّفولةِ، وقد آثر الطِّفل أن يجعلَ فرخَ الدَّجاجة دالَّاً لفلسفةِ الموتِ، واعتبارِ الطَّريقُ الوحيدُ لزيارةِ الله هو الموتِ، ويبدو لي أنَّ هذا الاستنتاجَ أكبرُ من عقليَّةِ الطِّفلِ، وهنا يتجاوزُ السُّوالُ الأسطورة، ليسألَ الدِّينَ، والثقافةَ، والموروثَ، كما أنَّه من نحوٍ آخر مرتبطٌ بفلسفةِ التناسخِ، ولكن على صورةٍ عبثيَّةٍ، فكلُّ فرخٍ يموتُ، يموتُ شخصٌ آخر.
هنا نلحظُ أنَّ عواطف محجوب من نحوٍ ما تُعيدُ أسطرةَ الأسطورةِ، وتسعى إلى إنتاجِ أسطورةٍ تحاكي الواقعَ، ربَّما لتذهبَ إلى سؤالٍ أعمقَ، وهو السؤالُ الذي يكشفُ عن أقنعةِ الإرهابِ، فالموتُ هنا يبدو جميلاً ومُغرياً، كما يظهرُ من حوارِ الطِّفلِ مع أخته الصُّغرى: متى تزورين الله؟ متى تلبسين الأبيض؟ إذن فالسُّؤال هنا باتَ مشروعاً، مَن الذي صوَّر الموتَ على هذا النَّحو، وجعل الموتَ أشبه بالزَّفافِ، إنَّه موتٌ نشاهده الآن في واقعنا.
وفي قصَّةِ (المهجوس)، تستخدمُ عواطف محجوب تقنيةَ الحُلمِ، أو لنقُل تقنيةَ الكابوسِ، فتنبني القصَّةُ كلَّها وفقَ تجليَّاتِ السِّرياليَّةِ، وتأخذكَ نحو العبثيَّةِ، ومقاربةِ فلسفةِ الوجودِ، والعدمِ، لتُنتجَ مقاربةً للواقعِ، فهذا الواقعُ يُشبهُ صورةَ هذا المهجوسِ، الذي استقرَّ دماغَه في حذائه، فلا فرقَ بين الحذاءِ، والجمجمةِ، فالحذاءُ صار بديلاً عن الجمجمةِ، وصار صورةً عن واقعٍ مقلوبٍ مُشوَّه، فالنَّاسُ كلُّها تمشي على رؤوسِها، والناسُ كلُّهم يصرخون احتجاجاً على الظُّلم، والإسفلت غرقَ من فيضِ القيحِ، والدمِ، والقيء، ولكن هناكَ طيفٌ يمشي ضدَّ التيَّارِ، لعلَّ هذا الطَّيفَ يُسهمُ في نزعِ الحذاءِ، ليبقى الرأسُ خارج هذا الحذاءِ.
إنَّ عواطف محجوب تُقدِّمُ هنا صورةً عبثيَّةً لواقعٍ غامضٍ، ومُشوَّهٍ، ومأزومٍ.
وتلحُّ على عواطفَ فكرةَ الخلاصِ، غير أنَّها لا تنفصلُ عن مفهومها للعدمِ، وعبثيةِ هذا الوجودِ، وكأنَّنا في واقعٍ سرياليٍّ، لا يتحدَّثُ فيه الأشخاصُ، بل يتحدثُ ظلالهم، ولكن على شكلِ ثرثرةٍ، والثرثرةُ تدخلُ في بابِ سقطِ الكلامِ، ولعلَّها هنا تُحاكمُ ثنائيةَ الفكرِ والدِّين، أي ما هو من إنتاجِ البشرِ، وما هو من إنتاجِ الله.
ظلُّ ابن خلدون هو الرَّمزُ المُطلق للمثقَّف، وظلُّ يسوع هو رمزٌ للأنبياءِ، وبالنهايةِ كانت الثورةُ أعلى من سلطةِ المُثقفِ، وأعلى من سلطةِ الدِّين، أي أنَّ مصيرَ الإنسانِ يُحقِّقه الإنسان، فليبقَ ابن خلدون متلفِّعاً ببردتِه، وليبقَ يسوع في هدوئه، فالخلاصُ في الشَّارع، والخلاصُ في الثورةِ، والخلاصُ لا يكونُ إلَّا بالدَّمِ، ولكن يبقى السُّؤالُ سجينَ ثنائيَّتينِ ضدِّيَّتينِ: هل ما يحدثُ هو ثورةٌ أم فوضى؟
باختصارٍ: الأقوى هو الذي يأكلُ الكعكةَ، والضعيفُ إمَّا أن يغرقَ في الجهلِ، أو في الصلاةِ، والسُّؤالُ ما زال قائماً: هل هي ثورةٌ أم هي فوضى؟
إنَّ هذه الثنائيَّةَ تظهرُ أيضاً في قصَّتها (لوسيفر)، التي تتعالقُ تعالُقاً خفيَّاً مع كتاب (فاوست) الذي نشره جيسون كولا فيتو في فرانكفورد، وكيفيَّةِ استحضارِه لروحِ ميفيستو فيليس، أحد الشَّياطينِ السَّبعةِ.
وقد استوحت عواطف محجوب فكرةَ الشيطانِ، واستحضرته عبر لوحةٍ فنيةٍ، وكأنَّ اللوحةَ عندها أشبهَ بنافذةٍ على العالمِ، وقد وظَّفت هذا اللوحةَ في قصَّتها (لكنَّه مازوشي)، فجاءت هذه القصةَ لتُجسِّدَ الصِّراعَ بين ما هو ديني، وما هو شيطاني، ولتكشفَ أيضاً من خلالِ قصَّةٍ واقعيَّةٍ بطلُها إمامُ مسجدِ جامعِ المُرسي، الذي عبثَ بالمسجدِ، واكتُشف من خلالِ جوَّاله عن تحرُّشه بفتاةٍ.
إنَّ استحضارَ حكايةِ (فاوست) على هذا النَّحو جاء مُنسجماً مع فكرةِ الشَّيطانِ والإمامِ، وهو تناصٌّ خفيٌّ، يحتاجُ إلى حفرٍ لاكتشافه، وعواطف من الكُتَّابِ القلائلِ القادرةُ على إعادةِ إنتاجِ النُّصوصِ الموازيةِ لتشتغلَ في بِنيةِ السَّردِ عندها، وتُقدِّم رؤيةً جديدةً للعالمِ من خلال إجراءِ تحوُّلاتٍ على بِنيةِ السَّردِ، وعواطف أيضاً واعيةٌ جداً بما تكتبُ، لأنَّها تعي تماماً وحشيَّةَ هذا العالمِ وجنونه، بالرَّغم من أنَّه يُعلي من قيمِ الحضارةِ والإنسان، غير أنَّ هذا الفعلَ الحضاريَّ ما زال يحكمُه عقلٌ وحشي.
إنَّ وعيها العميقَ بفلسفةِ الوجودِ والعدمِ والعبثِ، ووعيَها الذَّكي بمُخرجاتِ التحليلِ النفسي، دفعَها نحو أسطرةِ شخصيَّاتِها كما يظهر من قصةِ (شيزوفرينيا)، التي تتعالقُ مع قصَّتها (المهجوس)، فهناك نلحظُ أنَّ العقلَ في الحذاءِ، لكن في هذه القصةِ التي تنفذُ من خلالها إلى نقدِ الحضارةِ، نلحظُ أنَّ شخصيَّةَ البطلِ تتحوَّلُ، إذ يحتلُّ رأسَه وجهُ حمارٍ كبيرٍ ليملأَ هذا الخواء في عقله، يبدو أنَّ عواطف تُدرك تماماً أنَّ الأجهزةَ الذكيةَ قد جعلت العقلَ البشريَّ في حالةِ خواء.
وهنا تحضرُ صورةُ الخرافةِ، والعقلُ البدئي حينما تذهبُ به أُمُّه إلى العرَّافينَ، وحينما تُمارسُ طقوسَ الخرافةِ يحترقُ المشفى، ويحترقُ العالمُ. إذن نحن في عالمٍ مجنونٍ منفصمٍ ومتشظٍّ.
هذه هي عواطف محجوب في كلِّ قصصها، تُواجِه عالماً مشوَّهاً، غير قادرٍ على إحداثِ التغييرِ.